تشهد أمريكا خلال هذه الأيام مظاهرات حاشدة اعتراضًا على قرارات الإدارة الأمريكية الجديدة. تستمر فـي المقابل المظاهرات التي تندّد بالدور الأمريكي الكبير فـي دعم دولة الاحتلال الإسرائيلي بالأسلحة. ما يجمع هذه الحشود هو سياسة أمريكا الداخلية والخارجية، التي تؤثر بطبيعة الحال على الحياة اليومية لمختلف شرائح المجتمع الأمريكي.
قام بعض الشباب فرادى بشنّ حملات لاختراق تجمعات السلطة السياسية الأمريكية أو أي من تمظهراتها، فمنع حرية التعبير، واختطاف المتظاهرين من الشوارع وإبعادهم هو تجلٍ للتعسّف والتعدي الذي تمارسه هذه الإدارة من بين ممارسات عديدة للتحكم بالناس وحياتهم. يدخل الشاب اجتماعًا بلديًا فـي المدينة التي يسكن فـيها، يُطلب منه من قِبل إحدى الموظفات تسجيل دخوله إذا كان مواطنًا فـي المدينة، أو أخذ تصريح زائر إن لم يكن كذلك. لكنه يرفض إذ أن القانون لا يفرض عليه اتباع هذه الإجراءات لحضور اجتماع عام فـي مكان عام يملكه الشعب. بعد إخفاقها فـي إقناعه، تلجأ الموظفة لمسؤولة فـي موقع وظيفـي أكبر، وتهدده هذه الأخيرة بالطرد، لكنه يصر على أنه سيقف هناك دون أن يسجل بياناته، تنادي هذه الأخيرة موظفًا آخر فـي موقع وظيفـي أكبر، ويستمر تدوير الحالة بين الموظفـين وبين الشاب الذي يرفض الحراك، فالقانون يحميه من أي تعدٍ أو إجبار على تنفـيذ هذه التعليمات.
يعود الشاب فـي اليوم التالي بعد إجراء تدقيق فـي سلوك الموظفـين للدائرة الحكومية نفسها، إذ أن ما قام به موظفو هذه الدائرة ليس قانونيًا بالفعل، ويلتقي هذا الشاب بالموظفة الأولى التي بدأت معها القصة، ليصور لها مقطعًا تعترف فـيه بأن ما فعلته وزملاؤها ليس قانونيًا، إلا أنها تستدرك: «كنتُ أنفذ الأوامر فحسب». وهكذا يستمر هذا الشاب وآخرون فـي فضح العديد من الممارسات السلطوية تحت غطاء «تنفـيذ الأوامر» بغض النظر عن المعرفة بقانونية هذه الأوامر! فبالإصرار على العودة للقوانين الحاكمة يُظهر هؤلاء الشباب سخطهم على الممارسات التي تخرق الالتزام بهذه القوانين.
لكن هل يُعد هذا جديداً؟ أعني تنفـيذ الأوامر مع التعامي عن القوانين؟ فـي واقع الأمر يعيد التاريخ إنتاج نفس السلوك فـي سياقات عديدة. ففـي ألمانيا برّر كثيرون ممن أشرفوا على الهولوكوست وحرق اليهود فـي الأفران أوامرهم تلك بأنها تنفـيذ لأوامر عُليا، الأمر الذي يعني نزع المسؤولية عنهم. كما هو الحال مع ايخمان وهو بحسب المصادر «أحد المسؤولين الكبار فـي الرايخ الثالث، وضابط فـي إحدى القوات الخاصة الألمانية المسماة قوات العاصفة، تعود إليه مسؤولية الترتيبات اللوجستية بصفته رئيسًا لجهاز البوليس السري جيستابو فـي إعداد مستلزمات المدنيين فـي معسكرات الاعتقال وإبادتهم». حوكم ايخمان فـي إسرائيل وكتبت عنه حنة أرندت الفـيلسوفة والمنظرة السياسية الأمريكية اليهودية فـي كتابها «ايخمان فـي القدس»، عن كونه رجلًا عاديًا لم يفعل شيئًا سوى تنفـيذ الأوامر!. لجأت ألمانيا بعد الحرب لاستراتيجيات بيروقراطية تُعقد وتعرقل مركزية القرار الواحد، لكن العالم يرفض تعلم هذا الدرس رغم وحشية ما تقدمه من عنف وانتهاك بحق البشر. وتظهر هذه الممارسة فـي كل مكان دون استثناء أي بلد تقريبًا على الخارطة، فهنالك ممارسات فردية تُشرعن قوانين تناقض المبادئ العامة التي رسختها القوانين المحلية أو الدولية.
يبدو أننا نعيش فـي لحظة قاتمة من التاريخ، يُطلب منا الامتثال لأوامر لا تمتلك شرعية حقيقية. ويحدث هذا لصالح نظام يحاول طيلة الوقت تقويض حركتنا وقدرتنا على التفاوض مع السلطة. إن فـي ذلك ممارسة للضبط الذي يهدف لجعلنا راضخين كحالة طبيعية لما يسمونه «واقع الحال» إذ أن التوحش حتمي كما هو التعدي السافر على القوانين.
أظن أن جميع الموظفـين فـي المقابل يمتثلون للأوامر ويمررونها لمن يعمل تحتهم بسبب خوفهم من فقدان وظائفهم التي تعيلهم فـي مواجهة واقع اقتصادي بائس وشرس، لكن من يقوم بفتح هذه الدائرة؟ أظن بأن من يفعل ذلك هو الحر الوحيد فـي هذا العالم، الذي لا يمكن أن يقبل تمرير أي انتهاكات مهما كانت صغيرة.
عندما خرجت الشابة المغربية ابتهال أبو السعد لتوجه نقدًا لمديرها وهو من أصول عربية أيضًا حول مساهمة مايكروسوفت فـي دعم الاحتلال المباشر بتقنيات الذكاء الاصطناعي التي تستثمر فـي استهداف الفلسطينيين وقتلهم، كانت تفتح هذه الدائرة، إنها ترفض تنفـيذ الأوامر كما ترفض بطبيعة الحال الإيمان بأن لا طريق فـي العالم سوى ذلك الذي يفضي إلى الممارسات الوحشية الإسرائيلية، فهذا واقع ينبغي قبوله. يبدأ ترسيخ فكرة الامتثال فـي الأوامر من هذه الممارسات الصغيرة، وصولاً لتنفـيذ الجندي مطالب الرؤساء بقتل الأبرياء واستهدافهم، أو اختطاف مؤيدي وقف الإبادة الجماعية فـي غزة من الشوارع، وإذا ما أمعنا النظر فـي حياتنا نحن فهذا ما يحدث معنا أيضًا. قبل أيام شاركتُ فـي الوقفة التضامنية مع غزة فـي الجامع الأكبر، وقد كان تجمعًا سلميًا حدث تحت أعين رجال الشرطة الذين ما جاؤوا إلا للتنظيم ومساعدتنا على تحقيق هدفنا من الوقفة التضامنية بسلاسة ودون عراقيل وهو ما يُشكر لهم، لكن ممارسات أخرى ظهرت فـي ساحة الجامع عندما تقدم منا أفراد طالبونا بعدم ارتداء الكوفـية والتخلي عنها، وعدم رفع العلم أو أي وشاح كان، وعندما كان أحدهم يتقدم ليقول لنا هذا برعونة كنت أسأله ببساطة: لماذا؟ فـيرد عليّ: هذه هي الأوامر! وعندما أرفض ما يطلبه يحولني لمسؤول آخر، وهكذا، إذ أن الجميع، الجميع بلا استثناء عليهم أن ينفذوا الأوامر ولا حيلة لهم لعدم تمريرها.
فـي الحقيقة ليست هذه هي المرة الأولى التي يحدث لي فـيها ذلك. فقبل سنوات وبينما كنتُ فـي صرح تعليمي عام أنا وصديقتي تقدمت منا موظفة الأمن فـي المبنى لتشير لنا بمخالفة نرتكبها بوجودنا هناك بتلك الهيئة، سألتها ببساطة وبلطف: وفقًا لأي قانون؟ إذ أنني دربتُ نفسي وما زلتُ أفعل على معرفة القوانين قدر المستطاع لأحمي نفسي، وهو أمر ينبغي أن يكون هنالك توعية مكثفة حوله، عمومًا كان جوابها: هذا أمر تلقيته. ثم سألتها أين يمكنني الرجوع لمعرفة هذه الأوامر ومصدرها؟ فقالت: إنه أمر شفاهي تلقته من المديرين، طلبتُ منها أن أقابل أحد هؤلاء المديرين، لم يحدث ذلك اللقاء حتى اليوم، لكن وبلا شك، فالجواب الذي سألقاه واحد ومعروف: أنا أنفّذ الأوامر!
ليست المشكلة فـي وجود أوامر بعينها، لكن المشكلة أن تتعارض هذه الأوامر مع القوانين أولاً، وألا يتم تبريرها للأشخاص الذين ينبغي عليهم أن يمتثلوا لها، كما لو أنهم ليسوا أندادًا وغير مستحقين حتى للنظر إليهم وتفسير ما يؤمرون به، إنهم -وفقًا لهذا- ممتثلون للأوامر فحسب ولا ينبغي عليهم أن يلعبوا دورًا آخر.
أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: تنفـیذ الأوامر
إقرأ أيضاً:
ما سر الجسم المجنح الذي ظهر أعلى الشمس في صور ناسا؟
انتشرت مؤخرا على وسائل التواصل الاجتماعي العربية والعالمية صورا للشمس، التقطت من مراصد فضائية خاصة مرصد الشمس وغلافها التابع لوكالتي الفضاء الأميركية والأوروبية، تبين جرما مجنحا كبيرا يقف إلى جوار الشمس، مما أثار الجدل حول الأمر.
في الصور الملتقطة من مرصد الشمس وغلافها، تظهر الشمس مغطاة تماما بأداة تسمى الإكليلوغراف، وهي مصممة خصيصا لحجب قرص الشمس الساطع حتى يتمكن العلماء من رؤية الهالة الشمسية، وهي الطبقة الخارجية من الغلاف الجوي للشمس.
وذلك يشبه أن تمد يديك أمامك لتحجب عن عينيك ضوء الشمس في يوم مشرق، كي تستطيع أن ترى أمامك، فقرص الشمس ساطع جدا، وإذا لم يُحجب، لن يستطيع التلسكوب رؤية الهالة الشمسية الرقيقة التي تحيط به، لأنها ستكون مغمورة في وهج الضوء.
على سبيل المثال في واحدة من أشهر صور مرصد الشمس وغلافها يُرى مذنبان يتحركان حول الشمس متجهين جنبا إلى جنب نحو هالة الشمس، وأحد هذين المذنبين بالأسفل قد تشوهت صورته ليصبح بشكل مجنح، هذه الظاهرة تتكرر كثيرا ويمكن لك بمتابعة صور المرصد أن ترى كثيرا منها.
لاحظ كذلك أن هناك عديدا من النقاط التي يظهر بعضها تشوها شبيها بسبب طبيعة الكاميرا.
ولكن كثيرا ما تظهر الصور الملتقطة بهذه الطريقة نقاطا غريبة الشكل، فقد تظهر مجنحة أو مشوهة، تعود هذه الأشكال إلى ظاهرة تُعرف باسم "تشبع جهاز اقتران الشحنة".
إعلانعندما يدخل جسم شديد السطوع، مثل كوكب الزهرة أو المشتري، مجال رؤية منظار التاج الخاص بمرصد سوهو، فإنه قد يُغرق مستشعر الكاميرا. يؤدي هذا إلى تسرب الشحنة الزائدة من البكسلات المشبعة إلى البكسلات المجاورة، مما يُشكل خطوطا أفقية أو "أجنحة" تمتد من المصدر الساطع. هذا أمر شائع في أجهزة استشعار التصوير الرقمي عند تصوير أجسام شديدة السطوع.
وتلتقط أجهزة المرصد صورا متكررة للكواكب والنجوم التي تمر عبر مجال رؤيتها. على سبيل المثال، غالبا ما يظهر كوكب الزهرة كجسم ساطع في هذه الصور، مما يؤدي إلى مظهره "المجنح" المميز بسبب تشبع جهاز اقتران الشحنات.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك كثيرا من المؤثرات على حساسات كاميرا هذا النوع من المراصد، التي قد تظهر تشوهات أخرى في الصور، مثل اصطدامات الأشعة الكونية، حيث يمكن أن تصطدم الجسيمات عالية الطاقة بجهاز اقتران الشحنات، مما يُنتج بقعا أو خطوطا ساطعة لا علاقة لها بالأجرام السماوية الفعلية.
وقد تؤدي مشاكل نقل البيانات إلى فقدان أو تلف كتل الصور، مما يؤدي إلى أنماط أو أشكال غير عادية في الصور.
وكذلك يمكن أن تُنتج الانعكاسات الداخلية داخل الجهاز صورا شبحية أو شذوذا أخرى، خاصة عند إغلاق باب الحماية الخاص بالجهاز في أثناء إجراءات المعايرة.
ويجدر بنا في هذا السياق توضيح أن الأمر ليس جديدا، إذ لا تمر عدة أعوام إلا ويخرج أحدهم ليتحدث عن هذه الأجرام المجنحة ثم ينتقل للحديث عن نهاية العالم.
بدأ الأمر من جديد عام 2017، حينما ربط أحد منظري المؤامرة في الولايات المتحدة الأميركية، ويسمى ديفيد ميد بين نصوص دينية ونهاية العالم، وقال إنه تمكن من معرفة الموعد الدقيق لنهاية العالم، والذي سيكون في أكتوبر/تشرين الأول 2017، لكنه راجع التاريخ لاحقا وقال إن التاريخ هو 23 سبتمبر/أيلول.
إعلانلم ينته العالم، ومن هنا تم ابتكار تبريرات إضافية، وفي هذا السياق، ادعى ميد أنه استخدم هندسة أهرامات الجيزة للتنبؤ بالموعد الدقيق لوصول كوكب مدمر إلى الأرض، الأمر الذي أدخل الحضارة المصرية القديمة في الحكاية.
في هذا السياق، ربط بعض منظري المؤامرة حول العالم بين الأجرام المجنحة في صور ناسا ورمز "الشمس المجنحة" في النقوش المصرية القديمة، والذي يظهر أجنحة حورس، الذي يمثل السلطة المطلقة لإله الشمس.
جاء ذلك كله في سياق خرافة علمية شهيرة تدعي اقتراب جرم أو كوكب ضخم من الأرض بغرض تدميرها، إذ قال زكريا سيتيشن، وهو كاتب أميركي من أصول روسية قبل نحو 20 سنة، إن الفضائيين زاروا الأرض قبل آلاف السنين، وأخبروا السومريين بأسرار علم الفلك، ومنها أن كوكبا يدعى "نيبيرو" يقترب من الأرض وقد يصطدم به قريبا، وفقا لتفسير سيتيشن للنصوص الدينية القديمة لبلاد ما بين النهرين، فإن نيبيرو يمر كل 3600 عام.
كان سيتيشن يرى أن الكائنات الفضائية هي من وضعت البشر على سطح الأرض، وأن آلهة بلاد ما بين النهرين القديمة كانوا رواد فضاء من كوكب "نيبيرو".
خرافة نيبرومع انتشار الإنترنت، انتقلت هذه الخرافات العلمية إلى العالم العربي، وتحول "كوكب نيبرو" إلى أسماء أخرى، مثل "النجم الطارق" و"كوكب سقر"، بغرض جمع اهتمام الناس.
ومن وجهة نظر فلكية، لا يمكن أن يقترب أحد الكواكب بهذا الشكل من الأرض من دون أن ندرك وجوده، حيث سيكون منيرا في السماء لعدة أشهر أو حتى سنوات قبل وصوله، مثلما تفعل كواكب مثل المشتري أو زحل طوال العام.
يعني ذلك أن كوكب نيبرو كان ليُرى في تلسكوبات هواة الفلك في العالم أجمع، وليس الوكالات الفضائية فقط، فأي شخص يمتلك تلسكوبا متوسطا، مثل كاتب هذا الكلام وآلاف مثله في الوطن العربي فقط، يمكن ببساطة أن يلاحظ وجوده.
من جانب آخر، فإن مرور كوكب كبير نسبيا بين الكواكب الأخرى كان ليؤثر بوضوح شديد في مداراتها، بحيث يتمكن الفلكيين وهواة الفلك في كل العالم من ملاحظة ذلك من مسافات بعيدة جدا، وبالتالي فإن "نيبيرو" من المؤكد أنه ليس حتّى ضمن الكواكب الثمانية للمجموعة الشمسية.
إعلان