طنجة- في مدخل متحف برج النعام بمدينة طنجة، يقف تمثال ابن بطوطة بشموخ حاملا رسالة تذكّر العالم برحلته التاريخية التي ساهمت في مد جسور بين الشرق والغرب.

انطلق ابن بطوطة من هذه المدينة الساحلية، حيث ولد، في رحلة استغرقت ربع قرن، جاب خلالها العالم، ووصل إلى بلدان لم يسبقه إليها أحد، في أقصى الشرق في ماليزيا والفلبين، ومرورا بجزر المالديف والهند.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2مسجد إيفري كوركورون.. تحفة معمارية أندلسية ومنارة علمية وثقافية في فرنساlist 2 of 2المدينة العتيقة بتونس.. معلم تاريخي يتوهج في رمضانend of list

ترك هذا الرائد في الرحلة وأدبها كتاب "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، المعروف أيضا بـ"رحلة ابن بطوطة"، لكن ما جاء في روايته عن زيارته الصين أسال كثيرا من المداد وأثار حوله الشكوك من قِبل المستشرقين.

جدل رحلة الصين

يرى الباحث المغربي عبد الله العلوي مؤلف كتاب "ابن بطوطة في الصين" -في حديث للجزيرة- أن سوء الترجمة أدى إلى تشكيك المؤرخين الغربيين في بعض روايات ابن بطوطة، إذ فهم المؤرخ الفرنسي هنري بول (1946-2017) من وصف ابن بطوطة تجارا صينيين يستخدمون الفيلة في مدينة "قلقيلية" (مدينة لم تعد قائمة) بالأرخبيل الإندونيسي أنه يتحدث عن الصين، وهو ليس كذلك.

كما أن المغاربة شككوا في روايات ابن بطوطة التي تصف ثراء الصين، وفي القصص الخارقة مثل حكاية المشعوذ الذي قطع أعضاء صبي ثم ركبها من جديد، وهذه حكاية أكد ابن بطوطة أنها خدعة.

إعلان

لذلك، فإن انتقاد ابن بطوطة جاء نتيجة سوء فهم، وقد تعرض لهذا الموقف كل الرحالة تقريبا ومنهم ماركو بولو، فالناس تظن أن جميع الشعوب تعيش على شاكلتها، ثم إن الصين كانت بعيدة ومختلفة الثقافة كليا، ومن ثم فلا أحد صدق الرحالة فيما رووه.

ويلاحظ الأكاديمي المغربي ناصر بوشيبة -في حديث للجزيرة نت- أن ابن بطوطة يعد من أبرز رواد أدب الرحلة في العالم الإسلامي، إذ جاب أصقاع الأرض من المغرب إلى الصين وإندونيسيا، حاملا معه رؤية صوفية ساهمت إلى حد ما في المبالغة في روايته لبعض الأخبار، متأثرا بالمتخيل الشعبي الذي يؤمن بالكرامات والخوارق.

الباحث المغربي ناصر بوشيبة رئيس جمعية التعاون الأفريقي الصيني للتنمية (مواقع التواصل) تاريخ المغرب والصين

مع ذلك، يشدد الباحث بوشيبة -صاحب كتاب "تاريخ العلاقات بين المغرب والصين"- على أن انتقاص مستشرقين من ابن بطوطة غير مقبول، مشيرا إلى أن ذلك يأتي في سياق تاريخي من التنافس بين الشمال والجنوب، ومحاولات التقليل من قيمة الحضارة الإسلامية.

ويستعرض عدة أدلة من المصادر الصينية التي تثبت صحة رواية ابن بطوطة، ومن أهمها وجود شخصية الشيخ برهان الدين الكازروني، الذي ذكره ابن بطوطة في رحلته، في الوثائق الصينية القديمة، كما أن وصف ابن بطوطة مختلف الهدايا المتبادلة بين سلطان الهند وإمبراطور الصين وأهداف البعثة الدبلوماسية الصينية إلى الهند، تتطابق بشكل كبير مع ما ذكره المؤرخون الصينيون.

في حين يقول رئيس معهد طريق الحرير للدراسات والأبحاث وارف قميحة للجزيرة نت إن الشكوك حول رحلة ابن بطوطة إلى الصين تعود إلى: "وصفه بعض العادات الصينية (مثل استخدام الأوراق النقدية) الذي يتطابق مع روايات ماركو بولو، مما دفع المؤرخ هنري بول للاعتقاد بأنه نقلها من مصادر أخرى. كما أن غياب ذكر سور الصين العظيم في روايته، رغم أنه رمز بارز، يثير تساؤلات عن مدى دقته". ويرى المغاربة أن رواية ابن بطوطة عن "عجائب الصين" تشبه قصص "ألف ليلة وليلة"، مما قد يشير إلى تضخيم أو استعارة أدبية.

فضاء عرض ذاكرة ابن بطوطة رائد الرحلات البحرية (الجزيرة) تتبع الخطى

دور التجار والمستكشفين العرب في نقل المعرفة والثقافة بين الحضارتين الصينية والعربية أثار اهتمام الباحثين، فوجدوا في تتبع خطى ابن بطوطة وسيلة لفهم هذا الترابط العميق.

إعلان

ولاحظ الباحث اللبناني وارف قميحة التأثير الإسلامي في المعمار المحلي، إذ إن هناك جناح الآثار الإسلامية بمتحف مدينة الزيتونة (تشيوانتشو حاليا) للمواصلات البحرية مما يؤكد وجود جالية إسلامية نشطة.

ومن الآثار التي صادفها وذكرها ابن بطوطة:

ميناء تشيوانتشو حاليا الذي كان يعد من أكبر الموانئ التجارية. مسجدها القديم (مسجد تشينغ جينغ/ مسجد الأصحاب) ولا يزال قائما حتى اليوم، ويعد من أقدم المساجد في الصين. في مدينة خان بالق (عاصمة الخان/ بكين حاليا)، تحدث عن قصر الإمبراطور المنغولي، الذي يحتمل أن يكون موقع "المدينة المحرمة" لاحقا. وصفه العمارة الفخمة في المدينة يتوافق مع سجلات الحقبة اليوانية (سلالة يوان). مقابر صحابة النبي محمد ﷺ في جنوب الصين، مثل مقبرة سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- في غوانغتشو، وهذه المقبرة لا تزال مزارا للمسلمين الصينيين. الباحث اللبناني وارف قميحة لاحظ التأثير الإسلامي في المعمار المحلي الصيني (الجزيرة) قصر الرحلة

يقول الأكاديمي قميحة إن ابن بطوطة وصل إلى الصين في أواخر عهد أسرة يوان (المنغولية)، التي كانت تعاني اضطرابات سياسية وثورات ضد الحكم الأجنبي، مما جعل تحركاته محدودة وخطرة.

ويرجح أن تنقله بين المدن الساحلية بدلا من التوغل داخليا جعله يعتمد على كرم التجار المسلمين، مما يفسر تغير وضعه المادي بين الرفاهية والاعتماد على الآخرين.

وهو ما أكده بوشيبة بذكره أن ابن بطوطة سافر عبر القناة المائية التي تربط بين الخنساء (هانغتشو) وبكين، وقدم وصفا تفصيليا لكل مدينة وحاكمها، مبرزا أن رحلته أثارت إعجاب الباحثين الصينيين، الذين رأوا في شهادته دعوة إلى التعايش الممكن بين الثقافات المختلفة.

ويبرز العلوي أن ابن بطوطة كان "متغير الخاطر"، كما عبر هو بنفسه، إذ لم تعجبه المنكرات في الصين، ولم يكن له حظ للالتقاء بالإمبراطور والأمراء كما في بلدان أخرى، بينما كان مصدره الأساسي للمعلومات التاريخية هو القاضي "الصاغرجي"، الذي نصحه بمغادرة الصين.

إعلان

ويشير إلى أن ابن بطوطة وضع عِلم الرحلة المقارن على خلاف من سبقوه الذين كانت رحلاتهم وصفية فقط، إذ كان يقارن الخضر واللحوم، والخزف، والفواكه، والأنهار، والكرم، والبحار، وعادات الشعوب، حتى أنه قارن فاكهة "النبق" الشوكية في المغرب وفي الهند، وذكر أن الخزف الصيني الذي يصنع بها يصل إلى المغرب في تلك المرحلة.

عرض ذاكرة ابن بطوطة (الجزيرة) اختراعات

يقول قميحة إن ابن بطوطة انبهر أيضا بالاختراعات الصينية مثل الورق النقدي، مقارنة باستخدام المغرب للعملة المعدنية، كما أشار إلى أن الصينيين "لا يغادرون بلادهم أبدا" بسبب الاكتفاء الذاتي، بينما المغاربة كانوا تجارا رحالين، ووصف القصور الصينية ذات الأسقف المزخرفة، مقارنة ببساطة العمارة المغربية الإسلامية، وذكر أن المسافر في الصين يمكنه حمل الذهب لمسافات دون خوف، بينما في المغرب كانت القوافل تحتاج حراسة مسلحة.

ويقول رئيس جمعية التعاون الأفريقي الصيني للتنمية بوشيبة أن المؤرخين الصينيين استفادوا من كتاب ابن بطوطة لفهم تاريخ المجتمع الصيني والإدارة العمومية المحلية في تلك الحقبة، والذي كان مقسما إلى الطبقة الحاكمة من أسرة اليوان (المغول)، والعرب من غرب آسيا المشتغلين في الصناعات الحربية والمصارف، ثم الصينيين الأصليين (الهان) الذين كانوا يعانون الاضطهاد.

ويضيف أن ابن بطوطة روى أن الصين أحسن مكان لتطوير الأعمال التجارية، لوجود إجراءات أمنية صارمة، مثل محطات الإقامة والتفتيش، وتجهيز المسافرين بالمؤن الضرورية، وإرسال كل المعلومات الضرورية إلى المحطة الموالية، كما وصف بدقة جوانب من الحياة الصينية، مثل الطبخ بالبخار وصناعة الخزف، وقارنها بالمنتجات المحلية.

لوحات ابن بطوطة بريشة الفنان أومولود (الجزيرة) حقيقة السرد

كان ابن بطوطة يميز ما شهده وما سمع به وما حُكي له، ويضيف أحيانا "والله على ما أقول شهيد". ويشرح العلوي أن خلفيته الإيمانية تمنعه من مخالفة الصدق، فمثلا سمع أن سد يأجوج ومأجوج يقع على بعد 6 أشهر من خان بالق، وأن هناك بشرا يأكلون "بني آدم إذا ما ظفروا به"، غير أنه أكد أنه "لم يشاهد السد ولا من شاهده".

إعلان

بينما يبرز قميحة أن ابن بطوطة، بصفته فقيها مالكيا، كان ينظر إلى الصين عبر عدسة "دار الإسلام ودار الكفر"، فوصف إعجابه بتسامح الصينيين مع المسلمين، لكنه استنكر عادات مثل عبادة الأصنام.

ويضيف أن عدم إتقانه اللغة الصينية جعله يعتمد على ترجمة التجار المسلمين، مما قد يكون سبب أخطاء في نقل بعض التفاصيل. كما قد يكون أدخل بعض القصص الشفوية التي سمعها في رحلته ضمن سياق مشاهداته الشخصية، لتعزيز عنصر الإثارة في الرواية.

مدخل متحف ابن بطوطة في برج النعام، ويضم تمثال ابن بطوطة (الجزيرة) نظرة الصينيين

يحتفي الصينيون بابن بطوطة ليس فقط بصفته رمزا للتعددية الثقافية، بل أيضا لجذب السياح وتعزيز السياسة الخارجية.

يقول الأكاديمي قميحة إن الصين اليوم تروج لتراثها كملتقى للحضارات، وابن بطوطة يمثل التواصل التاريخي بين الصين والعالم الإسلامي. كما أن تسمية الشوارع والفنادق باسمه في مدن مثل تشيوانتشو تعكس رغبة في تسليط الضوء على تاريخها كجزء من شبكة طريق الحرير.

ويضيف أن الاحتفاء يأتي بتوافق مع خطاب "الحزام والطريق" الذي يُظهر الصين دولة منفتحة تاريخيا، وهي مبادرة صينية قامت على أنقاض طريق الحرير في القرن الـ19 من أجل ربط الصين بالعالم، لتكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية.

بالإضافة إلى ذلك، أفرد الصينيون لابن بطوطة دراسات منشورة في مجلة العالم العربي، وهناك عديد من الكتب حول تاريخ أسرة "اليوان" التي اعتمدت على رحلاته، والتي لم تُترجم بعد إلى اللغة العربية، كما يبرز الكاتب العلوي.

ومن بين من اهتم برحلة ابن بطوطة المستشرق الصيني عضو مجمع الكتاب الثقافي الصيني الدولي وو فو قوي (عبد الكريم)، الذي استغرق تأليف كتابه "رحلات ابن بطوطة في الصين" عدة عقود.

ويعد هذا الكتاب مرجعا أكاديميا مهمًا يوثق عملية الترجمة والتواصل الثقافي بين الصين والمغرب، ويقدم تحليلات وشروحات النسخ الأصلية من "رحلة ابن بطوطة".

يقول الخبير في شؤون الشرق الأوسط الصيني وو فو قوي عبد الكريم للجزيرة نت إن كتاب "رحلة ابن بطوطة"، قدم وصفا دقيقا لتفاصيل الحياة في الصين، من عادات وتقاليد وفنون وعمارة، مما أتاح للأوروبيين والعرب على حد سواء فرصة التعرف على حضارة بعيدة ومختلفة، وصحح الصورة المشوشة وغير الدقيقة التي كانت سائدة في أوروبا عن الصين.

ويبرز أن كتاب ابن بطوطة يعد وثيقة تاريخية ثمينة توثق العلاقات العريقة بين العرب والصين في القرن الـ14، وشهادة حية على الروابط الثقافية والتجارية التي كانت قائمة بين الحضارتين.

إعلان

كما ساهم في تقديم صورة إيجابية عن الصين في العالم العربي، ووصف حياة المسلمين المغتربين هناك، مما ساعد على تعزيز الاحترام والتقدير للحضارة الصينية، والتواصل والتفاهم بين المسلمين في مختلف أنحاء العالم.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان اجتماعي رحلة ابن بطوطة ابن بطوطة فی إلى الصین فی الصین کما أن

إقرأ أيضاً:

حكاية العربي الأخير لواسيني الأعرج.. نقد الراهن واستشراف المآل العربي

تجربة الروائي والكاتب العربي الجزائري واسيني الأعرج (مواليد وهران 1954) في طليعة التجارب العربية الراهنة التي حقّقت نجاحا ومقروئية واضحة خلال العقود الأربعة الأخيرة.

تميزت تجربة واسيني بعدة ميزات، منها:

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الأدب الأفريقي البرتغالي.. مرآة لتوترات ما بعد الاستعمار والحربlist 2 of 2رواية "نيران وادي عيزر" لمحمد ساري.. سيمفونية النضال تعزفها أوتار الحريةend of list

بعد كمّي تراكمي: يبدو ذلك في مقدرته على إنتاج روايات جديدة متنوعة بشكل شبه سنوي، وكأن لديه برنامجا منظما للكتابة والإنجاز، فغدت الرواية مشروعا شديد التنظيم، وواضح الجدية، وأسهم هذا الأمر في تراكم كمّي ونوعي لهذه التجربة، وجعل لها قراء ومتابعين ودارسين يتابعونها وينتظرون جديدها.

الأمر الثاني، أمر نوعي فني يمكن تسميته تنوع الأشكال والأنواع والمناخات الروائية التي كتب ويكتب فيها، وهذا ليس بالأمر السهل، فغالبا ما يتميز بعض الكتاب في لون بعينه يوافق هواهم ومواهبهم، ولكن واسيني أخذ نفسه بالجد، فكتب الرواية الواقعية، وكتب الرواية ذات الشكل التراثي التجريبي، وكتب الرواية ذات الملامح الشعرية، وكتب الرواية التاريخية ورواية السيرة بتنويعات لا تخفى. وهذه أيضا ميزة أخرى نعدّها في صالح تجربته، وقد وفرت له قاعدة قرائية واسعة.

الأمر الثالث أنه استفاد من خبرته البحثية والدراسية والأكاديمية، فلا ننسى أنه أستاذ جامعي مرموق في الجامعة الجزائرية وفي فرنسا، وله عدد من الدراسات والبحوث النقدية والجامعية المميزة في حقل اختصاصه، من حلقاتها الأخيرة: كتابه المعنون بـ"المنجز السردي العربي القديم"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2022، وكتابه "غنيمة حرب: الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية"، دار خيال، 2025.

إعلان

وقد وجه الكاتب هذه الخبرة والمقدرة النقدية من جهة ثانية لتكون رافدا مهما من موارد كتاباته، وقد انعكس هذا الأمر بجلاء على رواياته، في تنوع أشكالها وتقنياتها، وفي طرق معالجتها موضوعيا وفنيا، وفي اتساع أفقها الثقافي والمعرفي ونحو ذلك من آثار الثقافة والمعرفة، ولذلك، فهي روايات تعلم وتمتع، يقف وراءها حس نقدي رصين، ويحرسها وعي معرفي لا يخفى، مما يحميها من أي أخطاء فادحة أو أخطار محتملة ربما لا يتنبه إليها الروائي الذي لم يحترف النقد ولم يدرس الرواية والسرديات دراسة منظمة.

حصلت تجربة واسيني على كثير من التقدير ولا تزال، من خلال المقروئية الواسعة لأعماله وما يصدر عنها من دراسات نقدية، إلى جانب حصوله على عدد وفير من الجوائز العربية المرموقة. فهو بلا شك علامة روائية مميزة في الزمن العربي الراهن.

حكاية العربي الأخير أو رواية (2084)

رواية (2084) "حكاية العربي الأخير" واحدة من روايات واسيني الأعرج نشرت أول مرة عام 2015. وهي رواية ضخمة تقرب من 450 صفحة، وتمثل نمطا من الرواية الطويلة التي يؤثر طولها على بنيتها وشكلها، ذلك أن الطول ليس معيارا خارجيا فحسب، وإنما له تبعاته على اللغة والبناء وطريقة تقسيم الرواية. ولذلك فمن يقبل على قراءة هذه الرواية ينبغي أن يكون ذا نفس طويل، وليس من قراء الجلسة الواحدة.

تذكرنا هذه الرواية بروايات القرن الـ19 والنصف الأول من القرن الـ20، خاصة الروايات الروسية والأوروبية الضخمة التي أنتجها كبار الروائيين، وأحيانا كانت تصدر في أجزاء كما بعض روايات دوستويفسكي، وتولستوي وتشارلز ديكنز وغيرهم.

تنطلق هذه الرواية بالتأكيد من واقعنا العربي الكلي اليوم، في محاولة جريئة لتسميته وتجسيده في كلمات أو كتاب، وكما قال المؤلف في إحدى شهاداته: فإنه "انطلق متأثرا بأورويل، ولكن الفارق أنه ذهب من لحظة الرماد إلى لحظة أشد رمادا".

إعلان

يمكن أن ننظر إلى هذه الرواية بوصفها رواية احتجاجية؛ ذلك أن مبعثها الأساسي الاحتجاج على ما آل وسيؤول إليه الوضع العربي إن لم يتجه إلى استنبات ما يمكن أن يغيره إلى حال أفضل وأجمل.

لا يبدي الكاتب تفاؤلا، بل يمكن القول إن الرواية تصور عالما مستقبليا أشد سوادا مما هو اليوم، فيه مطلق التبعية والتخلف والإرهاب وكل ما يمكن تخيله من عوامل التناحر والتأخر.. دون وجود بصيص أمل. لا لتقول إن هذا ما سيحدث، وإنما لتقول: ينبغي أن نتجنب هذا الأسوأ.

رواية المصير أو نهاية العالم

يمكن وصف هذه الرواية بأنها رواية مصير أو مآل، أو أنها من روايات (نهاية العالم)، فهي تحاول من خلال نسيجها السردي تقديم صورة افتراضية مستقبلية عما سيؤول إليه الواقع العربي بعد نحو قرن من الزمان، وهذا نوع موجود من الأنواع الروائية العالمية، ويمكن من خلاله أن يتاح للروائي تقديم رؤيته للمستقبل. ومن هذه الناحية، فإنها رواية استشرافية تحاول أن تدلي بدلوها عبر تقنيات وأساليب روائية في رسم صورة الآتي، بغرض التحذير منه وتقديم إسهام أدبي يمنع أو يخفف من حدة الوصول إلى ذلك المصير.

وما دام أنها عمل روائي تخييلي فني فلا بد أن تجمع بين أمرين: المتعة الروائية التي نتوقعها من أي رواية، وهذا غالبا ما يتأتى من خلال الأسلوب. والفائدة المرتبطة باتخاذ موقف حيال ما تطرحه، ويتأتى هذا من خلال فكرة الرواية أو رسالتها العامة، بمعنى إنها تقول إذا استمر حال عالمنا كما هو اليوم بالعناصر والمكونات نفسها فإن المصير سيكون وخيما وصعبا، ويمكن أن ننسب إليها وظيفة تحذيرية ما دام أننا لم نصل بعد إلى عام 2084 فالتحذير فعل إيجابي أيضا.

الشخصية الرئيسية -أو "العربي الأخير"- هو من سمّته الرواية "آدم غريب" وهو عربي الأصل، لكنه تعلم في جامعة بنسلفانيا وحمل الجنسية الأميركية، وهو عالم فيزياء نووية، يُختطف ليقوم بتصنيع قنبلة الجيب الرادعة. لا يتم التعامل معه بما يليق بأصله وعلمه وجنسيته، بل يتعاملون معه على أنه العربي الأخير… يسخرون منه وفي الوقت نفسه يريدون استغلال علمه. أما هو فممزق بين هذه العوالم المتضاربة.

إعلان

عالمنا بحسب الرواية ممزق بين قوتين، أميروبا، أي القطب الأميركي الأوروبي، على المستوى العالمي الخارجي. وقوة الإرهاب المتنامي داخل المجتمع العربي نفسه. وهذا مستوحى من الوقت الراهن والقوى المهيمنة فيه. المهم ماذا نفعل؟ هذا هو السؤال، فهل نحن قادرون على اجتناب الأول أو الثاني؟ فضلا عن وجود ما يربط بين القوتين، وتوظيف الإرهاب لإفقار عالمنا فكريا وسياسيا، ودور الغرب في إنتاج ظروف تعزز البيئة المنتجة للإرهاب.

آدم (بطل الرواية): أنا لست مجرما ولا قاتلا، بل ضحية كل الجهات، وجدت نفسي على حافة عالم أرابيا الذي مات كليا ولم تبق إلا علاماته القليلة وتمزقاته وحروبه، وعالم غربي في عز انهياراته بسبب أزمته البنيوية (مولدة بالذكاء الاصطناعي- الجزيرة)

وفي فقرة من فقرات الرواية ما يمكن أن يكون ملخصا للحال:

في آرابيا حروب طاحنة مزّقتها وقتلتها. بدأت بتمزّق محدود، إثني أو قبلي أو عرقي أو لغوي قبل أن يتحول إلى حرب عبثية بلا نهاية. داخل هيكل أرابيا، هناك أرابيات، شيعة وسنة، دروز وأرمن وأكراد وأمازيغ، لم يعترف لهم بأي حق، الباقي يقفون على أرض هشة. الفرق بين آرابيا والعالم الآخر هي أن الثاني على الرغم من العنف، فهناك إصغاء لحل المعضلات، كما في بلجيكا وسويسرا وإيطاليا وكندا الهند باكستان وفرنسا وأميركا والصين وروسيا وغيرها. لكن أرابيا لم تمنح فرصة تأمّل وضعها بسبب جنون حكامها وأطماعهم وإخفاقهم. كلما زادت الحروب كثافة، والفقر توغلا، أصبح التفكك سريعا وكبيرا، ومن الصعب التحكم فيه.

(ص 148)

هذه فقرة تلخيصية جيدة وواضحة المدلول، ولكنها تمثل أسلوب هذه الرواية في التوصيف خارج الحبكة أو ما ندعوه بالنمو الخارجي، فكل هذا وأكثر منه معروف للمواطن والقارئ العربي، ومطلوب من الرواية ما هو أبعد بكثير من مجرد التوصيف وهجاء الواقع الذي أشبعه الشعراء هجاء على طريقة "أشبعتهم شتما وأودوا بالإبل".

إعلان

العالم الذي تعرض له الرواية هو عالم ما بعد الكولونيالية، العالم الجديد الذي يتأسس على قاعدة البقاء للأقوى وليس للأفضل. هذه القوة الغاشمة المتغطرسة حاضرة في معظم صفحات الرواية: "العالم اليوم للأقوى… من ليس معنا ليس عدونا فقط، بل يجب أن يمحى. إنسانيون إلى أبعد الحدود، لكننا نحارب العواطف الفارغة، فهي مورطة. قوانيننا في قلعة أميروبا صارمة". (ص 202).

في الرواية أيضا ثيمة متكررة تتمثل في العنصرية والاستخفاف بغير الأوروبي والأميركي، سواء من خلال الجملة المفتاحية المتكررة "العربي الوحيد الجيد هو العربي الميت"، أو مقولات أخرى نحو دهشة "ليتل بروز" الساخرة وهو يحدّق في آدم: "عربي ويفكر!" مع أن تفكيره لم يذهب لفائدة جنسه العربي، وإنما ظل تابعا للآخر المستبد والمهيمن.

وفي الرواية أحيانا تجسيد لأزمة هذا الآدم غريب الأطوار، فهو ينتمي إلى أرابيا، ولكنه قضى حياته وتعلم في جامعة بنسلفانيا ومختبراتها، وهو أميركي الجنسية، ويتعرض للاختطاف في باريس، ويجلب للاحتجاز في قلعة أميروبا الواقعة في الربع الخالي، في عمق الصحراء العربية. هذه الحبكة البوليسية ربما جيء بها لإحداث نوع من الحركة لخلخلة الرتابة الناتجة عن الجفاف الذي سببه تراكم الوصف واللغة المقالية، ولكنها لم تكن حبكة رئيسية أو فاعلة.

يقول آدم في إحدى صوره:

أنا لست مجرما ولا قاتلا، بل ضحية كل الجهات، وجدت نفسي على حافة عالم أرابيا الذي مات كليا ولم تبق إلا علاماته القليلة وتمزقاته وحروبه، وعالم غربي في عز انهياراته بسبب أزمته البنيوية، وإسلام فقد كل مبرراته الإنسانية منذ أن استلمه التنظيم.

(ص 102)

أما السبب الرئيس لاحتجازه، فيتصل بإجباره على صناعة قنبلة نووية "قنبلة الجيب" بإشراف الأخ الأصغر، الذي يتحكم في القلعة والتحالف المرتبط بها.

تفاعل رواية واسيني مع رواية أورويل يثري الرواية ويجعل لها عمقا إذ يفتحها على نوافذ من الثقافة المقارنة، والمعارضة، والبحث عن نقاط التقارب والتباعد (الجزيرة) تناص معلن مع رواية 1984 لجورج أورويل

لا تخفي رواية واسيني الأعرج صلتها برواية جورج أورويل المعروفة بعنوان "1984"، ففي العنوان تحمل رواية واسيني "2084" وتحتها الجملة الفرعية: حكاية العربي الأخير، أي أن عنوانها الرئيس رقم أو تاريخ سنة مستقبلية، يذكّر فورا بالعنوان الأول لأورويل. ثم هناك مقتبس في إحدى العتبات المتقدمة من الرواية، وهو قول أورويل في روايته:

في المنظور المعلوم من حياتنا لن تكون هناك أي إمكانية للتغيير. نحن موتى. حياتنا الحقيقية تكمن في المستقبل. سنشترك في صنعه حتما، لكن في شكل حفنة من غبار وكومات من عظام. المهم، على أي مسافة منا يقع هذا المستقبل؟ من المستحيل معرفة ذلك، قد تكون ألف سنة. فلا شيء ممكن حاليا.

وفي عتبة القسم الأول، يضع المؤلف فقرة من صياغته، ولكنه ينسبها إلى شخصية رئيسية في الرواية هي شخصية "ليتل بروز"، وشرح سياق هذه الفقرة المقتبسة بأنها جاءت "بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد جده بيغ بروذر"، والأخ الأكبر إحدى شخصيات رواية أورول الرئيسية، فليست هذه الفقرة مهمة بمنطوقها أو بمعناها فقط وإنما بمنظور الروائي إلى أحد أبطاله وصلته الخفية المتشابكة مع شخصية رواية جورج أورويل.

إعلان

هذه الصلات تظهر لنا في العتبات وعلى مستوى تسميات بعض الشخصيات، ويمتد الأمر إلى كثير من خصائص الرواية الأخرى، وعلى رأسها السمات الاستشرافية، والدستوبية، والشمولية، بمعنى أنها رواية لا تأخذ قطاعا صغيرا أو واسعا من حياتنا وإنما تريد أن تحاكم زماننا كله وما سنؤول إليه في ظل وقائعه الحالية.

في كلتا الروايتين بناية من 7 طوابق، تحتل الأحداث الطابق السابع، شخصية "ونستون سميث" عند أورويل تقابلها شخصية آدم المحبوس في قلعة أرابيا، رمز العالم العربي تقريبا، في رواية واسيني، والأخ الأكبر شديد الرقابة في الرواية الأولى تتقارب وتتجاذب مع "ليتل بروز"، حتى الألقاب والتسميات قريبة في الروايتين.

هل التفاعل مع جورج أورويل أو غيره أمر يؤاخذ عليه الكاتب؟ هل نؤاخذ الكتاب إذا ما تفاعلوا مع كتاب سابقين وأعمال سابقة؟ إجابتي وإجابة قراء الرواية أن مثل هذا التفاعل كثيرا ما يثري الرواية ويجعل لها عمقا إذ يفتحها على نوافذ من الثقافة المقارنة، والمعارضة، والبحث عن نقاط التقارب والتباعد.

أيضا تمكن ملاحظة خيوط من تأثيرات الروائي الراحل نجيب محفوظ في روايته الشهيرة "أولاد حارتنا" فوجود أسماء مثل آدم، وشخصية "الأخ الأكبر" المتحكم في كل شيء ونحو ذلك من مناخات يذكرنا بالرواية الكونية لمحفوظ، فهذه الشخصية فيها مشابه من شخصية "الجبلاوي" لمحفوظ، مع إسقاطات سياسية وليست فكرية أو فلسفية.

وهناك فرق شاسع في الوقت نفسه بين العمق الفكري والفلسفي لمحفوظ، والمنظور السياسي لرواية واسيني، ولكنها مثلها في الشمولية والكلية، وفي اتخاذ أسماء الشخصيات لتكون معادلا لقوى وحضارات وقادة كبار لهم تأثير طاغ في العالم.

أخطار أو تحديات الرواية الشمولية

الرواية الشمولية التي تتناول وقائع كلية معرّضة لمجموعة من الأخطار، منها بطء السرد والاعتماد على الوصف المبالغ فيه، ذلك أن نموها الداخلي يكون شحيحا أو غير متاح، مما يؤدي بالروائي أو الكاتب إلى تنميتها من الخارج، وهو ما ينعكس عند المتلقي بالإحساس بالملل النسبي، ولكن في المقابل قد تلبّي مطالب قراء يميلون إلى مطالعة الكتابات الفكرية والوصفية.

تتسع في هذا النوع مساحة الوصف والتحليل أو التعليق، وتتضاءل فرص النمو السردي الداخلي التي تتسع مساحة التشويق باتساعها. الأمر الآخر يتمثل في ارتفاع نبرة المقالة أو الكتابة المقالية والإخبارية على حساب النبرة الحكائية، ومرد ذلك طبيعة الموضوع المتعلق بالراهن والمستقبل العربي والحروب الدائرة، واعتماد الكاتب على مصادر إعلامية وصحفية في كثير مما لخصه أو أشار إليه. وقد بذل المؤلف جهده وخلاصة خبرته للتخفيف من هذه الأخطار والتحديات، عبر بناء حبكات فرعية ذات طبيعة حيوية وتشويقية.

ومع كل هذا، فقد قدم واسيني تصوره للعربي الأخير وللمآل العربي في رواية مهمة تمثل تنويعا على تجربته وأعماله السابقة واللاحقة، ولا بأس أن يعاني القارئ قليلا في قراءتها أكثر مما يعانيه في روايات أخرى، إلى جانب هدف ربما بدا متواريا بعض الشيء: فالروائيون اليوم لا يطمحون إلى تقديم حكايات ممتعة فحسب، وإنما إلى تقديم ضروب من الرواية المعرفية والفكرية، ولسنا نمانع ذلك شريطة الاحتفاظ بجذوة المتعة التي تعد جوهر العملية السردية والروائية بأسرها.

إعلان من اليوتوبيا إلى الدوستوبيا

الدوستوبيا نقيض اليوتوبيا، بحسب الأصول اليونانية لهذين المصطلحين، وقد شقي الفلاسفة في رسم معالم المدينة الفاضلة، أما الرواية الحديثة، فاتجهت إلى ما يمكن تسميته بأدب المدينة الفاسدة، نقيض المدينة الفاضلة.

يتقصد هذا المنظور لفت الانتباه بقوة وتأثير إلى العالم البائس المنهار، عوضا عن تقديم صورة مثالية أو طوباوية أو نموذجية للعالم، وأكثر ما قرن النقاد هذا الوصف أو اللون برواية 1984 لأورويل، المشار إليها وعدد من الروايات المشابهة التي كتبت تحت تأثير الحروب المدمرة، لا سيما الحربين العالميتين الأولى والثانية، مما عبرت عنه تجارب كبرى من مثل كتابات: فرانتز كافكا، ولويس فرديناند سيلين، ووليم فولكنر، ومارسيل بروست، وياروسلاف شيفيك وغيرهم.

رواية حكاية العربي الأخير هي تجربة عربية لافتة لكتابة هذا النوع الروائي، وهو يبدو ملائما لحالة عالمنا العربي الذي لا تعرف أحيانا كيف تتحدث عن مشكلاته لكثرتها وتناسلها وتشعبها، وهذا النوع -إذا ما أحسنّا قراءته- ليس مدعاة لليأس، بل هدفه الرئيس هو التحذير وإن يكن تحذيرا حادا ومؤلما وقاسيا بعض الشيء.

مقالات مشابهة

  • باحثون يطورون نموذجا لخلايا جزر البنكرياس البشرية
  • ما هي خطة صنع في الصين 2025 التي أقلقت أميركا؟
  • أسرار المال والميراث.. حكاية نوال الدجوي وأسرار الطلقة التي هزت كيان الأسرة
  • حكاية العربي الأخير لواسيني الأعرج.. نقد الراهن واستشراف المآل العربي
  • حكاية أطفال الأنابيب (6)
  • لا ملامح لهم.. أقرباء يروون تفاصيل استشهاد أطفال الطبيبة آلاء النجار
  • لا ملامح لهم.. أقرباء يروون تفاصيل استشهاد تسعة من أطفال طبيبين في غزة
  • استنفار بطنجة قبل حلول الملك بمطار ابن بطوطة
  • توفي بعد الحمل والولادة.. حكاية الجزائري أحمد الفاتح
  • أسرى فلسطينيون مفرج عنهم يروون لـعمان وحشية السجان وقهر المحتل