لجريدة عمان:
2025-10-14@03:27:29 GMT

كيف زيِّفت أوروبا ذاتها الحضارية؟!

تاريخ النشر: 15th, March 2025 GMT

••هل تنهض المجتمعات لخصائص ثقافية متأصلة فيها أم يعود الأمر لسبب آخر؟ إن هذا السؤال يحتل موقعاً مركزياً في البحوث الاجتماعية المعاصرة، ويراد به فحص الجدل الدائر حول أسباب النهضة والتقدم الاجتماعي، ولعل طرحه يعود لفترة أقدم حين اطمئن علماء الأنثروبولوجيا إلى فرضية علاقة القيم الثقافية بقضية النهضة في الحياة الاجتماعية من مناحيها كافة، فالبعض منهم وضع شرطاً أساسياً لتركيز عمليات النهضة، وهو تحصيل التعليم وبناء المؤسسات، ولكن أكبر انعطافة هددت وثوقيات الاجتماعيين حول دور القيم الثقافية واعتبارها المرتكز الأساس في نهضة الشعوب، كانت على يد جاك غودي (توفي 2015م) الأنثربولوجي الإنجليزي والمحاضر الأشهر في جامعة كمبريدج، وغودي ومنذ الستينيات حين أصدر كتابه «محو الأمية في المجتمعات التقليدية «1968م» استطاع هدم الأساس الذي تقوم عليه المركزية الأوروبية ابتداءً من عصر النهضة وحتى الآن، وهي فرضة تشدد على أن ثمة خصائص «أوروبية بالطبع» موروثة من الحضارات اليونانية واللاتينية ثم من الأديان يهودية ومسيحية كلها هي التي مكَّنت لهذا الغرب من إنجاز عمليات النهضة، وما أعاق هذه العمليات في المجتمعات الأخرى هو فقدانها هذه الخبرة الثقافية المستندة إلى العقلانية والتي تنتشي فيها روحانية الشرق، وبذا فإن العالم الغربي تقدم لأنه صنع تاريخاً علمياً تسنده قيم ثقافية مكتسبة من سياق معرفي خاص، هو سياق الذات الغربية من اليونان وحتى عصر التنوير لينتج نهضةً ثقافية شاملة، أما غودي فإنه يقف على النقيض من ذلك تماماً، ويرى أن هذه السردية معرضة دائماً إلى التزوير وطغيان الأنا أكثر منها حقيقة اجتماعية، ليقول في تحليله أن تقدم جزء من العالم في الوقت الذي يتزامن معه ركود في أجزاء أخرى لا يعود إلى الخصائص الثقافية المتأصلة في طرف وغائبة في آخر، بل إن مسألة التقدم خاضعة وباستمرار لديناميكيات يمكنها أن تتوفر وفق عمليات مستمرة من التحديث الذاتي.

•وغودي نشر في العام 2007م كتابه «سرقة التاريخ» وهو بيان متماسك عن الكيفية التي استطاعت بها أوروبا أن تنسب لنفسها تراثاً علمياً لا يخصها بالدرجة الأولى، بل الأمر يشبه «السرقة» وأنها بموجب هذا التراث المركب بعنف التدوين بنت عليه قيماً إنسانية، قالت أنها أوروبية، أوروبية فقط، ويشير غودي إلى أن هذه المركزية أجبرت بقية العالم على ارتداء أقنعة تفكير لا تبصر معالم للتقدم إلا من وجهة نظر غربية في الأساس، واستمراراً في مشروعه صدر كتابه «الشرق في الغرب» والذي يعد نظرية في فضح الإدعاء الغربي بامتلاك العالم وصناعته بل وصياغة قيمه بشكل أحادي ومطلق، وقد صدر هذا الكتاب في نسخته العربية بترجمة محمد الخولي، والحقيقة أنه لا عذر لمن يشتغلون في المسألة الاجتماعية متخصصون ومهتمون من الإطلاع عليه ودراسته ونقده، وذلك للفائدة العظمى، ليس فقط كونه يفضح عمليات التنهيب التي مارستها أوروبا على العالم، وكيف صنعت أقانيم خالدة تحط من قدر كل ما هو غير أوروبي، بل الفائدة الأكبر تعود إلى كونه منجز محكم التأسيس قوي الحجة، ولدقة أحكامه فإنه يطرح التساؤل حول، متى أصبح الأوروبيون على وعي بتفوقهم بالنسبة إلى سائر الأمم؟» وفي إجابته عن هذا السؤال يقدم لنا مادة تحليلية عميقة وذات تكوين متسق يفسر بها بعض المقولات التي صنعت هذا التمايز، بل ويقوم بتفكيكها بشكل منهجي عظيم. ويستمر الرجل في هدم التصورات الأوروبية حول مركزية الغرب ضد الشرق، ويرى أن حضارات أوروبا وآسيا نشأتا من أصل واحد، بل ويرى في منجزات الفكر السياسي الأوروبي المرتبط بتطور ظاهرته الاجتماعية كونها استندت على ترسانة فكرية هي أسس عمليات التطور الاقتصادي، فإنه يرى من ضمن مقولاته الهادمة لخديعة الغرب بأن الديموقراطية ليست صناعة غربية، فهو يرى أنه إذا كان القرن الخامس عشر هو بدايات هيمنة أوروبا على العالم، وهي هيمنة أفصحت عن نفسها بمقولة رئيسة وهي أن الشرق المتخلف يحتاج إلى النهضة، والتي لن تتم إلا على يد الغرب، فإن وسم الشرق بالتخلف لا يعدو إلا عملية احتيال ممتازة العرض، فالصين ظلت البلد الأقوى في صناعة البارود منذ زمن بعيد، وهي الصناعة التي مكنت لأوروبا التوسع وغزو العالم، ولولا البارود الصيني لما استطاعت القيام بهذا الكم من عمليات الغزو لعدد من البلدان، وهو هنا يشتبه بقوة في رواية التقدم الغربية تلك التي صنعت لنفسها مساراً خطياً يبدأ من بترارك «فرانشيسكو، أحد أعمدة التفكير الإنساني في عصر النهضة» وحتى ديكارت صاحب نظرية الشك وقواعد المنهج، ويرى الأمر مجرد خدعة، فكونها «أوروبا» اعتمدت في نهضتها على بناء أسطوريتها القومية، هي تلك التي استعادت اليوناني وأدمجته في ذاتها الاجتماعية لتقول بثبات عمليات النسب الحضاري فيها، والرجل محق فالأمر ليس إبداعاً أوروبياً فالحقيقة أن عمليات استثمار الماضي هي دينامية مستقرة في أي بناء اجتماعي متحرك.

•لقد تركز نقد غودي على «عصر النهضة» أو بالأدق على الجانب المظلم في هذه السردية، وأن الأمر ليس كما تعرضه المركزية الغربية وهي تبشر بحداثتها إبان عصر التنوير، وأنه لا صحة لهذه السردية القائلة بتواصل عمليات الانتقال الحضاري منذ اليونان وحتى إيطاليا النهضة، بل يرى أنها فترات عاشت فيها الذات الحضارية الأوروبية انقطاعاتها الكبرى، فسقوط الإمبراطورية الرومانية، وبدأ اعتناق شعوبها المسيحية، ثم ظهور عهد الإقطاع وما تلاه من تطور في الاقتصاد السياسي فإنه لا يمكن والحال كذلك أن نطمئن لوجود منظومة قيم ثقافية هي سبيل لأوروبا للحصول على التفوق الحضاري دون غيرها من الأمم..

•إن جملة المناقشات حول الغرب والشرق ظلت خامدة ودون تأثير إلى أن قام جاك غودي وبفضل قدراته استخدام مناهج التحليل التاريخية والتجريبية والمقارنة في علم الاجتماع من فتح مسارات جديدة لفهم هذه العلاقة، نعم هو يريد الذات الغربية محل للدرس، وليس الآخر، فالآخر يظل انعكاس لعمليات التحليل عنده، ولذا فإن سجالات النهضة العربية لن تفلح في بناء حقائقها دون الوقوف الجاد على جدل النهضة والتقدم في الكتابة الغربية، وغودي هو أحد أهم الأمثلة المنتجة لفهم جديد في سياق علاقات الغرب والشرق، بل إن حتى الفضاء السياسي الذي يصر على احتقاب نظرة متعالية ضد كل ما هو شرق، وبالتالي عربي هو الآخر فضاء يقوم على بنية معرفية أهم ملامحها الخديعة بوجود تفوق وامتياز غربي مطلق كونه عقلاني النزعة، ضد تخبط وتراجع مستمر لشرق عاطفي التوجه، والدعوة هنا أن نبنى فضاءً تداولياً بين المعرفي في الغرب والشرق، لا أن نكتفي بالصدى دون فهم حقيقي لجذور الوعي الغربي، حينها فقط ستكون أشغالنا مستقلة وليست مجرد ردود أفعال مكتومة.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

محافظ الأحساء يدشّن مشروع "أثر" للمسؤولية الاجتماعية للشركات

دشّن صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن طلال بن بدر محافظ الأحساء، بمكتب سموّه بمقر المحافظة، اليوم الاثنين، مشروع "أثر" للمسؤولية الاجتماعية للشركات، الفائز بمنحة برنامج أهالينا للاستثمار الاجتماعي في دورته العاشرة.
المشروع مقدم من مؤسسة الملك خالد بالشراكة مع البنك الأهلي السعودي، وتنفذه جمعية سند للمسؤولية الاجتماعية بالأحساء، وذلك بحضور رئيس الجمعية الدكتور محمد العيد وعدد من المسؤولين من الجهات ذات العلاقة.
أخبار متعلقة بجهود 10 جهات.. الشرقية تتحد لتعزيز الوعي بسرطان الثديأمير الشرقية يتابع إنجازات ومشاريع "المياه الوطنية" في المنطقة .article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } محافظ الأحساء يدشّن مشروع "أثر" للمسؤولية الاجتماعية للشركاتخطوة نوعية
أشاد سمو محافظ الأحساء بمبادرة جمعية سند، مؤكدًا أن المشروع يمثل خطوة نوعية نحو ترسيخ مفهوم الشراكة المجتمعية بين القطاع الخاص والقطاع غير الربحي، ويُعزّز من مساهمة الشركات في تحقيق التنمية المحلية ورفع جودة الحياة في المحافظة.
وأشار سموّه إلى أن المشروع يسهم في تأهيل ممارسين في مجال المسؤولية الاجتماعية، وتمكين القطاع الخاص من تأسيس وحدات متخصصة وفق أفضل المعايير، بما يواكب أهداف رؤية المملكة 2030 الطموحة في بناء مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } محافظ الأحساء يدشّن مشروع "أثر" للمسؤولية الاجتماعية للشركاتالاستثمار الاجتماعي
فيما أوضح رئيس مجلس إدارة جمعية سند للمسؤولية الاجتماعية الدكتور محمد العيد، أن مشروع "أثر" جاء استجابة للتوجهات الوطنية في مجال الاستثمار الاجتماعي، مشيرًا إلى أن الجمعية تعمل من خلال المشروع على بناء قدرات الشركات والمؤسسات، وتقديم الاستشارات والدعم الفني لتفعيل برامج ومبادرات ذات أثر ملموس على المجتمع والاقتصاد.
فيما قدّم المشرف على مشروع "أثر" سعود الشعيبي شكره لسمو محافظ الأحساء، على اهتمامه وتشجيعه الدائم لجمعية سند للمسؤولية الاجتماعية، ومتابعته المستمرة لمشروعاتها التنموية، مما كان له الأثر الكبير في تعزيز جهود الجمعية وفوزها بمنحة "أهالينا" لدعم مشروع "أثر".شراكات استراتيجية
شهد سموّه خلال التدشين توقيع اتفاقيتين لجمعية سند ضمن شراكات استراتيجية، الأولى مع جمعية طويق لصناعة الكوادر البشرية، وتهدف إلى توفير فرص وظيفية متخصصة للمستفيدين من المشروع، والإسهام في تأهيلهم ورفع كفاءاتهم من خلال برامج تدريبية نوعية تدعم مسارات التمكين المهني، والثانية مع مؤسسة العدسة الذكية للإنتاج الفني.
وتستهدف أيضًا تعزيز التعاون الإعلامي لنشر رسائل المشروع وتسليط الضوء على مبادراته، بما يسهم في رفع مستوى الوعي المجتمعي وتعزيز أثره الإيجابي.

مقالات مشابهة

  • الغارديان: قادة الغرب الذين دعموا المذبحة لا يمكنهم صنع سلام لفلسطين
  • تغييرات ضخمة مرتقبة في دوري أبطال أوروبا ابتداءً من موسم 2027/2028
  • محافظ الأحساء يدشّن مشروع "أثر" للمسؤولية الاجتماعية للشركات
  • النظرة الاستعمارية.. من جوهر السياسة إلى توماس براك؟
  • كاتبة بريطانية: شباب الغرب أصبحوا يفضلون اليمين المتطرف على الديمقراطية
  • قبل قمة شرم الشيخ.. تفاصيل عمليات الإفراج عن المحتجزين في غزة
  • الكرملين يحذر الغرب من لحظة تصعيد دراماتيكي في الحرب الأوكرانية
  • منتهى الغرابة.. ليلة إهدار ركلات الجزاء في تصفيات أوروبا لكأس العالم
  • بورصة الكويت تُغلق تعاملات بداية الأسبوع على تباين مؤشراتها
  • أبرز مباريات اليوم السبت 11-10-2025 والقنوات الناقلة