مأرب برس:
2025-05-19@13:27:13 GMT

أول وكيل ذكاء اصطناعي حقيقي، زلزال صيني جديد

تاريخ النشر: 10th, March 2025 GMT

أول وكيل ذكاء اصطناعي حقيقي، زلزال صيني جديد

 

 فيما لا تزال ارتدادات "ديب سيك" تهز الأوساط المالية والتقنية في الولايات المتحدة، اطلقت الشركة الناشئة الصينية "مونيكا" وكيل الذكاء الاصطناعي المستقل "مانوس AI"، ما يعد تقدما كبيرا نحو تحقيق الذكاء الاصطناعي العام وصفعة جديدة للتفوق الأميركي في المجال.

ويعد "مانوس"، وكيل ذكاء اصطناعي ثوري قادر على التفكير والتصرف بشكل مستقل.

مما سيحدث صدمة في مجتمع الذكاء الاصطناعي العالمي، ويعيد إشعال نقاش مستمر منذ عقود:

ماذا يحدث عندما يتوقف الذكاء الاصطناعي عن طلب الإذن ويبدأ في اتخاذ قراراته الخاصة؟ و"مانوس" ليس مجرد روبوت محادثة آخر، ولا هو مجرد محرك بحث محسن بواجهة مستقبلية.

إنه أول وكيل ذكاء اصطناعي مستقل بالكامل في العالم، نظام لا يساعد البشر فحسب، بل يحل محلهم.

بدءًا من تحليل المعاملات المالية إلى تقييم المرشحين للوظائف، يتنقل "مانوس" في العالم الرقمي دون إشراف، ويتخذ قرارات بسرعة ودقة تفوق حتى أكثر المهنيين خبرة.

إنه، ببساطة، عقل رقمي متعدد المهارات، قادر على إدارة المهام عبر مختلف الصناعات دون عوائق التردد البشري.

لكن كيف تمكنت الصين، التي غالبًا ما تُعتبر متأخرة عن الولايات المتحدة في الأبحاث الأساسية للذكاء الاصطناعي، من إنتاج شيء لم يكن حتى وادي السيليكون سوى ينظّر بشأنه؟

والأهم من ذلك، ماذا يعني ذلك لمعادلة القوة في الذكاء الاصطناعي؟ لحظة "ديب سيك" الثانية في أواخر 2023، أثار إطلاق "ديب سيك"، وهو نموذج ذكاء اصطناعي صيني مصمم لمنافسة "جي بي تي-4" من "أوبن أي آي"، ضجة كبيرة ووُصف بأنه لحظة "سبوتنيك" الصينية في مجال الذكاء الاصطناعي.

كان ذلك أول مؤشر ملموس على أن الباحثين الصينيين يسدّون الفجوة في قدرات نماذج اللغة الكبيرة.

ولكن "مانوس" يمثل شيئًا مختلفًا تمامًا—فهو ليس مجرد نموذج آخر، بل وكيل ذكاء اصطناعي قادر على التفكير والتخطيط وتنفيذ المهام بشكل مستقل، ويتفاعل مع العالم الحقيقي بسلاسة شبيهة بمتدرب بشري بقدرة انتباه غير محدودة. الفرق بين "مانوس" ونظرائه الغربيين هذا ما يجعل "مانوس" مختلفًا عن نظرائه في الغرب.

فبينما يعتمد "تشات جي بي تي-4" و"جيميني" من غوغل على توجيهات بشرية لإرشادهم، لا ينتظر "مانوس" الأوامر.

بل تم تصميمه لبدء المهام تلقائيًا، وتقييم المعلومات الجديدة، وضبط نهجه ديناميكيًا. إنه، بكل المقاييس، أول وكيل ذكاء اصطناعي عام حقيقي.

على سبيل المثال، عند إعطائه ملفًا مضغوطًا يحوي سير ذاتية، لا يكتفي "مانوس" بترتيب المرشحين، بل يقرأ كل سيرة ذاتية، يستخرج المهارات ذات الصلة، يربطها باتجاهات سوق العمل، ويقدم قرار توظيف مثاليًا—بما في ذلك إنشاء جدول بيانات تلقائيًا.

وعند إعطائه أمرًا غامضًا مثل "ابحث لي عن شقة في سان فرانسيسكو"، لا يكتفي بعرض نتائج البحث، بل يأخذ بعين الاعتبار معدلات الجريمة، واتجاهات الإيجار، وحتى أنماط الطقس، ليقدم قائمة مختصرة من العقارات المتناسبة مع تفضيلات المستخدم غير المعلنة.

عامل مجتهد وغير مرئي لفهم "مانوس"، تخيل مساعدًا غير مرئي يمكنه استخدام الحاسوب تمامًا كما تفعل—فتح علامات تبويب المتصفح، ملء النماذج، كتابة الرسائل الإلكترونية، برمجة البرمجيات، واتخاذ قرارات في الوقت الفعلي. لكنه، على عكسك، لا يشعر بالتعب أبدًا.

يكمن مفتاح قوته في بنيته متعددة الوكلاء.

فبدلًا من الاعتماد على شبكة عصبية واحدة، يعمل "مانوس" كمدير تنفيذي يشرف على فريق من الوكلاء المتخصصين.

وعند تكليفه بمهمة معقدة، يقسم المشكلة إلى أجزاء قابلة للإدارة، ويوزعها على الوكلاء المناسبين، ويراقب تقدمهم.

تُمكّنه هذه البنية من تنفيذ عمليات متعددة المراحل، والتي كانت تتطلب سابقًا ربط عدة أدوات ذكاء اصطناعي معًا يدويًا.

كما أن تشغيله السحابي غير المتزامن يُحدث نقلة نوعية.

فبينما تحتاج المساعدات الافتراضية التقليدية إلى تفاعل المستخدم المستمر، يعمل "مانوس" في الخلفية، وينبه المستخدم فقط عند جاهزية النتائج، مثل موظف فائق الكفاءة لا يحتاج إلى إشراف مستمر.

صدمة جديدة لوادي السيليكون لعدة سنوات، تمحور السرد السائد في الذكاء الاصطناعي حول الشركات التقنية الأمريكية الكبرى—"أوبن أي آي"، "غوغل"، "ميتا"—وتطويرها لنماذج لغوية أقوى.

وكان الاعتقاد السائد أن من ينجح في بناء روبوت المحادثة الأكثر تقدمًا، سيسيطر على مستقبل الذكاء الاصطناعي.

لكن "مانوس" قلب هذا التصور رأسًا على عقب. فهو ليس مجرد تحسين لنماذج الذكاء الاصطناعي الحالية، بل يمثل فئة جديدة من الذكاء، حيث يتحول الذكاء الاصطناعي من دور المساعد السلبي إلى الفاعل المستقل. والأهم من ذلك، أنه نظام صيني بالكامل.

أثار هذا التطور موجة قلق في وادي السيليكون، حيث اعترف قادة الذكاء الاصطناعي بهدوء أن اندفاع الصين نحو الأنظمة المستقلة يمكن أن يمنحها ميزة ريادية في قطاعات حيوية.

الخوف هنا هو أن "مانوس" يمثل بداية عصر "تصنيع الذكاء"—نظام شديد الكفاءة لدرجة أن الشركات ستضطر إلى استبدال العمالة البشرية بالذكاء الاصطناعي، ليس بدافع الرغبة، بل بدافع الضرورة الاقتصادية.

التحديات التنظيمية والأخلاقية ومع ذلك، يثير "مانوس" أيضًا أسئلة أخلاقية وتنظيمية عميقة.

ماذا يحدث عندما يتخذ وكيل ذكاء اصطناعي قرارًا ماليًا يؤدي إلى خسائر بملايين الدولارات؟ أو عندما ينفذ أمرًا بشكل خاطئ، مما يؤدي إلى عواقب وخيمة في العالم الحقيقي؟

ومن يتحمل المسؤولية عندما يتخذ نظام مستقل، مدرب على العمل دون إشراف، قرارًا خاطئًا؟ حتى الآن، لم تحدد الجهات التنظيمية الصينية، التي كانت تاريخيًا أكثر مرونة في تجربة تقنيات الذكاء الاصطناعي، حدودًا واضحة لاستقلالية الذكاء الاصطناعي. أما الجهات الغربية، فهي تواجه تحديًا أكبر:

إذ تفترض أطرها التنظيمية الحالية أن الذكاء الاصطناعي يتطلب إشرافًا بشريًا، وهو ما يناقضه "مانوس" تمامًا.

مستقبل غير مؤكد في الوقت الحالي، السؤال الأكبر ليس ما إذا كان "مانوس" حقيقيًا—فالأدلة قاطعة—بل مدى سرعة بقية العالم في اللحاق بالركب. لقد بدأ عصر وكلاء الذكاء الاصطناعي المستقل، والصين تتصدر المشهد.

وبينما تواصل الشركات الغربية إعادة تقييم استراتيجياتها، قد يصبح من الضروري إعادة التفكير في معنى العمل، والإبداع، والمنافسة في عالم لم يعد فيه الذكاء حكرًا على البشر.

من بين ميزاته الرئيسية، يستطيع "مانوس AI" تنفيذ مجموعة واسعة من المهام مثل كتابة التقارير، إنشاء الجداول، تحليل البيانات، والتخطيط للرحلات، دون الحاجة إلى تدخل بشري متواصل.

كما أنه قادر على معالجة أنواع مختلفة من البيانات، بما في ذلك النصوص، الصور، وأكواد البرمجة، مما يجعله بالغ المرونة.

علاوة على ذلك، يمكنه التكامل مع أدوات خارجية مثل متصفحات الويب، محررات الأكواد، وأنظمة إدارة قواعد البيانات، مما يعزز من كفاءته. كما يتعلم "مانوس AI" باستمرار من تفاعلاته مع المستخدمين، مما يسمح له بتقديم استجابات أكثر تخصيصًا وفعالية بمرور الوقت.

حقق "مانوس AI" أداءً استثنائيًا في اختبار GAIA، وهو تقييم شامل لقدرات وكلاء الذكاء الاصطناعي على حل المشكلات الواقعية. وقد تفوق على نماذج رائدة مثل "جي بي تي-4" من "أوبن أي آي"، مما يبرز مهاراته المتقدمة في التفكير المنطقي، ومعالجة المدخلات متعددة الوسائط، والاستخدام الفعّال للأدوات الخارجية.

بفضل قدرته على تنفيذ المهام بشكل مستقل، من المتوقع أن يُحدث "مانوس AI" ثورة في عدة مجالات، بما في ذلك أتمتة العمليات التجارية، تحليل البيانات، تطوير البرمجيات، وإنشاء المحتوى.

حتى الآن، لم يتم إتاحة "مانوس AI" لعامة الجمهور، حيث تم اختباره فقط من قبل عدد محدود من المستخدمين بعد تقديم طلب للشركة المطورة.

وقد تم استخدامه بنجاح في مهام الأتمتة، وتحليل البيانات، وإنشاء المحتوى، واتخاذ القرارات، مما ساعد المستخدمين على زيادة إنتاجيتهم. وعلى عكس "جي بي تي-4"، الذي يقتصر على تقديم الاقتراحات، فإن "مانوس AI" قادر على تنفيذ المهام بشكل مستقل تمامًا، مما يجعله مساعدًا قويًا ومتعدد الاستخدامات. وقد تم تطويره من قبل الشركة الصينية "مونيكا"، المتخصصة في إنشاء وكلاء ذكاء اصطناعي مستقلين من الجيل الجديد

المصدر: مأرب برس

إقرأ أيضاً:

الذكاء الاصطناعي.. وصياغة التاريخ الموازي

منذُ أن بَزغَ فجرُ الخوارزميّات الذكيّة القادرة على إنتاج اللغة والصورة والمرئيات بقدراتٍ تُحاكي مخيّلة الدماغ البشريّ، انفتحتْ لنا نافذةٌ غير مسبوقة على ما يمكن أن نسمّيه «مجرَّة الاحتمالات التاريخيّة» الذي نقصد به الفضاء اللامتناهي من السيناريوهات التي لم تقع، ولكنها -لو وقعَتْ- لكان بوسعها أن تُبدِّل من مسار الحضارات الإنسانية وصورتها، ولعلّ ما نطلق عليه بـ«التاريخ الموازي» أو بـ«التاريخ المضاد» (Counterfactual History) يثير شغفنا باعتباره حقلًا نظريًّا ينشطُ حِينًا ويخبو أحايينَ؛ فيستهوي بعضَ المؤرِّخين والفلاسفة عبر طرح أسئلة تخالف أبجديات التاريخ وقواعده الثابتة، مثل: ماذا لو لم يُقتل يوليوس قيصر؟ ماذا لو انتصر العربُ في بلاط الشهداء؟ ماذا لو أُجهِضت الثورةُ الصناعيّة في مهدها؟ ماذا لو انتصر العربُ في حرب 1967 أو قبلها في حرب 1948؟ بيدَ أنّ هذه التساؤلات ـ قبل ظهور الذكاء الاصطناعي ـ كانت تنتمي إلى ضربٍ من العبث العقلي أو التأمّل الفلسفي غير الخاضع للقياسات المنطقية؛ إذ يفتقر الباحثُ إلى أدواتٍ تجريبية تمنحه القدرة على إخضاع مثل تلك الفروض لاختبارٍ شبه علمي.

لكننا اليوم، ومع تطوّر نماذج المحاكاة القائمة على خوارزميات التعلّم العميق والشبكات العصبيّة، أضحى بإمكاننا أن نزوّد هذه الخوارزميات الذكيّة بمكتباتٍ ضخمة من الوقائع، والمعطيات الاقتصاديّة، والديموغرافيّة، ونُطلقها لتُنجِزَ ملايينَ المحاكاة التي تتعقّبُ التغيّر البنيويّ لحدثٍ واحدٍ إذا انحرفَ عن مساره قيدَ أنملة؛ ليغدو الذكاءُ الاصطناعي أداةَ «إحياء» لا للتاريخ كما كان، ولكن للتواريخ الممكنة التي لم تكن؛ فيمدّنا بسرديّاتٍ بديلة تُظهِر مآلاتٍ تقترن بزمنٍ متخيَّل، ولكنها مُرتكَزةٌ علميًّا على نماذج سببيّة واحتمالات دقيقة. من المعلوم أن المؤرِّخَ التقليديّ يعتمد على الوثائق والشهادات والآثار المادّيّة، وبمعنى عام، يكون اعتماده على ما تبقّى من الأثر في الزمن، ولكنّ الخوارزميّات تُضيفُ إلى هذا الثالوث بُعدًا رابعًا، سنطلق عليه «الاحتمال المُحاكَى»؛ لتُرَكِّب بُنيانًا من البيّنات وتنسج خريطة علاقات سببيّة، ثمّ تُعطى حرّيّة تعديل عقدةٍ واحدة من عقد هذه الشبكة لترى كيف سيُعاد ترتيب الأنماط؛ فإذا أبدلنا نتيجةَ معركةٍ حاسمة أو قُيِّض لقائدٍ ما أن ينجو من الاغتيال؛ تدحرجت التأثيراتُ كسلسلة «دومينو» في نموذج رياضيّ يمكن تتبّعه عدديًّا وصُوَريًّا.

لا أستبعد أن يقول قائلٌ: أليست هذه مُغالاة في الثقة بقدرة الآلة -الذكاء الاصطناعي- في إعادتها لصياغة الأحداث ومساراتها المستقبلية؟ بلى، ويبقى الحذرُ واجبًا؛ فلا يملك الذكاء الاصطناعي معرفةً واعيةً بالماضي، وإنما يتوقّع تركيب الأنماط ويعيد تصميمها وفقًا لما لُقِّنَ من بيانات. غير أنّ قيمته الحقيقية لا تكمن في المطابقة القطعيّة ولا في النبوءة الغيبيّة، ولكن في أنّه يوفّر لنا «مِرآةً مُفترَضة» نعكس عليها تصوّراتنا؛ فنقارن بينها وبين الوقائع الحقيقيّة؛ لنفهمَ بشكل أعمق قانونَ الصدفة والضرورة في التاريخ.

تفترض التصوراتُ العقلية أنه حين تُمنح المجتمعاتُ الإنسانية فرصةَ الاطّلاعِ على سرديّات بديلة وفق المحاكاة العلمية؛ فإن بنيةَ الوعي تتغيّر وفقَ عدة سُبل، وأول هذه السبل أن ينكسر وَهْمُ الحتميّة التاريخيّة؛ إذ يدرك الفرد الإنساني أنّ المسارات الكبرى ليست قدَرًا محتومًا، وإنما حصيلةُ قراراتٍ بشريّة قابلةٍ لأن تُسلكَ أو تُستبدَل وتتفاعل مع قانون السببية والاحتمالات الكونية المتعددة، ويُحرّر مثل هذا الإدراك طاقاتٍ سياسيّة جديدة، لأنّ الفرد يرى في الحاضر مفصلًا مفتوحًا، لا ذيْلًا مقطوعًا من ماضٍ مكتوبٍ على حجر. ثاني هذا السبل أن تُسهم هذه «الواقعات المضادّة» في توسيع مخيّلة «المظلوميّات التاريخيّة»؛ فيمكن للشعوب التي تعرّضت للاستعمار أو الإبادة أن تجد ـ عبر المحاكاة ـ صورًا من التاريخ النزيه الذي حرمها إيّاه المنتصرون «المعتدون»، ولا يعني ذلك استبدال الماضي بحلم منزوع الواقعية، وإنما يكون عن طريق توزيع حسّ العدالة الرمزيّة؛ ليُعطي الضحيّةَ أفقًا روحيًّا للتعافي الجمعيّ. ثالث هذه السبل، نراه فيما يخص حقل علوم السلوك السياسيّ؛ حيثُ توفّر هذه النماذج مختبرًا افتراضيًّا لاختبار السياسات قبل تطبيقها؛ فيمكن لمحاكاةٍ مستندةٍ إلى تاريخٍٍ بديلٍ أن تكشفَ مخاطرَ أو فرصًا ما كانت لتظهر بالتنبّؤ الاستنباطيّ وحده.

يُعيدنا هذا كلّه إلى سؤالٍ جوهري: ما مفهومنا للتاريخ؟ هل هو تسلسلُ ضروراتٍ تحدّدها بنيةُ الأنظمة الاقتصاديّة والطبيعيّة؟ أم أنّه رقصة الاحتمالات حول محورٍ من القرارات الإنسانيّة الحرّة؟ لا أملك إجابات حتمية لهذه الأسئلة، ولكن جلَّ ما أدركُه أنّ الذكاءَ الاصطناعي ذو قدرةٍ على تمثيل آلاف الشُعَب الزمنيّة؛ ليوغل بنا في رؤيةٍ «كوسمولوجيّة»، حيثُ يتجاور الماضي الواقعيّ مع أطيافٍ لا تُعدّ من الأزمنة المحتملة، وتصبح سلسلة الوقائع أشبهَ بمتعدِّدٍ «طوبولوجيّ»، لا خطًّا مستقيمًا. هنا يلتقي العلمُ بالرياضيات الإحصائيّة مع الفلسفة القاريّة في نقدها لفكرة «التقدّم الخطيّ»، ويلتقي أيضًا مع قواعد الفيزياء الكوانتمية التي ترى الواقعَ «دالة موجيّة» تتقلّص إلى حدثٍ واحدٍ يعكس الوجود اللحظي الذي نعيش فيه؛ فالاحتمالات وفقَ النظام الكوانتمي متعددة ولها عوالمها الموازية التي تشمل ما نسميّه بالتاريخ الموازي.

في حالة مغايرة تستدعي يقظة وعينا، نجد أنّ فتح بوّابة «التواريخ البديلة» ليس فعلًا عادلا محضا؛ فيمكن لبعض الأنظمة السياسيّة أو الاقتصاديّة أن توظّفها لصنع سرديّات ترويجيّة تتلّبس بلباس العلم؛ فتختار المعطيات وتُعيد وزنها لتصيغ مستقبلًا مرغوبًا؛ فتدّعي أنّه المسار «الأكثر ترجيحًا»؛ فتتقاطع -حينها- المحاكاة مع تصورات الرأي العام، وتصبح الخطورةُ كامنةً في قدرة الخوارزميّة على إنتاج قصصٍ «مقنِعةٍ» بصريًّا ولسانيًّا تؤثّر في اللاوعي الجمعيّ أكثرَ من الخُطب والشعارات، وحينها يتطلب الأمر صياغة مواثيق أخلاقيّة تُنظّم استعمال هذه التقنيات؛ لتوثّقَ مصادرَ البيانات، وتُعلن افتراضات النموذج، وتمنح الباحثين تدقيق التصوّر الخوارزمي للمسار التاريخي ونموذجه المستوحى والمُحاكَى؛ لنتجنب عدم تحوّل المحاكاة من مختبرٍ معرفيّ إلى «مصنع أوهام» تخدم مصالح مجتمعات على حساب مجتمعات أخرى.

لابد أن نقرَّ أن الإنسان -بإرادته وتفوّقه العلمي- منح الذكاءَ الاصطناعي قدرةً غير مسبوقة على تفكيك الزمن وإعادة ترتيبه وفقَ رغبات الإنسان نفسه، لا لنهرب من الماضي، ولكن لنعيد تأويله ونكشف هشاشته، ولهذا من العدالة أن نتصور أنّ إحياء الواقعات المضادة ليس تمرينًا سرديًّا فحسب؛ ولكنّه مشروعٌ معرفيٌّ يعيد الإنسانَ إلى مركز الفعل التاريخيّ بعد أن ظنّ أنّه أسيرُ قَدَرٍ اقتصادي أو سياسي أو جينيّ، وإذا كانت الفلسفة ـ كما يقول الفيلسوف الألماني هوسرل ـ «علم البدايات المطلقة»؛ فإنّ هذه التقنية يمكن أن تمنحنا بدايةً جديدةً للتفكير في التاريخ: لا باعتبارها تراكم ما حدث، ولكن باعتبارها فضاء لما كان يمكن أن يحدث، ولا يزال بعضُه ممكنًا في مستقبلٍ لم يحن موعده بعد. هكذا، حين نجعل من الخيال المُحاكَى مختبرًا للعقل؛ فإننا نستعيد القدرةَ على السؤال، ونوسّع مساحةَ الحريّةِ العقلية ومخيّلته، ونمنح الأجيالَ القادمة وعيًا أكثر مرونةً واستعدادًا لكتابة فصولٍ أقلّ بؤسًا؛ فالذكاء الاصطناعيُّ، إن حَسُن استعماله؛ فإنه يُعيدنا إلى تلك اللحظة «البروميثيوسيّة» الأولى حين سرق الإنسانُ الأول النارَ من الآلهة -وفقَ خيالات الأدب الأسطوري القديم-؛ ولكنّ نارَ الاحتمالات -كما في معرض مقالنا وفرضياته المذكورة- لا تحرق، وإنما تُضيء ممرات التاريخ المظلمة؛ فترشدنا إلى دروبٍ ما كانت لتُعرفَ لولا رياضيات الخيال الخوارزميّ وملاحمه التاريخية القابلة لإعادة أحداثها ومساراتها.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

مقالات مشابهة

  • حكومة بريطانيا تدخل أداة ذكاء اصطناعي في خدماتها العامة
  • مايكروسوفت تعترف بتقديم خدمات ذكاء اصطناعي لجيش الاحتلال الإسرائيلي
  • الذكاء الاصطناعي يحوّل الصور إلى فيديوهات عبر «تيك توك»
  • الذكاء الاصطناعي.. وصياغة التاريخ الموازي
  • آيفون 20.. تصميم زجاجي بالكامل وقدرات ذكاء اصطناعي مذهلة في الطريق
  • برنامج ذكاء اصطناعي صيني يثير قلق أميركا.. ما القصة؟
  • مخاوف أميركية من صفقة "ذكاء اصطناعي" بين أبل وعلي بابا
  • فيديو ذكاء اصطناعي يثير تفاعلا خلال قمة المجموعة السياسية الأوروبية
  • الذكاء الاصطناعي لن يُقصي أطباء الأشعة
  • مهرجان كان: الذكاء الاصطناعي مهم في السينما