سناء حمد: نوّر بيتنا ..شارع بيتنا
تاريخ النشر: 7th, April 2025 GMT
كان يا ما كان …والآن ، شارع بيتنا في حي الصحافة الفاصل بين مربعين سكنيين، شارع آمن مترابط ، حين يصرخُ منادٍ فيه يفزعونه دون ان ينتظروا ليعرفوا حاجته ، كانت النسوة يلتقين في جلسات الونس والجبنة فتسمع الضحكات والأصوات الصاخبة من بعيد .
في شارعنا ، كان هناك دكان مسعود، اعتدت تحيته سلامات ، وبابتسامة مشرقة يرد وعليكم السلام ، كان مسعود قبطياً من الدبة فجمعت بيننا وإياه الأرض و اللهجة! ولم تفرّقه عنّا ديانته ، وكم كان رحيله أليماً .
كان هناك بنات فكرية لا تستطيع ان رأيت صفاء او اماني ان تتجاوزهن بالسلام فقط .
اطرق باب منزل عم حسن صالح ، وامد راسي لأسلم عليه ، ويقول ادخلي ..أنا والله يادوب راجعة البيت ،كدي خشي ،وتجي الحبيبةخالتي فاطمة عليك الله خشي ، كدي يا يابتي ، عليك الله و تشّرك لي … بعندنا قراصة بويكة بيضا طاعمة ، حينها يغلب على عشقي للويكة البيضا وهي سلطانه في صنعتها ، وادخل ثم لا أنتبه إلا وبابهم يقرع وعندي مرسال من امي !! لا أتذكر يوماً دخلت منزلنا دون ان امر عليهم ، وفي يوم آخر وانا راجعة من الزلط ارى عم عوض بطارية جالس على إطار مغروس في الأرض قريباً من باب منزله ، أنادي من بعيد بالسلام ، أحياناً اكتفي بذلك واتجه نحو بيتنا ، واحياناً اتجه نحوه وأسلم وادخل البيت ، واسرح في الوناسة مع خالتي مريم وأمل وأماني ، حتى يأتيني المنادي فأغادرهم .
حليل عمر مبشر وقد تغرّب بعيداً ، كان “يكورك ” الليلة عاملين فتة ” ما عافية ليكم كان فتوني واكلتوها ، وفعلا يعملا بالطش !! ويا نادي تعالي ” طوقيها ” قبل الهدافين ديل يصلوا والله حتة ملصقة في الطش دا ما تلقيها اسمعيني انت الكنت طالعة في راس البيت امس ؟! ايوة كنت بزبط في الفلنكوت ..ياخ ما تنادينا ! ياخ أنا بحب شغلتني دي ..الصنايعية كرهونا ، يشتغلوه كدة اول ما المطرة تصب ، نجري نلقط الحِلل والجرادل قصاد نقط المطر ، أنا احسن منهم ، وطلوع راس البيت دا تخصصي . ( ياخ كانت أيام يا حليلا )
في المساء نقعد في الشارع ننصت لقصص الحبيبة حنان هاشم وأمل وأماني بطارية وفدوى هاشم وأي واحدة من بنات الحلة مرت بينا ، نتبادل قصص الحلة وحفلاتها ، كان شارعنا لا يبحث عن سبب لقيام حفلة فيه كيف لا ، وفيه يسكن خالد هاشم ، والخالدي رحمه الله ، ومحمد إسماعيل ،ومعتصم ستيتة صديق لخالد الصحافة ! كان شبابه وفتياته يتجهزون لكل حفلة وكأنها أول مرة يحضروا فيها حفلة رغم ان آخر حفلة كانت اول امس !!
بمرور الأيام والسنوات ، الناس كبروا ، و فقد الحي الكثير من رموزه ، وغادرته انا لسنوات ، ثم عدنا للسكن مع امي ورغم ذلك ما زال الحي حي ، و فيه كل يوم قصة و ” مش حا تقدر تغمض عينيك فيه ” .
امس كنت في هذا الحيّ بعد ان تم تحريره ، كنت في حلتنا وشارعنا ، وقد ” برد حيلي ” وانا امشي فيه هل دا شارعنا !؟ كان موحشاً ، تردمت في مدخله السيارات المنهوبة خالٍ من أهله واصحابه ، جميع البيوت منهوبة وبعضها به حريق ، هذا الحيّ كان ضحيّة لديمقراطية آل دقلو وجنودهم القساة الاوباش ، وهو مثال لكراهيتهم لدولة 56 ، فهذا الحي كان حي الموظفين والعمال ، حي الذين بنوا فعلياً دولة السودان بعد الاستقلال ، لم يبنها الساسة الذين شغلتهم صراعاتهم وقصر نظرهم عن الالتفات لعملية البناء ، آباء الذين في الصحافة الان لكلٍ منهم سهم في عملية البناء غير المسيس للسودان ، ،
كانت البيوت تحكي قصة خوف ورعب تظهر فيها شواهد العنف فالرصاص لم يترك بيتاً لم يصله ، ولم ينجو فيه بيت من السرقة ، لم ارى في الحي اي من قاطنيه ،فقد هرب الجميع .
زرت الصحافة لساعات والبيوت حالها كحال اي دار التي هجرها أهلها كرهاً او طوعاً نبتت فيها الحشائش والمتسلقات من النباتات،
ما تركه الجنجويد من أشياء لم يرحم اللصوص اهله ، ،نهبت كوابل الكهرباء وملحقاتها ، الأثاثات والأدوات الكهربائية والملابس . التي غطت الارض بعد ان اختار اللصوص الأفضل منها ، وكذلك الكتب الممزقة والاوراق الرسمية الـمشتته .
هناك مشكلة مياه من الشبكة ، ولكن هناك مياه عبر الكارو ، وهناك مخبز يعمل كما علمت من ناس 24 الصامدين ، كما ظهر الخضار خاصة الطماطم في سوق 26.
رغم المعاناة لكن مهم ان يعود الناس لبيوتهم وقد بدأ قسم الشرطة عمله وانتشرت ارتكازات الجيش .
البيوت يحرسها وينظفها أهلها ، نحتاج ان نعمر هذا الحي الحيّ …وكل الصحافة التي نحب ، يد على يد نستطيع ان نفعلها ، والذي لا نستطع فعله نتكاتف ونطلب ممن نظن بهم الخير العون … أتطلع للعودة لبيتنا رغم انه نهب ودمر ما بقي فيه …لكن سنبدأ من ان لنا سقف فوق رؤوسنا ..و اول الألف ميل خطوة ..
د. سناء حمد
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
إعادة تدوير الماضى
لم تعد الأزمة فى الإعلام العربى، والمصرى تحديدًا، أزمة أدوات أو منصات؛ بل أزمة خيال مهنى فقد القدرة على اختراق الغد، وبات يعيش على فتات الأمس. اليوم، حين تفتح صحيفة أو موقع أو شاشة فضائية، ستجد إما صدى قديمًا لحدث انتهى، أو إعادة تدوير لعناوين شاخت حتى قبل أن تُكتب، أما أن تبحث عن المختلف، العميق، القادر على أن يشدّك، فذلك يشبه البحث عن واحة فى صحراء ممتدة.
الصحافة الحقيقية ليست تلك التى تتنفس على رئة «التريند»، ولا تلك التى تجرى خلف «بوست» أو «هاشتاج»؛ الصحافة الحقيقية هى التى تقرأ المستقبل، تفكّ شفراته، وتقدّم للقارئ ما لا يعرفه، لا ما يعرفه الجميع. فحين تصطدم بمادة صحفية محترمة، ستجد نفسك — رغمًا عنك — تروّج لها، حتى لو لم تكن جزءًا من هذا الكيان، فالمحتوى الجيد يفرض نفسه، دون إعلان، ودون دعاية، ودون ضجيج.
إن ما يرهق الناس اليوم ليس كثرة الأخبار، بل رخص التجارة المبنية على عناوين صفراء تُباع منذ أكثر من ربع قرن، تلك التى تُسمّى — مجازًا — «صحافة بير السلم».
عناوين مستهلكة، قضايا هزيلة، طرق عرض مكررة، وتناول لم يعد يصلح لزمن تغيّر فيه كل شيء… إلا بعض الصحف!
القارئ المصرى لم يعد هو قارئ التسعينيات؛ هو الآن قارئ فطن، مسلح بكمّ هائل من المعرفة، يستطيع فى ثوانٍ أن يصل إلى المعلومة، وتفكيكها، ومقارنتها، وربما كشف خطأ الصحفى نفسه. لم يعد ينتظر الصحيفة كى تخبره بـ«ماذا حدث؟»؛ هو يريد الصحفى الذى يخبره: «لماذا حدث؟ وماذا سيحدث بعد ذلك؟».
نحن اليوم فى سباق مع:
الصحافة المحلية والصحافة العربية والإقليمية، والصحافة العالمية، والقارئ نفسه الذى بات شريكًا فى صناعة المعرفة.
الأزمة إذن ليست «سقفًا» نعليه أو نخفضه؛ الأزمة فى المحتوى ذاته: ضعيف، مكرر، مستهلك، ومصدره الأساسى ويا للعجب السوشيال ميديا، التى يفترض أنها جزء من المادة الخام، وليست مصدرًا وحيدًا للكتابة.
إن بقاء الصحافة رهن «خبر عاجل» لم يعد ممكنًا.
وأن تبقى أسيرة «قالت المصادر» دون تحليل، ونبض، ورؤية، فهذا انتحار مهنى بطيء.
ما بعد الخبر أصبح اليوم أهم من الخبر ذاته.
الإعلام الذى يريد البقاء لا بد أن يقدّم أشكالاً صحفية جديدة: تحقيقات معمقة، تقارير استشرافية، ملفات كبرى، وثائق، ومحتوى يسبق الحدث لا يلهث وراءه.
الإعلام الذى يريد أن يكون مؤثرًا لا بد أن يتخلّى عن «النسخ واللصق»، ويعود إلى غرفة التفكير، لا غرفة العناوين.
فالإعلام الذى يقرأ المستقبل… هو وحده الذى يصنعه.