على خلاف المواقف التي كانوا يبدونها في السابق حيال الاحتجاجات الشعبية، أيد مشايخ عقل الطائفة الدرزية الثلاثة في محافظة السويداء السورية حراك الشارع المتواصل منذ خمسة أيام بطريقتهم الخاصة، ونشروا بيانا مشتركا حددوا فيه 6 مطالب، بعدما "بلغ الكتاب أجله"، حسب تعبيرهم.

ويعتبر الموقف الجديد الخاص بالمشايخ، حكمت الهجري ويوسف الجربوع وحمود الحناوي، "لافتا" قياسا بذاك الذي كانوا عليه خلال السنوات الماضية، وعندما كان المئات من سكان المحافظة يخرجون بمظاهرات شعبية بين الفترة والأخرى، وينادون بمطالب سياسية ومعيشية.

وجاء بيان نشر الخميس لـ"دار طائفة المسلمين الموحدين الدروز في سوريا" أنها تؤكد على مطالب المحتجين "المحقة"، "في إعطاء الحقوق لأصحابها ونيل العيش الكريم، التي فقدت جل مقوماته بسبب الفساد المتفشي والإدارة الفاشلة، وترحيل المسؤوليات، واعتماد اللامبالاة منهجا، وهو ما أهلك البلاد والعباد".

وينادي المحتجون في شوارع السويداء، منذ الأسبوع الماضي، بشعارات تطالب بإسقاط النظام السوري وتطبيق القرار الأممي الخاص بالحل في سوريا 2254، بالإضافة إلى شعارات تندد بسوء الأوضاع المعيشية، والقرارات الحكومية الأخيرة التي رفعت الدعم عن المحروقات.

لكن وبينما أيد المشايخ الثلاثة "المطالب" لم يتطرقوا بالتفاصيل التي ينادي بها المتظاهرين، وخاصة المتعلقة بإسقاط النظام السوري وتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي 2254.

في المقابل حددوا 6 مطالب لـ"التهدئة"، أولها "إجراء تغيير حكومي وتشكيل حكومة جديدة قادرة على إدارة الأزمة وتحسين الواقع وإيجاد الحلول وعدم ترحيل المسؤوليات".

وطالبوا أيضا بـ"التراجع عن كل القرارات الاقتصادية الأخيرة، التي لم تبق وتذر، والعمل على تحسين الواقع المعيشي للمواطنين"، و"محاربة الفساد والضرب على أيدي المفسدين بكل مصداقية وتقديمهم للعدالة".

ومن بين المطالب "أن تمارس المؤسسة الأمنية والشرطية دورها في الحفاظ على الأمن، وأن تكون عونا للمواطن لا عليه"، إلى جانب "المحافظة على وحدة الأراضي العربية السورية وتحقيق السيادة الوطنية"، و"إعداد دراسة تشغيل معبر حدودي لمحافظة السويداء لإنعاشها اقتصاديا".

وقرأ بيان "دار الطائفة الدرزية" الشيخ يوسف الجربوع، وأظهر تسجيل مصور كيف أبلغ جموع من الناس في القاعة التي يتواجد فيها أن "يبقوا على موقفهم في الشارع حتى تحقيق المطالب".

وقبل هذا الشيخ وثقت تسجيلات مصورة أخرى وجود الشيخ حكمت الهجري بين المتظاهرين، وكذلك الأمر بالنسبة للشيخ حمود الحناوي، فيما أكد الاثنان على المطالب التي ينادى بها، وأنه "آن الأوان لقمع مسببي الفتن والمحن ومصدري القرارات الجائرة المجحفة الهدّامة".

جانب من الاحتجاجات التي تشهدها السويداءالموقف أعاد الدور؟

و"مشيخة العقل" في السويداء هي عبارة عن هيئة روحية وزعامة دنية متوارثة، ومنذ العهد العثماني كان هناك 3 شيوخ عقل يتصدرون رأس الهرم في الطائفة الدرزية، حسب ما يوضح الصحفي السوري ومدير شبكة "السويداء 24"، ريان معروف لموقع "الحرة".

وتعتبر مكانة المشايخ متوارثة ولا يمكن أن تخرج المشيخة عن أسماء ثلاث عوائل (الهجري، الجربوع، الحناوي).

وتنحصر مكانة الشيخ الهجري الدينية في الريف الشمالي والشمالي الشرقي والريف الغربي للسويداء (دار قنوات)، فيما يبرز اسم الشيخ حمود الحناوي في منطقة سهوة البلاطة في الريف الجنوبي للمحافظة.

ويعد الشيخ يوسف الجربوع المسؤول عن دار الطائفة في "مقام عين الزمان"، ويتركز نفوذه الديني في مدينة السويداء والقرى الصغيرة المجاورة لها.

وكان الشيخ الهجري أول من أيد مطالب المحتجين الذين يتحركون بشكل أساسي في "ساحة السير" وسط المدينة. ولرجل الدين هذا قصة سابقة مع رئيس شعبة الأمن العسكري السابق، العميد وفيق ناصر، بعدما وجه الأخير له "شتيمة" في يناير 2021، ما أشعل حالة غضب واسعة، واستدعى "تقديم اعتذار رسمي من دمشق"، آنذاك.

ويقول الصحفي معروف إن "بيانات المشايخ الثلاثة أخذت صدى واسعا في الشارع، وأعادت الدور من جديد لمشيخة العقل في السويداء".

وعندما كان المشايخ الثلاثة "منحازين لرواية النظام السوري قبل عام 2018 فقدوا حضورهم، وفق الصحفي السوري، أما اليوم "عادوا من جديدة وبقوة، وخاصة الشيخ الهجري الذي تعود جذور موقفه الحالي إلى الفترة التي أعقبت عام 2020".

ولرجال الدين بالعموم "أثر اجتماعي وتاريخي وخاصة في مجتمعاتنا الشرقية"، ودائما ما كان لهم مكانة ودور يحتفظ به الناس، حسب حديث الكاتب والناشط السياسي، حافظ قرقوط.

وبعد اندلاع أحداث الثورة السورية في 2011 لعب المشايخ الثلاثة "دور صمام الأمان، ومنعوا الصدام ما بين درعا والسويداء، بين عائلات المحافظات وعشائر البدو".

كما "نجحوا في أن يكونوا صماما، خاصة بعد عمليات الخطف التي كثرت بين الجارتين درعا والسويداء".

لكن السياسي قرقوط يرى في حديثه لموقع "الحرة" أنهم "مثل أي رجل دين كانوا ضمن منظومة الحكم"، وأن "النظام السوري رعاهم ولولا ذلك لما بقي شيخ في مكانه"، حسب تعبيره. حيث "كانوا مهادنين للنظام ومنهم من كان جزء من سياساته"، وعلى مدى السنوات الماضية "لم يكن لهم أي حضور أو ثقل على الصعيد السياسي، قياسا بالدور الذي لعبته الواجهات الاجتماعية".

ويقول قرقوط: "حضورهم الاجتماعي اليوم بين الناس قلب الدور وكرس الحضور، والموقف قد يحسب لهم في التاريخ إذا استمروا عليه وناصروا الحق"، رغم أن الكاتب ذاته انتقد الشكل الذي صدر به بيان الشيخ يوسف الجربوع، ممثلا بـ"دار الطائفة".

مظاهرات السويداء التي خرجت بسبب سوء الأوضاع المعيشيةما الذي تغير؟

ولم يصدر أي تعليق من جانب النظام حتى الآن على ما تشهده المحافظة الجنوبية في سوريا، واقتصر الموقف غير المباشر من جانبه على ما أوردته مقالات نشرتها صحف مثل "الوطن" و"البعث"، وصف كتابها المتظاهرين بـ"الخارجين عن القانون والمهرجين الموتورين". 

كما صدرت مواقف من شخصيات مقربة منه، مثل عضو "مجلس الشعب السوري"، خالد العبود، حيث أعاد تذكير أبناء المحافظة السورية بما شهدته الأيام الأولى من الثورة السورية، قاصدا ما حصل في أعقاب احتجاجات درعا في 2011.

في غضون ذلك نقلت شبكة "الراصد" المحلية عن مصادر قولها، الخميس، إن محافظ السويداء التابع للنظام، بسام بارسيك، زار الشيخ الهجري وقدم عرضا له حول حلول للواقع الاقتصادي والمعيشي.

وقالت المصادر إن "بارسيك عرض على الهجري إجراء اتصال مع أحد القيادات في دمشق"، إلا أن الشيخ رفض، وأكد أن المسألة "لا تحتاج لوساطات ولا اتصالات".

كما أكد أن "مطالب الشارع معروفة ولا داعي لشرحها، وأنه لن يكون هناك أي تواصل مع أحد قبل تحقيق مطالب الشارع".

حمزة المختار أحد الصحفيين والنشطاء المشاركين في الاحتجاجات يقول لموقع "الحرة" إن مشايخ العقل ومنذ أولى الاحتجاجات في 2017 "لم يكن لهم مثل هذا الموقف الذي أبدوه اليوم".

ويعتقد أن "السبب الذي دفع رجال الدين لتغيير الموقف هو التصعيد الحاصل في الشارع"، مضيفا: "الصورة باتت جلية ولا يمكن إعادة تدوير النظام السوري مهما قدم من إصلاحات أو وعود".

ويقول: "عندما يمشي المحتجون بهذا الاتجاه لا يمكن لرجال الدين أن يخالفوا المسار، لأن الشارع سينقلب ضدهم"، وفق المختار.

لكن الكاتب قرقوط يرى بيان "دار الطائفة" الذي ألقاه الشيخ الجربوع بأنه "لا يرقى إلى مطالب الناس".

على العكس يقول إنه "لم يلامس الشارع بكثير، حيث يطالب بإصلاح حكومي، فيما يطالب المحتجون بتغيير سياسي جذري في سوريا، وتطبيق القرارات الدولية".

ويضيف الكاتب: "الناس حذرة من التعويل كليا على المؤسسة الدينية كي لا تحرف المسار وتكون مشايخ سلطة"، ويشير إلى أن بيان الشيخ الهجري والحناوي تميز "بالتزامهما بمطالب الناس، ولذلك التف الشارع حولهم ودعمهم على نحو أكبر".

ويوضح الصحفي معروف أن "المشايخ جزء من الناس ولا ينفصلون عن الشعب. الهم الاقتصادي والمعيشي ضرب الجميع في المحافظة، وهناك تحولات نوعية على كل المستويات".

ورغم أن "المشيخة تمثل سلطة دينية تعتبر جزءا من المجتمع الموجوع"، "لا يمكن أن تأخذ موقفا متضاربا مع ما ينادي به المحتجون".

ويضيف معروف: "قبل 2018 لم يكن شارع السويداء معارض بالكامل. اليوم كل الشارع يعارض الأسد. هذا ما يميز ما يحصل الآن".

كان لمشايخ العقل الدروز موقف محتلف من احتجاجات السويداء ضد النظام السوري"الشارع دفعهم لذلك"

على مدى السنوات الماضية من الحرب في سوريا لم يقطع النظام السوري حبل التواصل مع المشايخ الثلاثة، وما بين احتجاج وآخر شهدته السويداء كانت وسائل إعلامه الرسمية تستضيفهم للتعليق على ما يحصل، وفق الرواية الرسمية.

كما أجرت صحيفة "تشرين" الحكومية لقاء صحفياً (13 يناير 2021) مع الشيخ يوسف الجربوع، للحديث عن الانتخابات الرئاسية المقبلة، و"أهميتها بالنسبة للشعب السوري والوطن ككل".

وقال الجربوع، حسب الصحيفة حينها إن "الاستحقاق الدستوري القادم هو واجب وطني وعلى كل أبناء الشعب السوري المشاركة الفاعلة في الانتخابات المقبلة من خلال التوجه نحو صناديق الانتخابات للإدلاء بأصواتهم".

ولا يعرف ما إذا كان الموقف الحالي لمشيخة العقل في السويداء يؤيد المطالب السياسية التي ينادي بها المحتجون بشكل ضمني، وخاصة المتعلقة بإسقاط النظام السوري.

وتعتبر الصحفية السورية، بيسان أبو علي، أن "سياسة رجال الدين خلال السنوات الماضية لم تكن مهادنة للنظام بقدر ما هي سياسة حقن دماء"، وتقول إنهم "كانوا يريدون حقن الدماء وأن لا تندثر الطائفة، كونها تتمركز في السويداء".
وتضيف أبو علي: "مشايخ العقل لم يتهاونوا وحاولوا الوصول لحلول مع الحكومة والنظام السوري، لكنهم لم يصلوا إلى أي حل".

وتحدثت الصحفية أن النظام السوري "مسؤول عن اغتيال شيخ العقل الأول للطائفة أحمد سلمان الهجري، ومن بعده الشيخ وحيد البلعوس"، لكونهما خالفا سياساته في مطلع أحداث الثورة، وبعدما دعوا إلى عدم انخراط شبان المحافظة في الحرب.

وفي الفترة التي أعقبت ذلك تتابع أبو علي أن "المشايخ الثلاثة حاولوا استيعاب مفاصل الموضوع (كي لا يأتوا بجهد البلا للطائفة كما يقال محليا)"، فيما يأتي موقفهم الحالي "بعدما بلغت الأوضاع في المحافظة حدها، وولدت القرارات الأخيرة لحظة الانفجار".

و"لرجال الدين تأثير كبير على الشارع وخاصة الشريحة الملتزمة دينيا ذات الثقل والوزن"، وتحركهم الآن "يعني تحرك هذه الشريحة"، كما يقول الناشط حمزة المختار. 

ويضيف: "اليوم نتحدت عن انتفاضة من كامل شرائح المجتمع ما يعطي زخما لها، ويؤثر بطبيعة الحال على درعا والساحل الذي يغلي، بينما يعتبره النظام السوري خط إخلاء".

لقطة أرشيفية لتظاهرات ضد النظام في السويداء

وظلت السويداء التي يقطنها معظم دروز سوريا تحت سيطرة النظام منذ بداية الثورة في 2011، ونجت إلى حد بعيد من الاضطرابات التي شهدتها مناطق أخرى.  ولا تزال المعارضة الصريحة للنظام السوري نادرة في المناطق التي يسيطر عليها، لكن خلال الأيام الماضية وبالتزامن مع الحراك الشعبي في المحافظة كسرت عدة صرخات من الساحل حالة من الصمت السائدة منذ سنوات.

وترى الصحيفة أبو علي أن "السويداء محكومة دينيا وليس سياسيا من أكبر شخص إلى أصغره. لذلك إذا قال شيخ العقل كلمة سيتبعه الجميع".

ويوضح الكاتب قرقوط أن "زخم الشارع هو الذي غيّر موقف رجال الدين في المحافظة"، وأن "الشارع الذي وقف ضد النظام قادر على الخروج ضد مشايخ العقل".

ويضيف: "ما زال لهم أثر واضح والناس تهتم لمواقفهم. يجب أن تبقى بياناتهم ضمن البيئة التي تطالب على الأقل بالعدالة لكل السوريين، ويجب أن يتبنوا خطاب سلطان باشا الأطرش القائد العام للثورة السورية الكبرى".

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: السنوات الماضیة النظام السوری الشیخ الهجری دار الطائفة فی السویداء فی المحافظة فی سوریا لا یمکن أبو علی

إقرأ أيضاً:

مصر والسعودية.. استدعاء الماضي وتغييب العقل

تاريخيا، مرت العلاقات المصرية- السعودية، بمنعطفات خطيرة، سياسيا وعسكريا، على الرغم مما يجمع البلدين من عوامل مشتركة، جغرافيا ودينيا واجتماعيا، بل ما هو أكثر من ذلك، حيث المصاهرة التي بدأت بسيدنا إبراهيم عليه السلام، وزواجه من أُم العرب، السيدة هاجر المصرية، ثم زواج النبي محمد عليه الصلاة والسلام من السيدة ماريا القبطية، وغير ذلك من انتشار للقبائل العربية التي حطت رحالها في مصر عبر التاريخ، قادمة من الجزيرة العربية، بحثا عن الماء والطعام والزراعة والعمل والعيش الكريم، هروبا من حياة الصحراء والجفاف.

وعلى الرغم من أهمية التعاون العسكري والتنسيق الأمني، بشكل خاص بين البلدين، في ظل الظروف التي تمر بها المنطقة الآن، خصوصا في ظل الأطماع الإسرائيلية المعلنة، إلا أن ما يجري الآن يعكس ترديا، وصل إلى حد دخول الشعبين الشقيقين على خط الأزمة، من خلال "السوشيال ميديا" بقدر كبير، بما يشبه التغييب العقلي الذي لا يراعي الصالح العام، خصوصا إذا علمنا أن معظم تلك المداخلات إنما هي لجان رسمية، فيما يعرف في مصر بالكتائب الإلكترونية، وفي السعودية بالذباب الإلكتروني، الأمر الذي يساهم يوما بعد يوم في تأجيج الصراع من خلال ملاسنات تصل إلى حد الاحتدام.

بالعودة إلى المنعطفات التاريخية، تجدر الإشارة إلى الآتي: بعد حصار القوات المصرية، وقوامها عشرة آلاف مقاتل وخمسة آلاف مدني، بقيادة إبراهيم باشا، لمدينة الدرعية بإقليم نجد، في شبه الجزيرة العربية، والذي استمر ستة أشهر، من آذار/ مارس إلى أيلول/ سبتمبر 1818، سقطت الدولة السعودية الأولى، بعد استسلام رابع ملوكها، الإمام عبد الله بن سعود الكبير، مع حاشيته وحراسه وثروته، وتم نقله سجينا إلى القاهرة، مع بعض أعضاء عائلتي آل سعود وآل الشيخ، قبل إرساله إلى الأستانة، عاصمة الدولة العثمانية، حيث جرى إعدامه، وتم ضم نجد إلى الدولة العثمانية، بعد إدخال جميع قبائلها في طاعة دولة الخلافة.

وعلى الرغم من قيام دولة سعودية ثانية عام 1924، استمرت حتى عام 1891، قبل أن تسقط هي الأخرى لخلافات داخلية، ثم دولة ثالثة بقيادة الملك عبد العزيز عام 1932، واستمرت حتى الآن، إلا أن الذاكرة السعودية تستدعي الماضي دائما وأبدا، لا تنسى أبدا مرارة سقوط الدولة الأولى على يد قوات مصرية، واعتقال الملك ثم إعدامه، على الرغم من أن حملة ابراهيم باشا أولا وأخيرا، كانت لحساب دولة الخلافة العثمانية، وهو ما جعلها تتلقى دعما طوال شهور الحصار الستة، من البصرة في العراق، ومن إمارة الكويت آنذاك، وحتى من المدينة المنورة، وغيرها من الأقطار التي كانت ترى في الدولة السعودية خروجا على الشرعية.

ثم جاءت الحرب الأهلية في اليمن، 1962-1970، لتعود المواجهة من جديد، بين الجيش المصري وقوات آل سعود، وإن كان بطريقة غير مباشرة، حيث كانت مصر تدعم الجمهوريين، الذين أعلنوا قيام الجمهورية العربية اليمنية بعد أن أطاحوا بالنظام الملكي، بقيادة الإمام محمد البدر الذي كانت تدعمه السعودية، ماليا وعسكريا ولوجستيا، إلى جانب قوات بريطانية، بينما كان الدعم المصري بقوات بلغ قوامها 70 ألفا، وخسائر تجاوزت 15 ألف قتيل، وكان لذلك أثره الكبير على هزيمة مصر في حرب 1967، واحتلال الكيان الصهيوني شبه جزيرة سيناء، في الوقت الذي كانت العلاقات المصرية- السعودية في أسوأ حالاتها على الإطلاق.

بعد ذلك جاءت المواجهة المصرية- السعودية الثالثة، سياسية خالصة هذه المرة، بعد أن قام الرئيس الراحل أنور السادات بزيارة القدس، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، وإلقاء خطاب في الكنيسيت الإسرائيلي، وهي الزيارة التي تمخضت عنها مفاوضات كامب ديفيد في الولايات المتحدة بين الجانبين، برعاية الرئيس الأمريكي الراحل جيمي كارتر، وأسفرت عن اتفاقية سلام عام 1978، ثم معاهدة سلام عام 1979، وهو ما حدا بالمملكة العربية السعودية، مع كل الدول العربية باستثناء سلطنة عمان، لقطع العلاقات الدبلوماسية مع القاهرة، ونقل مقر جامعة الدول العربية إلى تونس، بعد تعليق عضوية مصر، واستمر هذا الوضع عشر سنوات، حيث عادت العلاقات عام 1989، ثم نقل مقر الجامعة مرة أخرى للقاهرة عام 1990.

ولم تتحسن علاقات البلدين سوى في ظل حكم الرئيس حسني مبارك، الذي كان لا يجد غضاضة في التعامل مع الأنظمة الملكية وغيرها، على عكس الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان يشجع كل حركات التحرر في العالم، ليس من الاستعمار فقط، بل من حكم العائلات أيضا، على غرار ثورة 1952 في مصر، وعلى عكس الرئيس أنور السادات أيضا، الذي اصطدم بكل العرب، في سعيه للصلح مع الكيان الصهيوني، بعد أن أيقن أن الحرب وحدها لن تعيد الأرض العربية المحتلة، ما دامت المواجهة العسكرية في نهاية الأمر مع الولايات المتحدة، على حد قوله.

وقد سارت الأمور على هذا النحو بين كل من الرياض والقاهرة، إلى أن اعتلى سدة الحكم في مصر الرئيس عبدالفتاح السيسي، عام 2014، والذي أظهر إصرارا واضحا على تسليم جزيرتي تيران وصنافير في البحر الأحمر، إلى المملكة، مرددا أنه قد وعدهم بذلك، فيما يشير إلى أن هذا الوعد ارتبط بدعم سعودي للانقلاب على الرئيس الراحل محمد مرسي. وعلى الرغم من صدور أحكام قضائية نهائية بمصرية الجزيرتين، إلا أنه ضرب بالأحكام عرض الحائط، على الرغم من فشل الرياض في الحصول على الجزيرتين في ظل حكم الرؤساء السابقين عبد الناصر والسادات ومبارك، وسط الادعاءات بملكيتهما.

الآن عادت قضية الجزيرتين إلى الواجهة، بعد أن طلبت الولايات المتحدة الأمريكية استخدامهما عسكريا، من خلال إنشاء قاعدة ثابتة هناك، وهو ما رفضته مصر جملة وتفصيلا، نظرا لخطورة الموقع استراتيجيا على الأمن القومي المصري، ثم عادت الرياض لتوافق للولايات المتحدة على إقامة القاعدة بالقرب من ميناء ينبع، حيث لوحظ نشاط عسكري أمريكي في الآونة الأخيرة، وهو ما رفضته مصر أيضا، وخرج وزير الخارجية بدر عبد العاطي ليعلن أن إنشاء قواعد عسكرية على البحر الأحمر لغير الدول المتشاطئة أمر مرفوض تحت أي ظرف، مشيرا في الوقت نفسه إلى أنه تم إبلاغ تركيا أيضا بالموقف المصري، خلال استضافتها مفاوضات صومالية- إثيوبية.

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن الرئيس الأسبق أنور السادات رفض طلبا أمريكيا بإقامة قاعدة عسكرية، في جزيرة راس بناس في البحر الأحمر بمواجهة الشواطئ السعودية، وهو الطلب الذي رفضه أيضا الرئيس مبارك. كما تجدر الإشارة إلى أن الرئيس السوداني السابق عمر البشير، كان قد منح الجمهورية الإسلامية الإيرانية موافقته على إقامة قاعدة عسكرية في مدينة بورتسودان، وهو ما جعل الرئيس مبارك يعلن على الفور أن مصر سوف تهاجم القاعدة إن حدث ذلك، مؤكدا أن مصر ترفض إقامة أية قواعد عسكرية أجنبية في البحر الأحمر.

وتنطلق مخاوف مصر هنا من عدة عوامل؛ أهمها أن حركة الملاحة في قناة السويس سوف تصبح رهنا لهذه القاعدة أو تلك، كما أن القواعد الأمريكية بشكل خاص تمثل دعما لإسرائيل، كعدو تاريخي، مهما كان هناك من اتفاقيات ومعاهدات سلام، نظرا لأن ذلك العدو لا يتورع عن التوسع والأطماع في المنطقة. ومثل هذه القواعد تمثل انطلاقا لعمليات تجسس على مدار الساعة، برا وبحرا وجوا، ناهيك عن كونها احتلالا صريحا للمنطقة، خصوصا في الوقت الذي تتواجد فيه قوات إسرائيلية على أربع جزر إريترية في البحر الأحمر، أهمها جزيرة دهلك، التي تستخدمها في تخزين صواريخ وطائرات وأسلحة، وسط أنباء عن سلاح نووي أيضا، بينما تتواجد العديد من القواعد في جيبوتي، على مدخل البحر الأحمر، لكل من فرنسا والولايات المتحدة والصين واليابان، وأخرى لتركيا في الصومال، وللإمارات في إريتريا وأرض الصومال.

الأزمات المصرية السعودية لا تتوقف على الأحداث في البحر الأحمر، بعد أن رفضت مصر المشاركة في تحالف الحرب السعودية على اليمن عام 2015، كما تحفظت القاهرة على النظام الحاكم الجديد في سوريا، باعتباره امتداد للجماعات "الإرهابية" في سيناء وغيرها، كما ترددت تصريحات عن نية الرياض ترشيح سعودي لقيادة جامعة الدول العربية العام المقبل، خلفا لأحمد أبو الغيط، على الرغم مما جرت عليه العادة منذ إنشاء الجامعة عام 1945، أن يكون الأمين العام من مصر، دولة المقر، في الوقت الذي تتردد فيه أنباء عن خلافات واسعة حول الموقف من قطاع غزة والعلاقات مع إسرائيل.

وربما كانت زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، إلى مصر الشهر الماضي، ولقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي، بداية مرحلة جديدة من انفتاح القاهرة على عواصم كانت تتجنبها في السابق، إرضاء للسعودية التي استبعدت السيسي من اجتماعات الرئيس الأمريكي مع قادة الخليج الشهر الماضي في الرياض، على خلاف ما حدث خلال ولاية ترامب الأولى، في الوقت الذي تمر فيه علاقات القاهرة وواشنطن بمرحلة فتور واضحة، بعد رفض مصر الانصياع لطلب ترامب بترحيل الشعب الفلسطيني من غزة إلى سيناء، ورفض السيسي تلبية دعوة ترامب لزيارة واشنطن.

إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: إلى أي مدى يمكن السماح باستمرار اتساع هوة الخلاف بين كل مصر والسعودية، على الرغم مما يمثله ذلك من خسائر كبيرة للبلدين على كل المستويات، على المديين القريب والبعيد على السواء، خصوصا في ضوء مشاركة الرياض في إعادة صياغة وتقسيم المنطقة، بالتنسيق مع واشنطن وتل أبيب، بمنأى عن مصر، مع الوضع في الاعتبار ما يردده الذباب السعودي بشأن السعي لإنهاء حكم السيسي، وهو الأمر الذي يمكن أن يسفر عن عواقب وخيمة، تزيد من حدة التوتر، ولا يمكن تجاوزها على مائدة الحوار.

مقالات مشابهة

  • فرق الدفاع المدني السوري تبذل جهوداً كبيرة لإخماد بؤر النار التي اندلعت في غابات الفرنلق بريف اللاذقية الشمالي
  • شيخ العقل التقى خلف.. وتواصل مع شيخ جرمانا
  • 1324 مستفيداً من إعانات الشلل الدماغي في السويداء خلال 7 أشهر
  • اجتماع مطول للجنة الثلاثية لانجاز الرد على ورقة برّاك.. بري: سنأخذ موقف حزب الله في الاعتبار
  • نتنياهو والقبول بوقف القتال.. ما الذي تغير؟
  • أنشطة ثقافية وفنية ببورسعيد احتفالا ببداية العام الهجري
  • مشيخة أزهر الغربية تكرم أوائل مسابقة الأزهر السنوية لحفظ القرآن الكريم
  • مصر والسعودية.. استدعاء الماضي وتغييب العقل
  • احتجاجات توغو تُعبّر عن غضب شبابي من التوريث.. لكن هل التغيير ممكن؟
  • تركيا تدخل على خط احتجاجات التركمان في كركوك وتدعو لتمثيل منصف لهم