الحرب الخفية في غزة: الحسابات على الأرض والحسابات الإقليمية
تاريخ النشر: 9th, April 2025 GMT
ما يزال حلم سرقة أرض غزة من أهلها وطردهم منها حاضرا أمامنا، وكأننا أمة لقيطة لا أصل لها، ولا حضارة، يستهين بها رعاع الأرض. لكن ما يقدمه صمود شعبها يؤكد، أن المقاومة لا تزال هي الرقم الصعب، القادرة على نقل الحرب إلى داخل إسرائيل، على الرغم من كل الجروح النازفة التي أصيبت بها، والهمجية الوحشية الإسرائيلية في حرق الأرض وقتل السكان وتجويع الأحياء منهم، لجعل غزة مكانا غير قابل للحياة ودفع شعبها للرحيل.
وقد وجهت حماس إلى نتنياهو رسالة واضحة وهو في طريقه إلى واشنطن، بضرب عسقلان، تقول له: لا تخطئ الحسابات، فالمقاومة تملك القدرة على الرد. زيارة نتنياهو، الذي استُدعي على عجل، تسبق زيارة ترامب المرتقبة للرياض، تترافق مع تغييرات كبيرة على الأرض في غزة وسيناء والضفة الغربية والقدس الشرقية وجنوب لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران وفي داخل اسرائيل نفسها، حيث اشتعلت المعركة في المحكمة العليا بين مدرسة «حكم الأغلبية» ومدرسة «حكم القانون». في واشنطن رفض ترامب طلب نتنياهو إلغاء الرسوم الجمركية، رغم تعهد الأخير بتصحيح الميزان التجاري، وأثنى على اردوغان الذي يكرهه نتنياهو، وأعلن بدء مباحثات أمريكية مع إيران يوم السبت المقبل في مسقط، في مخالفة لتوقعات نتنياهو بأنه سيوجه ضربة عسكرية أمريكية قاصمة إلى إيران. في اليوم نفسه تقدم الهجوم الدبلوماسي المصري خطوة للأمام، بعرض جديد لحل المعضلة في غزة، بوقف إطلاق النار وإدخال الإمدادات الإنسانية وتبادل الأسرى والمحتجزين، وبدء مفاوضات المرحلة الثانية لإنهاء الاحتلال وإعادة بناء القطاع.
قدرة المقاومة على نقل الحرب
اعتقد نتنياهو أنه بتغيير كل من وزير الدفاع ورئيس الأركان، يستطيع تعويض العجز العسكري، وتحقيق أهداف الحرب بواسطة العملية العسكرية الجديدة التي أُطلِق عليها اسم «القوة والسيف»، بعد فشل عملية «السيوف الحديدية» التي أُطلِقت قبل 18 شهرا. من الناحية العسكرية فإن القوات الإسرائيلية تعيد في عملية «القوة والسيف» تكرار ما فعلته في عملية «السيوف الحديدية»، لكن في أرض محروقة تقريبا، قدمت أكثر من 2.5 في المئة من أهلها شهداء وجرحى خلال العملية السابقة في غضون أقل من 18 شهرا. الجيش الإسرائيلي يحاول التغطية على فشله بالمزيد من حرق الأرض وقتل المدنيين الفلسطينيين، خصوصا الأطفال والنساء. الجنرال زامير يعتمد استراتيجية لتدمير المزيد من المنشآت المدنية، وقتل المزيد من المدنيين خصوصا الأطفال والنساء والجرحى، وتوسيع الهجوم البري على غزة، ودفع السكان إلى النزوح تحت مبرر حماية أنفسهم من الوقوع في مصيدة مناطق العمليات، التي تغطي حاليا أكثر من ثلثي مساحة قطاع غزة، وحشر مئات الآلاف في مساحات ضيقة جدا، مثلما هو الحال في مخيم المواصي في مدينة رفح، التي تم احتلالها. الرئيس الأمريكي يستغرب بقاء الفلسطينيين وعدم رحيلهم، وكأن الشرعية هي للاحتلال وليست للمقاومة. ومن المؤكد أن تنظيمات حماس العسكرية والإدارية في قطاع غزة، إلى جانب غيرها من منظمات المقاومة تتعرض لخسائر يومية في المواجهات مع القوات الإسرائيلية، ومع ذلك فإن صمودها، واستمرار قدرتها على الرد، جعل قوات الجيش في حالة توتر متزايد، خصوصا مع استمرار تمسك المقاومة بعدم إطلاق سراح المحتجزين، إلا وفقا لشروط اتفاق يضمن وقف الحرب أولا. يقول مئير بن شبات الرئيس الأسبق لمجلس الأمن القومي وجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) في مقال أخير (معهد مسغاف – 3 من الشهر الحالي) إن توسيع العمليات البرية للجيش الإسرائيلي في جنوب قطاع غزة، التي تشمل إجلاء السكان إلى المواصي، والاستيلاء على ممر موراج، الذي يفصل خان يونس عن رفح، تهدف إلى زيادة الضغط على قيادة حماس لقبول مطالب إسرائيل بشأن تسليم المحتجزين، إضافة إلى تمهيد الطريق لعملية برية كبرى في حال فشل المفاوضات. نتنياهو قال بوضوح (تصريحات مصورة في 2 من الشهر الحالي) إن سيطرة القوات على محور موراج، تهدف لتقطيع أوصال قطاع غزة بإنشاء محور أمني جديد يفصل رفح عن باقي القطاع، في محاولة لزيادة الضغط على حركة حماس للإفراج عن المحتجزين، ثم إنشاء محور «فيلادلفيا ثان»، لفصل قطاع غزة تماما عن مصر. ومع ذلك فإن إطلاق الصواريخ بواسطة حماس على عسقلان مساء الأحد الماضي، يثبت أن العملية العسكرية الجديدة ستلقى مصير السابقة.
وفي مواجهة فشلها تشن إسرائيل حربا خفية على حماس، تهدف إلى تحريك جزء من السكان ضدها، ما يخلق جبهة معادية داخل قطاع غزة تسهم في تفكيك الصمود الفلسطيني، وقد عمدت إسرائيل وأجهزة دعاية متواطئة معها إلى تضخيم حجم وقيمة التحركات المعادية لحماس، بهدف تكثيف تأثيرها على الحالة المعنوية، وتوسيع نطاق الحرب النفسية التي تستهدف المدنيين ورجال المقاومة على السواء. ويقترح واحد من خبراء علم النفس، الذين عملوا سابقا مع المخابرات الإسرائيلية، أن يكون الهدف من الحرب الخفية، خلق حالة نفسية في غزة والضفة الغربية، يخشى فيها الناس من الانخراط في المقاومة، خوفا من أن شخصا ما سيبلغ عنهم على الفور ويسلمهم، ويخشى فيها أعضاء حماس من إبلاغ السكان عنهم. هذه الفرضية تقوم على أساس المطابقة بين «المقاومة» و»الإرهاب»، وهي مطابقة تمثل مصيدة قد يقع فيها القارئ الأجنبي وليس المواطن، الذي يعيش تحت الاحتلال، المؤمن بأن «التعاون» مع الاحتلال «خيانة» تستحق العقاب. ومن الضروري الإشارة هنا إلى مسؤولية منظمة فتح عن المشاركة في مكافحة الحرب الخفية، بما لها من نفوذ داخل قطاع غزة، ذلك أن الحرب الخفية تستهدف فتح ومنظمات المقاومة جميعا وليس حماس فقط.
خيارات إسرائيل محدودة
يعتبر مئير بن شبات، أن الحرب النفسية ضد حماس، قد تزيد من غضب بعض الناس وتشجعهم على الاحتجاج ضدها، لكنه حذر من المبالغة في تعليق الآمال عليها. وأوضح أن الاحتجاجات التي تطورت خلال الأسبوعين الماضيين، لم تُشكل تحديا حقيقيا لحكم حماس. وأرجع بن شبات ذلك إلى أن المتظاهرين غير منظمين تحت قيادة موحدة، ويفتقرون إلى القدرات والوسائل اللازمة لتصعيد احتجاجهم. وقال إن حماس تقف في مواجهتهم قوة كبيرة وقوية وماهرة ومسلحة، قادرة على وقف أي تنظيم يُشكل تهديدا لها. ونقل عن عزت الرشق عضو المكتب السياسي لحماس قوله، إن «العدو لن يحقق بالحرب والدمار ما عجز عنه بالمفاوضات». واستنتج بن شبات أنه مع استئناف القتال في المرحلة الحالية، لا بد من الاعتراف بأن التحدي الذي تواجهه إسرائيل ليس بسيطا، وأن البديل الذي تتمسك به حماس يقلل من الخيارات المتاحة لإسرائيل. وطبقا لتقييم بن شبات فإن الرهائن الذين بحوزة المقاومة هم السلاح الوحيد المتبقي لها، لفرض مطالبها على إسرائيل. وهنا يقع بن شبات في الخطأ، لأن المقاومة لديها أوراق أخرى إلى جانب المحتجزين، من أهمها قدرتها على الرد، وتحالفاتها الخارجية، والتعاطف العالمي الكاسح، الذي تعترف إسرائيل بأنه أكبر التهديدات التي تواجهها في الخارج، خصوصا في الولايات المتحدة. وربما كان حديث نتنياهو بعد لقائه ترامب في واشنطن مساء الاثنين الماضي عن جهود للتوصل إلى صفقة جديدة لتبادل الأسرى والمحتجزين، إشارة إلى احتمال حدوث تغيير عسكري مؤقت في غزة تكتيكيا، لإفساح المجال لمفاوضات وقف إطلاق النار وإدخال الأغذية والأدوية ومياه الشرب والوقود، وتبادل أعداد محدودة من الأسرى والمحتجزين، وهو ما يعني عمليا إسقاط مبدأ نتنياهو بأن تجري المفاوضات «تحت النار».
وقد انشغلت مراكز الفكر الاستراتيجي الإسرائيلية في الأسابيع الأخيرة بعمل دراسات لاستكشاف الخيارات المتاحة أمام الحكومة الإسرائيلية، مع انخفاض قدرة الجيش على تحقيق اختراق أو تغيير استراتيجي لقواعد اللعبة في غزة. وقال الجنرال (احتياط) تامر هايمان، الذي يرأس حاليا معهد الدراسات الاستراتيجية التابع لجامعة تل أبيب، وشغل من قبل منصب مدير المخابرات العسكرية (2018 – 2021) أن إسرائيل تواجه ثلاثة خيارات استراتيجية محتملة لتحقيق أهداف الحرب: الأول هو احتلال قطاع غزة وفرض نظام عسكري (وهو ما يفضله صراحة نتنياهو)؛ والثاني هو حصار القطاع، ما يُضعف حماس ويردعها (وهو الخيار الواقع فعلا على الأرض)؛ والثالث هو الاتفاق على مناقشة الاقتراح المصري لإعادة إعمار القطاع، وإقامة سلطة حكم بديلة لحماس. وبعد دراسة كل من تلك الخيارات أكد هايمان أن المسار الدبلوماسي هو الخيار الوحيد الذي يمكن أن يحقق أهداف الحرب، بتكلفة منخفضة نسبيا. هذا الاستنتاج يعني أن هايمان يرى فشل عملية «القوة والسيف» يلوح في الأفق، وأنه لا مكان لحلم ترامب بتحويل غزة إلى مشروع استثمار عقاري عالمي.
(القدس العربي)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه غزة المقاومة حماس حماس غزة المقاومة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة صحافة اقتصاد صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحرب الخفیة قطاع غزة فی غزة
إقرأ أيضاً:
كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟
أمام الهزائم العسكرية والسياسية للأنظمة العربية، كانت الشعوب العربية تفرز أدواتها في المواجهة. فمنذ ثلاثينيات القرن العشرين تحولت القضية الفلسطينية من رخاوة الأنظمة إلى صلابة التنظيمات.
ففي المواجهة لم تسقط الزعامات والأيديولوجيات فقط، بل سقطت أيضا الجيوش النظامية ومعها سقط دورها في التحرير. وخلف عجز الأنظمة كانت تتراءى حماسة الشعوب. وخلف ضعف الجيوش كانت تبرز جسارة القوى الضاربة.
فكأن التنظيمات السياسية والأيديولوجية قد جاءت لملء الفراغ. فقد أحيت نكبة 1948 في الأمة مفهوم الجهاد. وحررت هزيمة 1967 المبادرة الشعبية وأيقظت مفهوم التحرير. وفجرت معاهدة كامب ديفيد 1978 حركات المقاومة مع بداية الثمانينيات. وعلى طول تاريخ القضية الفلسطينية، كانت تتعايش أطروحتان: واحدة للمقاومة، وأخرى للسلام.
النكبةلقد وجدت الجامعة العربية نفسها بعد بضع سنوات من تأسيسها أمام أصعب اختبار لها: القضية الفلسطينية. لم يكن تأسيسها من أجل تحرير فلسطين، بل كان محاولة بريطانية لتجاوز ضغائن الخديعة البريطانية للشريف حسين.
فكان ميلاد الجامعة تعويضا عن دولة الوحدة بوجهيها القومي والإسلامي. ومن ثم لم تكن فلسطين على جدول أعمال تلك المنظمة الإقليمية الناشئة. ولا شك في أن عجز المنظمة وأنظمتها على معالجة المسألة منذ بواكيرها قد دفع نحو تدويل القضية. فكان قرار التقسيم نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 حجر الأساس للكيان الغاصب. لتندلع بعده إحدى أعتى المواجهات.
قررت الحكومات العربية في اجتماع "العالية" 1947 أن تكوّن فصيلا شبابيا حسن التدريب والأداء. وتولت جامعة الدول العربية تأسيس "جيش الإنقاذ" بقيادة فوزي القاوقجي. ولكن الضغط البريطاني كان كفيلا بإسقاط ذلك المشروع. وهو المصير نفسه الذي لقيته لجنتهم العسكرية بقيادة "طه الهاشمي" واللواء إسماعيل صفوت باشا.
إعلانوحتى النجاحات التي حققتها تلك الجيوش في الجولات الأولى للصراع ذهبت أدراج الرياح بفعل المناورات الغربية (الهدنة الأولى والثانية). فكانت نكبة 1948 فاتحة الهزائم العربية. إذ لم تكن الحكومات العربية في حجم القضية.
فما بين العجز الذاتي والارتهان للقرار البريطاني والخيانة الصريحة، كانت الحكومات العربية تُسقط من حسابها أي مواجهة جدية للأطماع الصهيونية في فلسطين، وتتنصل من مسؤولياتها القومية والإسلامية.
فقد خضعت أغلب الحكومات العربية لإرادة الغزاة. وظلت "تستجدي الحلول من القوى الإمبريالية التي كانت ولا تزال تشكل رأس حربة في أزمة القضية الفلسطينية".
ففلسطين لم تكن "المحرك الرئيسي لسياسات الدول العربية، بل كان الدافع وما يزال هو تأمين الأنظمة الحاكمة في الدول الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار". وتلك الحسابات كانت السبب المباشر في تأخير الاستجابة لداعي الجهاد في فلسطين.
التنظيمات الشعبية ونقد الدولةأمام عجز الأنظمة العربية كانت التنظيمات قبل النكبة وبعدها تدخل على خط الصراع. فكتب ميشال عفلق سنة 1946 يقول: "لا ينتظر العرب ظهور المعجزة: فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي". وساد اعتقاد لدى حسن البنا أن الأنظمة العربية ليست جادة في مقاومة الاحتلال.
وأكد كامل الشريف "أنه لا خير يرجى في هذه الحكومات". فالعوائق أو "المصائب" أو "العبث" الذي يجد ترجمته في فساد أنظمة الحكم القائمة، وهيمنة الاستبداد السياسي، واختلاف الدول العربية فيما بينها… كل تلك العوامل في تضافرها كانت "كافية لإيقاع الهزيمة".
وقد كان نقد الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية مقدمة لسحب القضية من الأنظمة ووضعها بين أيادي الفعاليات الشعبية المدنية والعسكرية. ففي فلسطين بادرت "الهيئة العربية العليا" برئاسة الحاج أمين الحسيني بتشكيل قوات "الجهاد المقدس" بقيادة عبدالقادر الحسيني.
وخلال الأشهر الخمسة الأولى للحرب تمكنت تلك القوات من تكبيد العصابات الصهيونية خسائر فادحة. ولكن مع دخول جيوش الدول العربية فلسطين 15 مايو/ أيار 1948 "ظهرت سياسة إقصاء الفلسطينيين عن ميادين المعركة ومنع الأموال والأسلحة عنهم".
وقد جاء تقرير عبدالقادر الحسيني للجامعة العربية في أبريل/ نيسان 1948 يقطر مرارة وأسى بسبب خذلان لجنتها العسكرية التي ماطلت في إمداده بالمال والسلاح. وفي ذلك التقرير حمّل الجامعة مسؤولية ضياع فلسطين. ليستشهد بعدها بيومين في معركة القسطل.
أما عربيا فقد زحف المتطوعون العرب نحو فلسطين. وبرزت في الأثناء كتائب الإخوان المسلمين كقوة وازنة في الصراع. فرغم تضييق السلطات، نجحت طلائع الإخوان في التسلل إلى داخل فلسطين، حيث تمكنت قوة من المتطوعين بقيادة أحمد عبدالعزيز من الوصول إلى خان يونس. والتحقت بهم قوة أخرى من شرق الأردن بقيادة عبداللطيف أبوقورة. ثم حلت قوة أخرى من سوريا بقيادة زعيم الإخوان مصطفى السباعي.
وفي غزة استقرّت قوة البكباشي عبدالجواد طبالة. وعلى أرض فلسطين أدارت تلك الطلائع معارك ضارية ضد العصابات الصهيونية. وقد علق هيكل على تلك الاشتباكات بالقول: "لقد أثبت بعضهم نفسه تحت نيران القتال". وهكذا فقد كانت الجماهير العربية خلال النكبة متقدمة على حكامها.
إعلان النكسةلقد أجهزت قوات الاحتلال في صباح الخامس من يونيو/ حزيران على القوات الجوية المصرية بضربة خاطفة. فدمرت مئات الطائرات المصرية في قواعدها. وضربت المطارات وعطلت قواعد الصواريخ أرض-جو.
مشهد أجمله أنور عبدالملك في قوله: "كانت القوات المصرية المسلحة قد ضُربت بشكل خطير، واحتلت سيناء، وشلت قناة السويس، ومُحي سلاح الطيران عمليا كوحدة مقاتلة، وتفجرت أعمال الخيانة والإجرام والتآمر، وانتشرت في كل مكان". كل ذلك في سويعات معدودات. وبإخراج القوات الجوية المصرية من الخدمة، فقد تركت بقية القوات في العراء من دون أي غطاء جوي.
وجاء قرار الانسحاب غير المدروس من سيناء ليزيد من الكلفة البشرية للهزيمة. ومع انهيار الدرع الواقي الذي كان يحمي عمق الأمة، فقد أصبح عمق الجغرافيا العربية – فضلا عن أطرافه- مهددا. فزحفت قوات العدو نحو سيناء بعد أن دمرت بقية القوات المسلحة المصرية.
واندفعت نحو الضفة الغربية فاحتلتها واستولت على القدس الشرقية بعد أن انهارت الدفاعات الأردنية في اليوم التالي. وكذلك فعلت في قطاع غزة. أما القوات التي اتجهت نحو سوريا فقد "تمكنت من احتلال مرتفعات الجولان دون مواجهة أي مقاومة تتناسب مع القوات العسكرية الضاربة المحتشدة هناك".
ولم تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن أحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على مساحات جديدة. وحسبنا من القراءات لتلك الكارثة المدمرة وصف هشام شرابي للهزيمة بـ "أيام حزيران السوداء". فكيف انعكست الهزيمة على الاختيارات النضالية للفلسطينيين؟
مثلت هزيمة 1967 منعطفا إستراتيجيا في الوعي السياسي الفلسطيني. وكان من نتائج الهزيمة "ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة وتعاظمها، وبروز الهوية الوطنية الفلسطينية التي قررت أن تأخذ زمام المبادرة بعد أن تبين لها مدى الضعف العربي". فقد قضت الهزيمة على إيمان الفلسطينيين بالحكومات "التقدمية" التي كانت معقد الآمال. "وأثبتت فشل الأنظمة العربية وعجزها عن تحرير فلسطين".
وينقل يزيد صايغ عن خليل الوزير أنه كان يرفض "الاعتماد على الدول العربية وجيوشها". وهكذا فقد ساعدت تلك البيئة على الاعتراف بالحركة الوطنية الفلسطينية كلاعب أساسي في الشرق الأوسط.
ويحسب للحركة أنها نجحت في "فرض نفسها كمعبرة عن الطموحات الوطنية للشعب العربي الفلسطيني". وهو ما أسهم في تشكيل الرؤى السياسية والميدانية للمنظمة. ففي المستوى الأيديولوجي قلبت حركة فتح ذلك الشعار الذي لطالما تغنى به القوميون العرب "الوحدة طريق فلسطين" إلى شعار "فلسطين طريق الوحدة". شعار ستتأسس عليه الكثير من التحولات التكتيكية والإستراتيجية. ومنذ أن استعادت منظمة التحرير المبادرة، اختارت الاستقلال السياسي والتنظيمي عن الجامعة العربية وأنظمتها.
وأما ميدانيا فقد بدأ مفهوم العمل الفدائي يتبلور كبديل من الحروب النظامية. وعلى تلك القاعدة كانت انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع 1965. وساد إجماع لدى أغلب الفصائل الفلسطينية مفاده أن تحرير الأرض لا يكون إلا عبر الكفاح المسلح. وهو المضمون المركزي الذي تبناه "الميثاق الوطني الفلسطيني".
وتفجرت سجالات سياسية حول نظرية التحرر الوطني من خلال دراسة النظريات الثورية وتجارب الشعوب المستعمرة. وهو ما أنتج مجموعة من الأدبيات دارت أغلبها حول حرب الشعب، وحرب التحرير الشعبية وغيرها.
وفي ضوء تلك الأدبيات جرى تأسيس عدة قواعد للعمل الفدائي في أغلب دول الطوق. وكانت ملحمة الكرامة 1968 ترجمة عملية لتلك التوجهات الجديدة. وهو ما زاد في ترسيخ النهج المقاوم حتى أصبح "الكفاح المسلح مصدر الشرعية السياسية ورمز الهوية الوطنية، والمادة الجديدة للمجتمع الفلسطيني المتخيل".
والحقيقة أن الأداء الفصائلي بعد الهزيمة لم يقطع الصلة تماما مع الأنظمة الراديكالية. فغالبا ما كانت التصورات الثورية تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تمر بها الأنظمة. ولكن رياح يونيو/ حزيران بقدر ما أذكت نار الاستنزاف، فقد هيأت للعبور.
إعلان حرب العبورلقد عرفت مصر بعد وفاة عبدالناصر تحولات سياسية مهمة. فالمناخات الراديكالية في مصر والعالم العربي بدأت في الضمور لصالح اتجاه عربي ميّال إلى "الاعتدال" في مقاربة الصراع. وكانت القناعة الحاصلة لدى السادات أن "تدمير الدولة اليهودية هدف غير قابل للتحقيق". وفي تلك السياقات لم تكن حرب العبور إلا عملية جراحية القصد منها الإعداد لمسرح التسوية.
مثلت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 أول انتصار مصري على قوات الاحتلال بعد ثلاثة حروب متتالية. فقد بدأ الهجوم المصري ظهيرة السادس من أكتوبر/ تشرين الأول على مواقع العدو في سيناء قصد تحييدها وحرمانها من أي قدرة على الرد أو الحركة قبل تحقيق العبور إلى شرق القناة. فكان "وقع المفاجأة بنوعيها الإستراتيجية والتكتيكية قد تحقق إلى نهايته".
ومنذ ليلة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عبرت من الجيش المصري نحو شرق القناة خمس فرق مشاة ومئات من الدبابات وعدد من كتائب الصواريخ وأسلحة إسناد أخرى.
استبشر الفلسطينيون بتلك التطورات الميدانية. واعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية أن إعلان الحرب على دولة الكيان كان "فرصة عظيمة أمام الفدائيين الفلسطينيين لتصعيد فاعليتهم القتالية".
ولكن العبور لم يعقبه تطوير للهجوم المصري مثلما خُطّط له. فقد جرى الالتفاف على الانتصار المذهل للمصريين بداية الحرب. ومن خلال "الثغرة" التي أحدثها جيش الاحتلال في جدار المواجهة، بدأ في إحراز تفوق ملموس غرب القناة.
وكشفت تلك الأيام الصعبة عن انعدام التناغم بين المؤسسات. فقد أربك تدخل السادات في إدارة المعركة حسابات العسكر. وحكم على حرب العبور ألا تتجاوز خط العبور.
لقد آل النصر إلى لهاث لا ينقطع وراء سراب "السلام". وانتهى تحطيم جدار بارليف 1973 إلى هدم "جدار الكراهية الحديدي" 1977، مثلما كان يتوهّم السادات. فعوض البناء على "العبور" اندفع العرب نحو التسوية.
وقد أدرك كيسنجر مبكرا أن الإجراءات العسكرية التي اتخذها المصريون سوف "تؤدي آجلا أو عاجلا إلى مفاوضات سياسية". والحق أن مآلات العبور لم تكن مثل مآلات النكبتين. فهي لم تدفع إلى السطح بقوى جديدة تتناقض رأسا مع تصورات الأنظمة العربية للقضية.
بل إن كامب ديفيد قد فتحت الباب على مصراعيه نحو التسوية. فهي لم تكن إلا بداية الهرولة العربية نحو الصلح والاعتراف والتفاوض مع دولة الاحتلال.
وهنا تقول حقائق التاريخ إن منظمة التحرير الفلسطينية قد أضحت متماهية مع الرسمية العربية. وإن عرفات لم يكن مختلفا عن السادات. فكلاهما كان ينشد "التسوية". وإن اختلفت التكتيكات والإستراتيجيات.
لقد ظلت الهوة تتسع بين الأنظمة العربية وشعوبها في التعامل مع القضية الفلسطينية. فكلما وهنت الأنظمة قامت الشعوب تنشد التحرير من خلال المقاومة. فمن نكبة 1948 ولدت القوى الشعبية القومية والإسلامية. ومن نكسة 1967 صلب عود منظمة التحرير الفلسطينية.
ولكن حرب العبور كانت فاتحة للتسوية المعممة. تسوية ستستمر مفاعيلها من كامب ديفيد 1977 حتى أوسلو 1993، مرورا بقصر الصنوبر بالجزائر 1989. وردا على مشاريع التسوية كان أسلوب آخر من المقاومة ينضج على مهل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline