في المدة الأخيرة، تعرّض لاعبا الفريق الوطني التونسي لكرة القدم عيسى عيدوني ونعيم السليتي إلى حملة "تنمّر" كبيرة بسبب ما تسميه النخب "الحداثية" في تونس بـ"اللباس الطائفي"، أي ذلك اللباس الوافد من المشرق وغير المعبّر عن "الهوية التونسية"، بل ذلك اللباس المهدد عند بعضهم "للنمط المجتمعي التونسي" مثلما هدّده سابقا "الحجاب" قبل أن تُطبّع الدولة ونخبها "الحداثية" معه عند فقدانه لدلالاته السياسية.

ويمكن اعتبار السجال الحالي حلقة في سلسلة طويلة من القضايا المعبّرة عن عمق العلاقة الاعتباطية بين الادعادات النظرية للنخب الحداثية التونسية وبين مواقفها الواقعية، أو على الأقل القضايا المعبّرة عن اتساع الشقة بين الأغلب الأعم من تلك النخبة وبين المبدئية وعدم الازدواجية في المعايير.

وسنحاول في هذا المقال أن نفهم أسباب هذه المخاوف المَرضية على "الهوية التونسية" من كل خيار فكري أو سلوكي لا يخالف القانون؛ ولكنه يُشيطَن بصورة ممنهجة لمجرد عدم مطابقته للانحيازات التأكيدية للنخب "الحداثية" من جهة أطروحاتها حول بعض القضايا مثل "الهوية الجماعية" وحول دور الدين في بناء المشترك الوطني، ودور "الإسلاميين" في هندسة الفضاء العام بعيدا عن منطق التنافي والصراع الوجودي بينهم وبين العلمانيين.

لفهم الجذر الأعمق للفزع "الحداثي" مما يسمّونه "اللباس الطائفي" للاّعبَين المذكورَين أعلاه، قد يكون علينا ألا نعود فقط إلى اللحظة التي مثلت فيها "الدمية فلة" -أو باربي المحجبة- قضية وطنية تجنّد لها الحداثيون والحداثيات دفاعا عن "النمط المجتمعي التونسي"
لفهم الجذر الأعمق للفزع "الحداثي" مما يسمّونه "اللباس الطائفي" للاّعبَين المذكورَين أعلاه، قد يكون علينا ألا نعود فقط إلى اللحظة التي مثلت فيها "الدمية فلة" -أو باربي المحجبة- قضية وطنية تجنّد لها الحداثيون والحداثيات دفاعا عن "النمط المجتمعي التونسي". فرغم أهمية هذه اللحظة المعبّرة عن التعامد الوظيفي بين السلطة والنخب "الحداثية" بما في ذلك تلك التي تدعي الاستقلالية (مثل تحريض المنظمات النسوية وغيرها على الدمية فلّة بالتوازي مع تحريض الكثير من الأصوات الحداثية المعارضة للنظام على المحجبات وتبرير قمعهن)، فإنها لا تمثل لحظة البدء لما يمكن تسميته بـ"العنصرية الثقافية" أو "العنصرية التفاضلية" في تونس بعد الاستقلال الصوري عن فرنسا. وهو ما يعني أننا نعتبر أنّ ميلاد العنصرية الثقافية بالمعنى السائد عند النخب الحداثية لا ينفصل عن ميلاد الدولة-الأمة وأساطيرها التأسيسية.

يدلّ مصطلح العنصرية الثقافية على "التحيز والتمييز على أساس الاختلافات الثقافية بين المجموعات الإثنية" وكذلك على "أنّ بعض الثقافات تتفوق على غيرها"، ولكنّ ما يعنينا هنا هو مصادرة العنصرية الثقافية على "أنّ الثقافات المتنوعة غير متوافقة بشكل أساسي ويجب ألا تتعايش في نفس المجتمع أو الدولة". فالدولة-الأمة التي أراد بورقيبة بناءها -أو بالأحرى أوكلت له مهمة بنائها في مرحلة الاستعمار غير المباشر- هي دولة تقوم على استبطان دونية الأشكال الثقافية الأهلية، بل دونية الهوية الجماعية وجذورها الدينية الإسلامية، وبالتالي ضرورة التحديث بمنطق الوصاية والقرارات الفوقية. وهو ما يعني أن الهندسة الاجتماعية والسياسية والثقافية الخ للمجتمع التونسي لم تعد مسألة تهم "المجتمع الأهلي"، بل أصبحت مسألة تهم الدولة وملحقها الوظيفي الذي سيتكرس تحت اسم "المجتمع المدني".

في سياق استعماري غير مباشر، كانت "تَونسة" النموذج اللائكي اليعقوبي الفرنسي تعني أن تصبح عملية التحديث مرادفة لتبنّي "العنصرية الثقافية" باعتبارها سياسة دولة. فبناء الدولة-الأمة على النمط الحديث كان يعني القضاء التدريجي على كل تعبيرات الهوية ما قبل الاستعمارية -بما في ذلك التعبيرات المرئية مثل البرقع و"السفساري" وبعض أشكال اللباس التقليدي الريفي.. الخ- التي لا تتوافق مع مشروع "الزعيم" لتحديث الفضاء العام. ولن ندخل هنا في قضايا تتعلق بدور الهندسة الاجتماعية "البورقيبية" -أو ما يسمى بالنمط المجتمعي- في بناء منظومة الاستعمار الداخلي ونواتها الصلبة (المركّب الجهوي-المالي-الأمني)، كما لن نطرح قضية تحوّل "التحديث" في بلد لا يملك مقوّمات السيادة إلى مجرد "مجاز" يخفي حقيقة التبعية في كل مستوياتها وبكل أشكالها، فكل ما يعنينا هو التذكير بأن "العنصرية الثقافية" تصلح أن تكون مدخلا من مداخل إعادة كتابة تاريخ "الدولة الوطنية" في مرحلة الاستعمار غير المباشر. فما يُسمى بعملية "التحديث" هو في جوهره "عنصرية ثقافية" مورست بمنطق جهوي وأيديولوجي تخفى تحت استعارة بناء "الدولة" حينا، وتجلّى في سرديات الخوف على "الدولة" ومكتسباتها حينا آخر.

رغم كل الادعاءات الذاتية للنخب "الحداثية"، فإن أغلبهم قد أكّدوا أنهم عاجزون -بحكم خلفيتهم اللائكية المعادية للدين من جهة، وبحكم سردياتهم الكبرى ذات الجوهر اللا ديمقراطي فكرا وممارسة من جهة أخرى- على بلوغ مرحلة "التسامح"، فما بالك بتجسيد قيمة "الاحترام" أو "التوقير" لمن لا يشبهونهم، أي لأولئك الذين من الاختلاف خارج دائرة التجانس. فمن ضاقت صدورهم بـ"دمية محجّبة" وبـ"قميص لاعب"، سيكون من الصعب علينا أن نصدّق أنهم يدافعون عن أي منظومة قيمية أو عن أي قضايا تتجاوز قضاياهم الصغيرة، إذا كان "الحداثي" يرفض التكفير لأنه "عنف رمزي" يحرّض على العنف المادي ضد المخالفين ويسلبهم حقهم في التفكير والاعتقاد، فلماذا يمارس هذا الحداثي "ذاته" "العنف الرمزي" أو "التكفير المُعلمن" على من يخالفونه ويحرّض عليهم قبل الثورة وبعدها؟كما سيكون من العسير علينا أن نرى لهم أية دور يتجاوز دورهم في خدمة منظومة الاستعمار الداخلي باعتبارها راعية "النمط المجتمعي التونسي" (أي نمط الخيارات الجهوية والريعية والزبونية والتغريبية) في مرحلة الاستعمار غير المباشر.

ختاما، قد يكون على الكثير من المتصدرين للتوقيع عن "النمط المجتمعي" أن يطرحوا على أنفسهم بعض الأسئلة لملء مكانهم/مكانتهم بعيدا عن شبكات الفهم والقراءة المفوّتة: إذا كان جوهر التنوير هو رفض وصاية الآخرين على العقل، فبأي حق يريد "الحداثي" أن يمارس وصايته على غيري؟ إذا كان "الحداثي" يرفض التكفير لأنه "عنف رمزي" يحرّض على العنف المادي ضد المخالفين ويسلبهم حقهم في التفكير والاعتقاد، فلماذا يمارس هذا الحداثي "ذاته" "العنف الرمزي" أو "التكفير المُعلمن" على من يخالفونه ويحرّض عليهم قبل الثورة وبعدها؟ إذا كان "النمط المجتمعي التونسي" صلبا وذا شرعية جماعية -أي معبّرا عن خيارات فئات المجتمع التونسي ومصالحهم الرمزية والمادية، وليس فقط عن خيارات نخبه وقضاياهم الصغيرة- فلماذا تضيق صدور "الحداثيين" بكل تعبيرة لا تجسد نماذجهم الفكرية والسلوكية، ولماذا يفزعون من أي دعوة لاستئناف التفاوض الجماعي في شأن المشترك الوطني بمشاركة "الإسلاميين" أو حتى عموم المواطنين من المحافظين والمهمشين؟

إنها بعض الأسئلة التي قد يكون على النخبة "الحداثية" -إذا ما أرادت تجاوز عطالتها النظرية والميدانية- أن تتدبرها بعيدا عن الصور/التمثلات النمطية للذات وللآخر في مرحلة الاستعمار غير المباشر.

x.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسي الهوية تونس اسلام هوية حداثة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة صحافة اقتصاد اقتصاد سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العنصریة الثقافیة قد یکون إذا کان

إقرأ أيضاً:

الوزير الأول يُستقبل من قبل الرئيس التونسي قيس السعيد

استُقبل الوزير الأول، سيفي غريب، اليوم الخميس ، بقصر قرطاج، من قبل رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد، حيث نقل إليه التحيات الأخوية لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون. و حرصه الكامل على توطيد الروابط الأخوية بين الشعبين الشقيقين و تعميق التعاون الثنائي في شتى المجالات.

و  أعرب الرئيس قيس سعيد عن بالغ تقديره لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون. منوها بسنة التواصل المستمر بينهما بغية تعزيز التعاون الثنائي وتمتين الروابط الأخوية بين الشعبين الشقيقين اللذين يجمعهما تاريخ نضالي مجيد ومصير مشترك.

كما أضاف الرئيس قيس سعيد بأن الجزائر وتونس بوصفهما بلدين يتقاسمان العديد من عوامل التكامل على كل الأصعدة وفي جميع المجالات. سيواصلان سويا العمل من أجل ترقية التعاون الثنائي وتطوير الشراكة والاستثمارات البينية من أجل بلوغ أعلى مراتب الاندماج وتحقيق الرفاه المشترك الذي يصبو إليه شعبا البلدين. وكذا في سبيل مواجهة التحديات التي يشهدها العالم. مشيدا بالخصوص بتوافق رؤى البلدين بشأن القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك.

الرئيس التونسي يشيد بمستوى العلاقات الثنائية

و  أشاد رئيس الجمهورية التونسية بمستوى العلاقات الثنائية داعيا إلى مواصلة الجهود المشتركة لتكثيف المبادلات الاقتصادية. والارتقاء بها إلى مستوى إمكانيات البلدين، ومعربا عن تمنياته بالنجاح لأشغال الدورة الثالثة والعشرين. للجنة المشتركة الكبرى الجزائرية التونسية التي ستنعقد أشغالها يوم غد. مع تشديد سيادته على ضرورة متابعة وتجسيد مخرجاتها بشكل يضمن تحقيق النتائج المرجوة. منها لفائدة الشعبين الشقيقين.

ومن جهته، أشاد الوزير الأول بعمق الروابط التاريخية التي تجمع البلدين والشعبين الشقيقين. وحرص قيادتيهما على الارتقاء بالتعاون الثنائي إلى مصاف الشراكة الاستراتيجية المندمجة، منوها بحرص حكومتي البلدين. على تجسيد هذه الأهداف الطموحة. لاسيما من خلال استغلال كافة فرص الشراكة المتاحة في جميع المجالات.

كما أكد الوزير الأول أن انعقاد هذه الدورة للجنة المشتركة الكبرى يأتي في إطار تنفيذ التوجيهات السامية لرئيس الجمهورية. عبد المجيد تبون وأخيه الرئيس قيس سعيد. مضيفا بأن المنتدى الاقتصادي الجزائري التونسي الذي ستنعقد أشغاله اليوم بتونس. يصب ايضاً في نفس التوجه الرامي إلى بناء شراكة اقتصادية. قوية وفق مقاربة تكاملية وتضامنية واندماجية.

وكان الوزير الأول مرفوقا خلال هذا اللقاء بوزير الدولة، وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج والشؤون الأفريقية، السيد أحمد عطاف. وسفير الجزائر لدى الجمهورية التونسية عزوز باعلال.

مقالات مشابهة

  • التمكين الاقتصادي للنساء اليمنيات.. ركيزة أساسية للنهوض المجتمعي
  • سعيود يجري محادثات ثنائية مع نظيره التونسي
  • خبير سياسي: مصر الوحيدة التي تواجه المشروع الدولي لتقسيم سوريا وتفكيك الدولة
  • تونس: افتتاح أشغال المنتدى الاقتصادي الجزائري-التونسي
  • الوزير الأول يُستقبل من قبل الرئيس التونسي قيس السعيد
  • جامعة قناة السويس تعزّز دورها المجتمعي بسلسلة ندوات توعوية وتربوية تستهدف طلاب المدارس
  • وزير المالية يبدأ الحوار المجتمعي حول الحزمة الثانية للتسهيلات الضريبية من اتحاد الغرف التجارية
  • بدء الحوار المجتمعي حول الحزمة الثانية للتسهيلات الضريبية
  • المالية تبدأ جلسات الحوار المجتمعي للحزمة الثانية من التسهيلات الضريبية.. تفاصيل
  • البريمي تحتفي بذوي الإعاقة عبر مهرجان يعزز الدمج المجتمعي