إسرائيل تُظهر للعالم أقبح وجوه الذكاء الاصطناعي
تاريخ النشر: 20th, March 2025 GMT
يُقدم الذكاء الاصطناعي باعتباره خطوة أخرى للإنسانية نحو مستقبل أفضل؛ أداة يُفترض لها أن تُحدث ثورةً في مجالات مهمة كالطب والتعليم والصناعات والمحتوى والتفاعل البشري مع المعلومات.
لكن هذه الأداة تحولت شيئًا فشيئًا لتصبح أكثر فتكا وتدميرا: سلاح رقمي في أيدي الجيوش حول العالم.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف جندت إسرائيل باحثين من "إم آي تي" لصالح جيشها؟list 2 of 2تكنولوجيا غوغل ومايكروسوفت في خدمة الإبادةend of listوبينما يدور الجدل حاليا بين الحكومات والشركات التقنية حول أخلاقيات وسياسات استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي، تطرح إسرائيل نموذجًا عمليًا لكيفية عسكرة تلك التقنية الحديثة، وتحويلها إلى أداة تساعدها على تضخيم نطاق القتل والمراقبة والتجسس داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة تحديدا.
وبعد ما شاهده العالم أجمع في حرب الإبادة التي شنها جيش الاحتلال على قطاع غزة، من توظيف لأنظمة الذكاء الاصطناعي لقصف وقتل الأبرياء، فإن إسرائيل لم تكتف باستغلال تلك الأنظمة في القتل المباشر، إذ كشف تحقيق صحفي جديد أجرته مجلة "+972" الإسرائيلية بالتعاون مع منصة "لوكال كول" العبرية وصحيفة الغارديان البريطانية، أن جيش الاحتلال يعكف على تطوير نموذج ذكاء اصطناعي تأسيسي جديد يشبه النموذج الذي يعتمد عليه روبوت المحادثة "شات جي بي تي".
لكن هذا النموذج الجديد لم يُدرب -مثل النماذج التقليدية- على ملايين البيانات المتاحة على شبكة الإنترنت، بل درّبته الاستخبارات الإسرائيلية على ملايين المحادثات العربية التي تحصّلت عليها عبر مراقبة الفلسطينيين على مدار السنوات الماضية.
إعلانويعد هذا أول الأمثلة المسجلة لدولة تعيد توظيف نموذج لغوي متطور للذكاء الاصطناعي في الاستخبارات العسكرية على هذا النطاق الضخم.
نموذج تجسس كبيروفقًا للتحقيق الصحفي المشترك، درّبت الوحدة 8200، وهي إحدى وحدات النخبة في الاستخبارات الإسرائيلية، نموذجا لغويا من الذكاء الاصطناعي على ملايين الاتصالات اليومية التي أجراها الفلسطينيون وتجسست عليها الاستخبارات الإسرائيلية.
وقد زُوِّد النظام "بكافة البيانات التي تمتلكها إسرائيل باللغة العربية"، وتشمل تلك البيانات ملايين المكالمات الهاتفية والرسائل وغيرها من عمليات التنصّت، بهدف إنشاء أداة ذكاء اصطناعي قادرة على الإجابة عن أسئلة حول الأفراد الخاضعين للمراقبة، مع إمكانية توفيرها لتحليلات للكميات الهائلة من بيانات المراقبة التي تجمعها وحدات الاستخبارات الإسرائيلية، وفقًا لما ذكرته المصادر المطّلعة على تفاصيل هذا المشروع وعرضه التحقيق الصحفي.
قضت الوحدة 8200 سنوات في بناء قاعدة بيانات هائلة تضم 100 مليار كلمة عربية، استخلصتها من عمليات المراقبة المكثفة للفلسطينيين. ليس المقصود هنا 100 مليار كلمة فريدة، لكن يشير الرقم إلى إجمالي عدد الكلمات التي تغذى بها النموذج، وهي كلمات عربية مكررة في الأحاديث اليومية، أي أنها تحولت إلى بيانات رقمية لكي يفهمها النموذج اللغوي، وهي بيانات جاءت من مصادر مختلفة من التجسس على اتصالات الفلسطينيين ومحادثاتهم العادي.
وتشير التقارير إلى أن الوحدة استخدمت كل ما استطاعت الوصول إليه من اتصالات، بما فيها تسجيلات المكالمات الهاتفية التي حولتها إلى نصوص مكتوبة، ومراسلات تطبيقات مثل واتساب والرسائل النصية القصيرة، فضلًا عن أي معلومات استخباراتية أخرى متاحة باللغة العربية.
وقد ضُبط النموذج ليتوافق مع اللهجات والمصطلحات العربية المحلية، إذ ركز تطوير النموذج على فهم اللهجة الفلسطينية، إلى جانب لهجات عربية أخرى كاللبنانية، نظرًا لأن نماذج الذكاء الاصطناعي المتوفرة تجاريًا تتقن اللغة العربية الفصحى فقط، بينما تفتقر إلى القدرة على فهم اللهجات العامية المستخدمة في الاتصالات اليومية العادية بين الأشخاص.
إعلانأسفرت هذه الجهود عن تطوير نموذج لغوي كبير يرتكز على اللغة العربية، ليصبح بمثابة "شات جي بي تي" مخصص لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. ومع ذلك، ظلّ هذا النموذج قيد التطوير خلال النصف الثاني من العام 2024، ولم يتضح بعد إن دخل مرحلة التشغيل الكامل أم لا.
في السنوات الأخيرة، طورت الوحدة 8200 مجموعة من أدوات الذكاء الاصطناعي؛ كانت أنظمة مثل "غوسبل" و"لافندر" من بين الأنظمة التي أدمجت سريعًا في العمليات القتالية أثناء الحرب على قطاع غزة، وأدت دورًا ملحوظًا في عمليات القصف التي شنّها جيش الاحتلال على القطاع عبر المساهمة في تحديد الأهداف المحتملة.
كما لجأت الوحدة، خلال السنوات الماضية، إلى نماذج تعلم الآلة لتحليل الاتصالات التي تتجسس عليها، عبر تحديد أنماط محددة في المعلومات التي تحصّلت عليها، لتحسن من معدلات التنبؤات الصحيحة.
مع التطور السريع جدا في قدرات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي مؤخرا، ظهر مصطلح "النموذج التأسيسي"، وهو مصطلح جديد نسبيا يُطرح في المجال، ويعرّفه البعض من خلال عدد المعاملات (parameters)، وبالتالي حجم الشبكة العصبية نفسها، بينما يعرّفه آخرون من خلال عدد المهام المميزة أو المتفردة والصعبة التي يمكن أن يؤديها هذا النموذج اللغوي.
باختصار، يمكننا تعريف النموذج التأسيسي بأنه نموذج لغوي مُجهز مسبقا، يتدرب على الكثير من البيانات النصية المختلفة، ويُشكِّل الأساس الذي تعتمد عليه النماذج اللغوية الأصغر التي تُصمم وتُدرب لأداء مهام محددة، كالرد على الأسئلة مثلا.
بهذه الطريقة يمكن بناء نماذج لغوية بدقة دون الحاجة إلى البدء من نقطة الصفر في كل مرة باستخدام النماذج التأسيسية الحالية، ومن أشهر أمثلتها نموذج "جي بي تي-4" الذي يعتمد عليه روبوت المحادثة "شات جي بي تي".
إعلانفي أواخر عام 2022، مع بداية انطلاق "شات جي بي تي"، شكّل جيش الاحتلال فريقًا متخصصًا لاستغلال هذه التكنولوجيا للأغراض الاستخباراتية، كما أشارت المصادر في التحقيق الصحفي.
لكن الوحدة 8200 لم تعرف كيفية تطوير نموذج تأسيسي أو حتى كيفية تدريبه، لذا طلبت من شركة "أوبن أي آي" أن تمنحها إذن الوصول إلى نموذجها التأسيسي، وهو النموذج الذي يعتمد عليه الروبوت. لكن الشركة الأميركية رفضت الطلب.
ورغم البداية المتعثرة، جاء اندلاع الحرب على قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، ليسرّع من العملية. استدعى جيش الاحتلال خبراء الذكاء الاصطناعي من القطاع الخاص ضمن فرق الاحتياط، ليعتمد على خبراء من كبرى شركات التكنولوجيا مثل غوغل وميتا ومايكروسوفت، كما أشار التحقيق الصحفي.
استدعى الجيش مهندسي وباحثي نماذج اللغة الكبيرة للعمل ضمن مشروع الوحدة 8200، كما شارك موظفو إحدى شركات الذكاء الاصطناعي الإسرائيلية في هذا المشروع أثناء خدمتهم العسكرية. وقد ساهم هؤلاء الخبراء في تطوير النموذج التأسيسي ضمن شبكات عسكرية مؤمّنة ومعزولة عن الإنترنت.
وبالنسبة لأجهزة الاستخبارات والتجسس، تكمن قيمة النموذج التأسيسي في إمكانية تجميع كل ما جرى جمعه من بيانات ورصد الروابط والأنماط التي يصعب على الإنسان اكتشافها بمفرده، كما ذكر المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة الذكاء الاصطناعي الإسرائيلية "AI21 Labs".
وبحلول أواخر عام 2023، كان المطورون قد جمعوا "كميات هائلة" من بيانات التدريب. ولكن تبين أن عملية جمع بيانات التدريب الضخمة تضمنت كميات كبيرة من الاتصالات التي لا تحمل قيمة استخباراتية تُذكر عن الحياة اليومية للفلسطينيين.
بالنظر إلى الكيفية الفعلية التي يستخدم بها جيش الاحتلال نماذج لغوية أصغر، قد يوسع نموذج اللغة الكبير الجديد من نطاق الجرائم الإسرائيلية في التجسس على الفلسطينيين واعتقالهم.
وذكرت مصادر استخباراتية إسرائيلية أن المشكلة الأكثر إلحاحا في الضفة الغربية لا تكمن بالضرورة في دقة هذه النماذج، بل في النطاق الواسع للاعتقالات التي تتيحها، وأضافت تلك المصادر قائلة إن قوائم المشتبه بهم من الفلسطينيين تتزايد باطراد، مع جمع كميات هائلة من المعلومات باستمرار ومعالجتها سريعًا باستخدام نماذج الذكاء الاصطناعي.
كما أعربت مجموعة من منظمات الحريات المدنية، والمدافعون عن الخصوصية الرقمية، عن خوفهم العميق من تزايد رقابة الذكاء الاصطناعي التي تمارسها إسرائيل، محذرين من أنها تمثل سابقة خطيرة للقمع التقني المتطور، إذ تُستغل كميات هائلة من البيانات الشخصية، بما فيها محادثات أفراد فلسطينيين عاديين لم يُتهموا بأي جريمة، لتدريب نظام تجسس قائم على الذكاء الاصطناعي.
إعلانويُعد استغلال الاتصالات الشخصية لسكان يعيشون تحت الاحتلال بهذه الطريقة انتهاكا جسيما للخصوصية والكرامة الإنسانية.
وحذر الباحث زاك كامبل من منظمة "هيومن رايتس ووتش" قائلاً: "إننا نتحدث عن بيانات شخصية بالغة الحساسية، تُجمع من أفراد لا يُشتبه بهم في أي جريمة، ثم تُوظَّف لاحقًا لتغذية أداة قد تخلق اشتباهًا زائفًا حولهم".
تقنيات المراقبة والتتبعبين "قطيع الذئاب" و"الذئب الأزرق" ثم "الذئب الأحمر"، تقع خصوصية الفلسطينيين فريسة لأنظمة الاحتلال الإسرائيلي وتقنياته الحديثة للمراقبة، من خلال مئات الكاميرات الذكية المثبتة لتتبعهم.
وبات الفلسطينيون في القدس والخليل المحتلتين جزءا من الجغرافيا المستهدفة بأحدث تقنيات التتبع والتعرف التي يستخدمها الاحتلال وتعتمد على الذكاء الاصطناعي، والتي لاقت انتقاد منظمة العفو الدولية لكونها "تمييزا رقميا" ضد الشعب الفلسطيني.
فمثلا، عند نقاط التفتيش الإسرائيلية في الخليل، تمسح كاميرات عالية الدقة وجوه الفلسطينيين قبل السماح لهم بالعبور. يعمل نظام "الذئب الأحمر" في هذه النقاط على تحديد الأفراد تلقائيًا ويقرر هل يمكنهم العبور أو يجب احتجازهم.
في الوقت ذاته، يستخدم جنود الاحتلال تطبيق "الذئب الأزرق" على الهواتف الذكية لمسح وجوه الأشخاص في الشوارع وإضافتها إلى قاعدة بيانات بيومترية، يُقال إنها تحتوي على معلومات شخصية مفصلة عن معظم الفلسطينيين في الضفة الغربية.
لكن حتى وقت قريب، لم توجد مثل هذه الشبكة المعقدة للمراقبة والتتبع في قطاع غزة. إلا أنه بعد طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وسّعت إسرائيل سريعًا من بنيتها التحتية للمراقبة المدعومة بالذكاء الاصطناعي في القطاع، وأدخلت تقنية التعرف على الوجوه كأداة جديدة لتحديد الأفراد وتعقّبهم واستهدافهم، كما أشار تقرير لصحيفة نيويورك تايمز.
إعلانلم تكفِ مراقبة القطاع بالتقنيات المتاحة مع وحدات الاستخبارات الإسرائيلية، لذا استعانت تلك الأجهزة بشركة "كورسايت"، وهي شركة إسرائيلية متخصصة في الذكاء الاصطناعي والتعرف على الوجوه، لتطوير برنامج تعرّف آلي على الوجوه خاص بقطاع غزة.
شرع جيش الاحتلال في نشر كاميرات مزوّدة بتقنية التعرف على الوجوه عند نقاط التفتيش وعلى الطرق الرئيسية لمسح وجوه الفلسطينيين في القطاع.
في الوقت نفسه، يحمل الجنود الإسرائيليون الذين دخلوا غزة كاميرات على رؤوسهم وأجهزة يدوية للتعرف على الوجوه، مما سمح لهم بالتعرف على الأشخاص سريعًا ومطابقة صورهم مع قواعد البيانات الاستخباراتية التي تملكها إسرائيل، كما أوضح تقرير نيويورك تايمز.
وبالطبع، لم تكن تقنيات التعرف على الوجوه التي تقدمها شركة "كورسايت" خالية من العيوب. فقد أقر ضباط الاستخبارات والجنود المشاركون في استخدامها بأنه في بعض الحالات "صنّف النظام المدنيين بصورة خاطئة على أنهم عناصر من حماس"، مما أدى إلى اعتقالهم بصورة تعسفية.
يبرز استخدام إسرائيل لتقنيات التعرف على الوجوه في قطاع غزة كأحد تطبيقات هذه التقنية في الحروب. ويشير أحد باحثي منظمة العفو الدولية إلى أن استغلال إسرائيل لهذه التقنيات "يُجرّد الفلسطينيين من إنسانيتهم" لأنها لا تنظر إليهم كأشخاص. وأضاف أن الجنود الإسرائيليين قد لا يشككون في هذه التقنية حين تتعرف على شخص ما، حتى رغم ارتكابها للأخطاء.
والآن مع تطوير النموذج اللغوي الجديد من بيانات الفلسطينيين، فقد تستخدمه قوات الاحتلال مع تقنيات التعرف على الوجوه لتوسيع نطاق شبكة الرقابة الإلكترونية التي فرضتها على الشعب الفلسطيني.
حملات إسرائيلية للتأثيرقد يظهر هذا النموذج الجديد إلى العلن في أي لحظة، إلا أن إسرائيل لم تكن تدّخر أي جهد في استغلال تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي في حربها ضد الفلسطينيين منذ مدة.
إعلانمثلًا في نهاية مايو/أيار 2024، كشف تقرير من شركة "أوبن أي آي" عن 5 عمليات سرية من عدة دول كانت من ضمنها إسرائيل، استخدمت فيها تلك الدول تقنيات الذكاء الاصطناعي الخاصة بالشركة بغرض التأثير على الرأي العام العالمي.
وذكرت الشركة في تقريرها كيف استخدمت هذه المجموعات، التي يرتبط بعضها بحملات دعائية معروفة، تقنيات الشركة في العديد من "الأنشطة المضللة".
وشملت تلك الأنشطة إنتاج تعليقات ومقالات وصور على وسائل التواصل الاجتماعي بعدة لغات، بالإضافة إلى ابتكار أسماء ونبذات تعريفية لحسابات وهمية، وتعديل الأكواد البرمجية، بجانب ترجمة النصوص وتدقيقها لغويا.
وأوضح تقرير الشركة الأميركية بالتفصيل كيف استخدمت الشركة الإسرائيلية "ستويك" (Stoic)، وهي شركة للتسويق السياسي في تل أبيب، أدوات شركة "أوبن أي آي" لتوليد محتوى مؤيد لإسرائيل حول حرب الإبادة على غزة.
واستهدفت تلك الحملة، التي كانت باسم "زيرو زينو" (Zero Zeno)، الجمهور في الولايات المتحدة وكندا وإسرائيل. كما ذكرت شركة ميتا أنها حذفت 510 حسابات على فيسبوك و32 حسابًا على إنستغرام ارتبطت بنفس الشركة الإسرائيلية.
وكانت مجموعة الحسابات المزيفة التي تضمنت حسابات لأشخاص يتظاهرون بأنهم أميركيون من أصل أفريقي وطلاب في الولايات المتحدة وكندا، غالبا ما ترد على شخصيات بارزة أو مؤسسات إعلامية في منشورات تشيد بإسرائيل وتنتقد معاداة السامية في الجامعات الأميركية وتندد بتيارات "الإسلام الراديكالي".
وبحسب تقرير "أوبن أي آي"، يبدو أن تلك الحملة فشلت في الوصول إلى أي تفاعل يُذكر معها.
ربما كانت إسرائيل أول من يستخدم الذكاء الاصطناعي كسلاح حقيقي للتجسس والقتل والتأثير على الرأي العام، إلا أن التوجه الذي تمثله دولة الاحتلال يعكس جزءًا من الصورة العالمية لتبنّي تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي بشكل أوسع في مجالي الدفاع والاستخبارات.
إعلانفالقوى العالمية الكبرى تستثمر في أدوات الذكاء الاصطناعي، بدءًا من النماذج اللغوية وصولًا إلى خوارزميات الرؤية الحاسوبية، لتعزيز قدراتها العسكرية.
في سبتمبر/أيلول 2023، وفي خطوة كانت تهدف إلى تعزيز إمكانات الاستخبارات الأميركية في معالجة الكم الهائل من البيانات المتاحة أمامها، أعلنت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عن نيتها إطلاق أداة ذكاء اصطناعي مشابهة لروبوت المحادثة "شات جي بي تي"، وفقا لصحيفة بلومبيرغ.
ومن المفترض أن تمنح تلك الأداة المحللين إمكانية الوصول السريع والدقيق إلى المعلومات المتاحة للعامة، وفقًا لما أعلنه مسؤولون في الوكالة حينها.
جاءت تلك الخطوة في إطار مساعي الحكومة الأميركية لاستغلال تقنيات الذكاء الاصطناعي لمواكبة المنافسة العالمية، خاصة مع الصين، التي تسعى إلى تصدر هذا المجال بحلول عام 2030.
وأشارت التقارير حينها إلى أن وكالات الاستخبارات الأميركية لم تكن تستغل بالصورة الكافية؛ البيانات المتاحة للعامة، مما دفعها إلى تطوير هذه الأداة التي ستتيح للمحللين إمكانية تتبع المصادر الأصلية للمعلومات والتفاعل معها من خلال واجهة محادثة متطورة.
وفي المملكة المتحدة، يتزايد اعتماد وكالات الاستخبارات البريطانية على أنظمة الذكاء الاصطناعي لتحليل الكميات الضخمة من البيانات التي تمتلكها، إذ يعتمد جهازا "إم آي 5″ و"إم آي 6" بصورة متكررة على هذه البيانات التي تُجمع من مصادر مغلقة ومفتوحة، ويمكن الحصول عليها أيضًا بوسائل سرية، كما أشار تقرير صحيفة الغارديان في أغسطس/آب 2023.
أوضح بعض الخبراء حينها أن وكالات الاستخبارات البريطانية تستخدم الذكاء الاصطناعي منذ سنوات، وتدرب نماذج تعلم الآلة فعلًا باستخدام تلك البيانات.
وأشاروا إلى أن الزيادة الهائلة في نوع وحجم هذه البيانات ضخمت من فائدة أدوات الذكاء الاصطناعي بالنسبة لأجهزة الاستخبارات البريطانية.
إعلانورغم أن الذكاء الاصطناعي يبدو كما لو كان الورقة الرابحة في أي صراع في الوقت الحالي، فإن هزيمته ممكنة وانتصاره ليس قدرًا محتومًا. فكما لا تستطيع إسرائيل تطوير أدواتها وحدها، وتعتمد كثيرًا على التقنيات التي تُطور في الدول المتحالفة معها والداعمة للإبادة، فإن المقاومة يمكن أن تستفيد من توسيع جبهتها. فلا يتوقع أحد أن تُطور نماذج ذكاء اصطناعي لتحارب إسرائيل في بيت حانون أو في رفح، لكن النماذج التي يمكن أن تُطور في عواصم العالم الداعمة لفلسطين، يمكنها أن تفيد المقاومة.
ولا يمكن تجاهل أن إسرائيل كانت دومًا الأكثر تفوقًا في التقنية والسلاح، ورغم ذلك استطاعت المقاومة العربية والفلسطينية مفاجأتها مرات عديدة عبر تاريخها، واستطاع الفلسطيني إثبات قصور التقنية وإظهار أوجه الضعف لدى الاحتلال. وإسرائيل ليست بدعًا في التفوق التقني على أعدائها، فكذلك كانت الولايات المتحدة في فيتنام، وبريطانيا في الهند، وكذلك كان الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، ومثله كانت فرنسا في الجزائر، وكانت بلجيكا في الكونغو، وهولندا في إندونيسيا، وجميع هؤلاء المعتدين رحلوا بعد أن انتصرت مقاومة الشعوب على أصحاب السلاح والتقنية ومطوريها.
وإذا كان الذكاء الاصطناعي يمكنه إيقاع أفظع الأذى وأشد الضرر، فإن تبرير هذا الأذى وإعطاءه الشرعية لن يقدر عليه الذكاء الاصطناعي ولا مطوروه، لذلك فإن المقاومة التقليدية الشاملة، والتي تدخل ضمنها حملات الضغط والمقاطعة الاقتصادية، والحملات الإعلامية والصحافة الشعبية، والتواصل الدبلوماسي، وبالتأكيد تطوير التقنيات المقاومة واستكشاف ثغرات التقنيات المعادية، كلها ستكون كفيلة بأن تؤكد للعالم مرة أخرى أن الشرعية ليست مرادفة للقوة العسكرية، وأن الذكاء الاصطناعي له حدود، لا يعرفها الإنسان.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات رمضان أبعاد الذکاء الاصطناعی التولیدی الاستخبارات الإسرائیلیة تقنیات الذکاء الاصطناعی أدوات الذکاء الاصطناعی الذکاء الاصطناعی ا التعرف على الوجوه اللغة العربیة ذکاء اصطناعی جیش الاحتلال قاعدة بیانات هذا النموذج من البیانات شات جی بی تی أوبن أی آی من بیانات الوحدة 8200 قطاع غزة من خلال نموذج ا التی ت إلى أن سریع ا
إقرأ أيضاً:
أخلاقيات الإبداع: مستقبل العلاقة الجدلية بين الذكاء الاصطناعي والملكية الفكرية
في الأسبوع الأخير من شهر يونيو 2025، أصدر قاضٍ فدرالي أمريكي حكماً يقضي بأن استخدام شركة الذكاء الاصطناعي “أنثروبيك” للكتب دون إذن مؤلفيها لتدريب النموذج اللغوي الكبير “كلود” لا ينتهك قانون حقوق الطبع والنشر الأمريكي، وينطبق عليه مبدأ “الاستخدام العادل”. وهذا المسوغ نفسه الذي استند إليه قاضٍ آخر أصدر حكماً في الأسبوع ذاته لصالح شركة “ميتا” في دعوى قضائية رفعها 13 كاتباً اتهموا فيها الشركة باستخدام كتبهم المحمية بحقوق النشر لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها دون إذن؛ حيث رأى القاضي أنهم لم يقدموا أدلة كافية على أن الذكاء الاصطناعي سيُسبب “تأثيراً سلبياً في السوق” بإغراقها بأعمال مشابهة لأعمالهم، واعتبر أن استخدام “ميتا” لأعمالهم كان عادلاً.
وتُمثل تلك الأحكام غير المسبوقة تحولاً بارزاً في الصراع الدائر بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين والمؤلفين حول مشروعية استخدام مصادر البيانات الثقافية ذات الطابع الإبداعي كمدخلات تدريبية للنماذج الذكية دون إذن أو تعويض، وتطبيق وصف “الاستخدام التحويلي” على مخرجات النماذج اللغوية الضخمة باعتبارها تخلق شيئاً جديداً يتجاوز حدود النسخ والنقل الحرفي، بما ينفي تُهم السرقة والانتهاك عنها؛ وهو ما يحمل دلالات مهمة بشأن مستقبل تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي واستثماراتها وعلاقاتها التعاقدية وأُطرها القانونية والتنظيمية، كما يطرح تساؤلات جادة حول مستقبل العلاقة بين الملكية الفكرية والتكنولوجيا الإبداعية.
الاستخدام العادل:
يُمثل “الاستخدام العادل” (Fair Use) بنداً استثنائياً في قانون حقوق النشر الأمريكي، يسمح باستخدام الأعمال المحمية دون إذن المالك، بشرط أن يكون الاستخدام عادلاً ومقتصداً، وبالرغم من أنه لا يحدد بدقة ما المقصود بالـ”العادل”؛ فإنه يضع أربعة معايير لتقييم كل حالة على حدة، وهي: طبيعة الاستخدام من حيث كونه تجارياً أو غير ذلك وبحيث يميل الاستخدام للأغراض غير الربحية لأن يكون استخداماً عادلاً، وطبيعة العمل الأصلي بحيث تكون الأعمال التي تحقق منافع عامة مثل الكتب العلمية أقرب لتطبيق ذلك المبدأ، بالإضافة إلى المقدار المستخدم من حيث كونه واسعاً أو محدوداً، وأخيراً الأثر على السوق إذا كان هناك ضرر اقتصادي يلحق بقيمة أو بيع العمل الأصلي.
والحقيقة أن هذا المبدأ لا يُعد جديداً، وإنما ترجع جذوره التاريخية إلى حكم قضائي أمريكي عام 1841 في نزاع حول استخدام مراسلات لجورج واشنطن في كتاب عن سيرته الذاتية نقلاً عن كتاب آخر؛ حيث تضمن الحكم التاريخي أن “الاختصار العادل والحسن النية للعمل الأصلي، لا يُعد قرصنة لحقوق الطبع والنشر للمؤلف”، ثم أدرجه الكونغرس ضمن المادة 107 من قانون حقوق الطبع والنشر عام 1976، محدداً العوامل الأربعة السابق الإشارة إليها.
وبالرغم من قدم مبدأ “الاستخدام العادل”، وتعدد حالات استخدامه؛ فإنه يحمل دلالات خاصة في سياق الذكاء الاصطناعي، بالنظر إلى الملاحظات التالية:
1- الجدل حول “الاستخدام التحويلي”: يُمثل إعمال “الاستخدام التحويلي” على مخرجات النماذج اللغوية الكبيرة، تطوراً جوهرياً في تأويل هذا المفهوم القانوني الذي يشير إلى استخدام العمل الأصلي لغرض جديد يغير من طابعه أو رسالته. فعلى الرغم من أن التطبيقات الإبداعية التقليدية تعتمد في الأغلب على تحويل نصوص محددة يمكن تمييز بصمتها في العمل الجديد؛ فإن مخرجات النماذج اللغوية تعتمد على معالجة كمية ضخمة من النصوص؛ مما يجعل العلاقة بينها وبين النصوص الأصلية أقل وضوحاً؛ ما تسبب في حالة الجدل القائمة حول ما إذا كان استخدام هذه النصوص في التدريب، بالرغم من أنه لا يُنتج عادةً اقتباسات مباشرة، يُعد استخداماً تحويلياً من الناحية القانونية، خاصةً عندما يكون الغرض هو تطوير قدرات تفاعلية مستقلة للنموذج وليس تكرار المحتوى الأصلي.
2- مدى القدرة على إثبات الضرر: إن وصف الاستخدام بأنه “تحويلي” لا ينفي بشكل قطعي إمكانية وقوع انتهاك لحقوق الملكية الفكرية؛ وهو ما أشار إليه قاضي المحكمة الجزئية الأمريكية، فينس تشابريا، في قضية “ميتا”؛ حيث أشار إلى أن الحكم الذي أصدره “لا يدعم الادعاء بأن استخدام ميتا للمواد المحمية بحقوق الطبع والنشر لتدريب نماذجها اللغوية قانوني، وإنما يدعم فقط الادعاء بأن المؤلفين المُدعين قدموا حججاً خاطئة ولم يقدموا سجلاً يدعم الحجج الصحيحة”؛ ما يعني أن الأمر مرهون بإثبات أصحاب الحقوق أن ثمة ضرراً في السوق الأصلي أو أن جزءاً كبيراً من المحتوى قد أُعيد إنتاجه.
3- تعقُّد عمليات التدريب الآلي: تتضمن هذه العمليات تجاوزات قانونية تتصل بتخزين نصوص أصلية مقرصنة ضمن المكتبات المركزية المستخدمة في هذه العمليات. فعلى الرغم من أن القاضي في قضية “أنثروبيك” أكد أن الشركة لم تنتهك حقوق الطبع والنشر عندما قامت بتدريب الذكاء الاصطناعي على الكتب دون إذن مؤلفيها؛ فإنه مع ذلك اعتبر أن نسخ “أنثروبيك” وتخزينها لأكثر من سبعة ملايين كتاب مقرصن في مكتبة مركزية يُعد انتهاكاً لحقوق الطبع والنشر، وأن شراء الشركة للكتب بعد قرصنتها في وقت سابق لا يعفيها من المسؤولية القانونية عن “السرقة”. وهذا يسلط الضوء على الحاجة إلى إطار تعاقدي وتنظيمي واضح يضبط حدود استخدام المحتوى الإبداعي من قِبل أنظمة الذكاء الاصطناعي، ويعيد توازن العلاقة بين المبدعين ومطوري التكنولوجيا.
4- تحديات قانونية عابرة للحدود: إن مبدأ “الاستخدام العادل” الذي يُمثل حجر الزاوية في الأحكام التي أصدرها القضاة الأمريكيون، غير معتمد في العديد من الأنظمة القانونية حول العالم؛ ما يثير تحديات قانونية عابرة للحدود لا سيّما مع توسع شركات التكنولوجيا في استخدام المحتوى المنشور في دول مختلفة. فعلى سبيل المثال، تعتمد المملكة المتحدة، والهند، وجنوب إفريقيا، وأستراليا، مبدأ “التعامل العادل” (Fair Dealing)، والذي يُعد أكثر تقييداً وصرامة من النموذج الأمريكي؛ إذ ينص على حالات محددة يسمح فيها باستخدام العمل الأصلي دون إذن، مثل الأغراض التعليمية أو النقد أو البحث، مع اشتراط عدم إلحاق ضرر بمالك حقوق النشر. ويطرح هذا التباين إشكاليات بشأن صياغة إطار قانوني عابر للحدود يمكن من خلاله ضبط استغلال الأعمال الأصلية، لا سيّما مع النظر إلى أن التعلم الآلي يستمد قوته من التدريب على نطاق كبير من البيانات الضخمة والمتنوعة التي لا يمكن أن تتوفر ذاتياً دون التمدد خارجياً.
5- صعوبة تحديد المقدار المستخدم: يعتمد أحد المعايير المحددة لـ”الاستخدام العادل” على الكمية المستخدمة من النص الأصلي والتي يصعب تحديدها إلى حد بعيد في سياق الذكاء الاصطناعي، والذي يتطلب تدريباً على كميات هائلة من البيانات؛ مما يجعل من الصعب تقييم ما إذا كان الاستخدام جزئياً أم كلياً.
حلول مُقترحة:
على الرغم من إصدار القاضي الأمريكي، فينس تشابريا، قراراً لصالح شركة “ميتا”؛ فإنه أشار إبان إصدار حكمه إلى مخاوفه بشأن تقويض البشر المبدعين؛ حيث قال إن الذكاء الاصطناعي التوليدي لديه القدرة على إغراق السوق بصور وأغانٍ ومقالات وكتب لا نهاية لها باستخدام جزء صغير جداً من الوقت والإبداع الذي قد يكون مطلوباً لإنشائها، وهو ما يشير إلى مخاوف واسعة بشأن التوازن العادل والمسؤول فيما يتعلق بتطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي.
فما بين عامي 2023 و2025، بلغ عدد الدعاوى القضائية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي وحقوق النشر في الولايات المتحدة وحدها 22 قضية، ضمت كبرى شركات ناشري الكتب والأخبار ومنتجي الموسيقى ووكالات الصور وشركات الأبحاث والدراسات، في مقابل شركات التكنولوجيا العملاقة مثل “مايكروسوفت” و”ميتا” و”أوبن أيه آي” و”إنفيديا” و”جوجل” وغيرها؛ حيث يتمحور أغلب هذه الدعاوى في اتهام منتجات الذكاء الاصطناعي باستغلال المنتجات الإبداعية الأصلية دون إذن وتكبيد الشركات مالكة الحقوق خسائر فادحة بما يهدد قدرتها على الاستمرار.
وتُعبر تلك الدعاوى عن المخاوف المتزايدة لدى العاملين والمستثمرين في المنتجات الثقافية والإبداعية من المنافسة غير المتوازنة التي يفرضها الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ وهو ما لا تعكسه الدعاوى القضائية فحسب، وإنما تعبر عنه أيضاً استطلاعات الرأي بين العاملين في الصناعات؛ إذ أظهر استطلاع للرأي نشرت نتائجه نقابة المؤلفين الأمريكيين عام 2023 وشمل أكثر من 1700 كاتب من خلفيات متنوعة، أن 90% من الكتَّاب يعتقدون أن المؤلفين يجب أن يحصلوا على تعويض إذا تم استخدام أعمالهم لتدريب تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدية، وأن 65% يدعمون نظام ترخيص جماعي من شأنه أن يدفع للمؤلفين رسوماً مقابل استخدام أعمالهم في تدريب الذكاء الاصطناعي.
ويُعد مقترح التراخيص الجماعية إحدى الأطروحات الأساسية التي يتم طرحها كجزء من تنظيم قانوني متوازن يحل تلك المعضلة المتفاقمة بشأن حقوق النشر والذكاء الاصطناعي. ففي نهاية العام 2024، قدم وزير الدولة البريطاني للعلوم والابتكار والتكنولوجيا آنذاك، ورقة استشارية للبرلمان في هذا الشأن، تطرح آلية تمويل التراخيص الجماعية من خلال مساهمات مطوري أنظمة الذكاء الاصطناعي الذين يستخدمون المحتوى المحمي في تدريب نماذجهم؛ حيث يتم تحديد رسوم الترخيص بناءً على حجم ونوع الاستخدام، مع إمكانية اعتماد نموذج تمويل يقوم على تحصيل رسوم من المستخدمين ثم توزيعها على أصحاب الحقوق بشكل متناسب مع معدل استخدام أعمالهم، هذا إلى جانب إنشاء صندوق مركزي تديره جهة تنظيمية مستقلة كجزء من هيئة الملكية الفكرية البريطانية لضمان شفافية عملية التمويل والتوزيع، مع إمكانية دعم هذا النظام من خلال رسوم إضافية على خدمات الذكاء الاصطناعي التجارية أو عبر تخصيص جزء من عائدات الشركات المطورة لهذه النماذج.
أُطر أخلاقية مستدامة:
تُعد حقوق النشر جزءاً من قضية أوسع تتعلق ببناء نظم تدريب آلي مستدامة ومبنية على المسؤولية الأخلاقية؛ إذ تكمن المشكلة الرئيسية في عدم كشف الشركات المطورة للنماذج الذكية عن مصادر البيانات المستخدمة في تدريب نماذجها بشكل دقيق؛ مما يشكل أزمة شفافية حقيقية، تستبدل فيها الشركات الإفصاح الواضح عن طبيعة البيانات المستخدمة، باستخدام عبارات غامضة مثل “بيانات الإنترنت” أو “المصادر المفتوحة”، وهي صياغات لا تُعد كافية لضمان الشفافية أو الالتزام بالمسؤولية الأخلاقية، خاصةً مع وجود أدلة على استخدام قواعد بيانات مقرصنة مثلما الحال في قضية “أنثروبيك”؛ وهو ما يضع تلك الشركات في مواضع الشك والاتهام من حيث التزامها بمبادئ النزاهة والشفافية، وبما يؤثر سلباً في القيمة السوقية للمنتجات الأصلية والنماذج الذكية على السواء، فضلاً عن تحديات استمرارية الصناعات الثقافية والإبداعية.
وفي ضوء مفاهيم الذكاء الاصطناعي الأخلاقي والمسؤول، تبرز الحاجة إلى التزام شركات الذكاء الاصطناعي بحوكمة سياساتها المتعلقة بتدريب النماذج الآلية، وخاصةً في الجانب المتعلق ببيانات التدريب؛ من أجل تأسيس بنية تحتية أكثر عدالة وشفافية في هذا المجال تضمن علاقة متوازنة بين تطوير النماذج الآلية وحقوق النشر؛ وهو ما يبدأ مع تنظيم العلاقة التعاقدية بين شركات الذكاء الاصطناعي وأصحاب الحقوق وذلك ضمن بنية قانونية واضحة لضبط استخدام البيانات، تتضمن شروط الاستخدام وحدود الترخيص ونماذج التوزيع العادل للعوائد، لا سيّما مع الاستخدام الربحي والتجاري لتلك المشروعات.
وإلى جانب التنظيمات القانونية المتعلقة بمراعاة حقوق المبدعين، يبدو إنشاء شراكات مباشرة بين الشركات التكنولوجية ودور النشر والمبدعين، خطوة مهمة نحو تسوية قانونية عادلة لاستخدام المحتوى الإبداعي في تدريب النماذج. وهذه الشراكات لا تُعزز فقط شرعية مصادر البيانات، بل تفتح أيضاً آفاقاً لتعويضات عادلة لأصحاب الحقوق، سواء أكانت مالية مباشرة أم شراكات في التطوير التكنولوجي. وفي هذا السياق، برزت الشراكة التي أعلنت عنها شركة “أوبن إيه آي” مع صحيفة “الغارديان” البريطانية في فبراير 2025.
من ناحية أخرى، يُعد الإفصاح عن مصادر بيانات التدريب أحد الأعمدة الأساسية لحوكمة الذكاء الاصطناعي، وقد اتخذ الاتحاد الأوروبي موقفاً واضحاً في هذا الصدد عبر قانون الذكاء الاصطناعي الذي أقره البرلمان الأوروبي في 13 مارس 2024 ويُطبق تدريجياً حتى عام 2026؛ وهو يفرض على مطوري النماذج التوليدية التزاماً بالكشف عن المحتوى المحمي الذي تم استخدامه في تدريب النماذج، ويضع آليات رقابة وعقوبات واضحة على الشركات التي تنتهك متطلبات الشفافية.
ولا يستقيم ذلك سوى مع مراقبة الالتزام بالمعايير القانونية والأخلاقية في تجميع البيانات؛ وهو ما يتم الاسترشاد فيه بمبادئ الذكاء الاصطناعي المسؤول كما وردت في توصيات منظمة اليونسكو، إلى جانب اللوائح الأوروبية، والتي تُعد من أبرز الأُطر التي تدعو إلى تعزيز الشفافية والعدالة في تجميع البيانات. مع الأخذ في الاعتبار دور المجتمعات الأكاديمية والمؤسسات البحثية في بناء بيئة معرفية مرخصة وشفافة تُمكّن من تطوير الذكاء الاصطناعي ضمن إطار قانوني وأخلاقي، ويمكن هنا الإشارة إلى إطلاق جامعة هارفارد في ديسمبر 2024 مجموعة بيانات عالية الجودة تضم ما يقرب من مليون كتاب متاح للعامة، يمكن لأي شخص استخدامها لتدريب نماذج لغوية كبيرة وأدوات ذكاء اصطناعي أخرى، ضمن مبادرة تم تمويلها من “مايكروسوفت” و”أوبن إيه آي”.
ختاماً، إن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي وحقوق النشر تمر بمرحلة انتقالية حرجة؛ حيث تواجه التشريعات الوطنية والدولية تحديات كبيرة في موازنة الحوافز الاقتصادية والابتكارية مع حماية الإبداع البشري وحقوق المؤلفين، وتشير الأحكام القضائية الأخيرة في الولايات المتحدة إلى تحول قانوني واضح؛ ولكنه ليس نهائياً وشاملاً، بالنظر إلى تحديات قانونية عديدة تلتبس مفهوم “الاستخدام العادل” ذاته وتطبيقه في سياق الذكاء الاصطناعي من ناحية، إلى جانب إشكاليات تطبيقه عبر الحدود وقبوله دولياً من ناحية أخرى، ما يؤشر على الحاجة لحلول أكثر عدلاً وواقعية تستند إلى نظام مستدام ومتوازن يحفظ العلاقة بين حماية الملكية الفكرية ودعم الابتكار التكنولوجي، سواء من خلال نظام تراخيص جماعية، أم آليات تعويض عادلة، أم تشجيع استخدام البيانات العامة والمفتوحة؛ من أجل بيئة إبداعية وتقنية مبنية على أساس من العدالة والشفافية والمسؤولية المشتركة.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”