العنصرية الضمنية في تبرير الهيمنة الغربية وانعدام المساواة
تاريخ النشر: 9th, April 2025 GMT
لا ينظر للطفولة باعتبارها مرحلة كغيرها. بل المرحلة التي تُكوّن الإنسان ذهنيا، جسديا، ونفسيا. مرحلة يتقرر فيها ما إذا كان الطفل سيؤجل أكل قطعة المارشميلو ليكافأ بأخرى، ويكبر ليصبح إنسانا قادرا على ضبط النفس، تأجيل تحقيق الرغبات، ينال الشهادات، والترقيات، ويحقق النجاح الاجتماعي. أو ما إذا كان سيأكلها مباشرة، وينتهي باختصار بلا مستقبل.
لكن، ثمة أطروحات جديدة لا تكتفي بأن ترفض هذه الأفكار، لأننا نفتقر للأساس العلمي الذي يدعمها، بل تذهب إلى تسليط الضوء على خطر هذه النظرة الجوهرانية والحتمية لنمو الإنسان.
تكتب فرانسيسكا مِزينزانا وغابرييل شايدكر في «ما المشكلة في ذكاء أطفالنا؟» حول تحويل تدخلات الطفولة المبكرة لوسائل هيمنة في الجنوب العالمي. يعمل منطق هذه التدخلات كالتالي: إذا ما تم التدخل في تربية الأطفال على نحو محفز، يحسن أدمغتهم، فسيعود بنتائج إيجابية على أدائهم الأكاديمي، وتكوينهم كناضجين. إن هذه التدخلات تمثل استثمارا فعالا يعِدُ بتحقيق النمو الاقتصادي، السلام، الديمقراطية بأنجع الطرق، عبر استهداف لبنات المجتمع الأساسية، ومكون مستقبله الأهم.
وفق هذا تُصمم برامج للتطور الأمثل لدماغ الأطفال، تستفيد من المرحلة التكونية، وقدرة الدماغ على النمو بوتيرة لن تتكرر مستقبلا.
يُجادل الكاتبان أن هذا المنطق يقوم على افتراضين مترابطين. «الأول هو أن هناك خطأ جوهريا في طريقة تربية الآباء في الجنوب العالمي لأطفالهم. والثاني هو أن قضايا مثل الفقر، وانخفاض الدخل، والبطالة، وعدم الاستقرار السياسي أو الحروب يمكن إرجاعها بطريقة ما إلى عيوب فردية».
هذه السرديات تؤكد على وجود قصور. والقصور الذي كان يُرد يوما ما إلى دونية العرق، يُربط اليوم بالظروف الاقتصادية الاجتماعية فترة التنشئة. سردية تُعزي أصحاب الامتيازات عبر تأكيدها أنهم لا يتحمّلون مسؤولية التفاوت الاقتصادي والاجتماعي. وهي أداة طيعة لتبرير فشل السياسات، ودور القوى المهيمنة في المصير المؤسف للدول التي استعمرتها، وتواصل استعمارها بنعومة في عالم اليوم. غني عن الذكر كيف استغل هذا لانتزاع الأطفال من السكان الأصليين، وكيف أن وضع تنشئة الطبقة المتوسطة في الدول الغربية كمعيار، يفشل في الأخذ في الحسبان الفروق الاجتماعية والثقافية التي تنتج أساليب أخرى، لعلها أكثر ثراءً وتحفيزا. فالأب الغربي يحتاج ليعين «موعد لعب» حتى يتسنى لطفله اللعب مع أقرانه، بينما الحارة والعالم هي ملاعب الأطفال الطبيعية في مناطق أخرى.
يتم عبر سرديات النمو المبكر الاحتفاظ بعقلية الحتمية وتحويل المسؤولية من النظام وسياساته إلى طبيعة الأفراد. ولأن تفسيرات الحتمية البيولوجية للسلوك البشري -والتي تركز على دور الجينات على حساب البيئة أو التربية والأقران- لم تعد مقبولة أخلاقيا ومعرفيا اليوم، يحدث الانزياح من مرحلة التكون الجنيني إلى الطفولة المبكرة، ليرتبط حظ الإنسان، وما يستحقه في الحياة بظروف تنشئته التي لا سبيل لإلغائها.
الذي نغفل عنه غالبا أن كثيرا من الاستنتاجات حول الأمر تُبنى على دراسات لحالات استثنائية، متطرفة. أقتبس مجددا من فرانسيسكا مِزينزانا وغابرييل شايدكر، اللذين يقولان: «تستند معظم الأبحاث حول تأثير الحرمان على الدماغ في مرحلة النموّ إلى دراسات أُجريت على الأطفال الذين تم تبنّيهم من دُور الأيتام الرومانية بعد سقوط نظام تشاوشيسكو عام 1989، والذين عرفوا الحدّ الأدنى من التواصل البشري، وهو أمرٌ لن تعيشه الغالبية العظمى من أطفال العالم».
في أكثر من مناسبة أتحدث عن الحاجة الملحة لأن تُقرأ العلوم والنتاج المعرفي المتمركز حول الغرب على نحو ناقد. إن المقاييس التي توضع لتشخيص وتبرير التدخلات العلاجية والطبية قد تكون في حالات (غير كونها أداة هيمنة) ضد مصلحة الأطفال، لأسباب أقلها إقناعهم بأنهم يعانون من أمراض، ومن قصور. وأقصاها تهديد حياتهم عبر التدخلات غير الملائمة.
نوف السعيدية كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التی ت
إقرأ أيضاً:
من يدفع فاتورة النمو حين تشيخ المجتمعات؟
في ورقة بحثية حديثة صادرة عن صندوق النقد الدولي (مارس 2025)، يسلط الباحث «سيرهان تشيفيك» الضوء على التحديات الاقتصادية العميقة المرتبطة بانخفاض معدلات الإنجاب في أوروبا. فوفقًا للدراسة، يبلغ متوسط عدد المواليد لكل امرأة في أوروبا 1.46 فقط، وهو رقم يقل بكثير عن معدل الإحلال السكاني المطلوب (2.1) لضمان استقرار عدد السكان على المدى الطويل.
وتؤكد الدراسة التي تغطي بيانات 42 دولة أوروبية على مدى أكثر من ستة عقود أن التراجع المتسارع في عدد المواليد بالتوازي مع ارتفاع معدلات الشيخوخة يمثل عبئًا متزايدًا على النمو الاقتصادي. وفي محاولة لفهم العلاقة السببية بعيدًا عن التحيزات الإحصائية، استخدم الباحث مؤشرًا خاصًا بسياسات الإجهاض كأداة لقياس الأثر الحقيقي لانخفاض معدلات الإنجاب على الناتج المحلي الإجمالي للفرد.
وأظهرت النتائج أن النماذج التقليدية للدراسات السابقة قد توحي بعلاقة سلبية بين النمو السكاني والنمو الاقتصادي، لكن يتضح أن ارتفاع معدل المواليد يؤدي إلى نمو إيجابي حقيقي في الناتج المحلي الإجمالي للفرد، بل وتكون النتائج المُعدّلة أكثر تأثيرًا - بضعف تقريبًا - من نتائج النماذج التقليدية.
التراجع السكاني يكلّف النمو
ولا تقف تداعيات التراجع السكاني عند حدود التركيبة العمرية للسكان فحسب، بل تمتد لتطال عمق الاقتصاد الكلي، محدثة تحولات دقيقة ولكن عميقة في أنماط الادخار، وتوجهات الاستثمار، ومستويات الابتكار. وقد أشارت الدراسة إلى أن التقدم في أعمار السكان يُعيد رسم خريطة الطلب داخل الاقتصاد فمع تقدم العمر تقل ميول الأفراد للاستهلاك الكبير والمخاطرة ويزداد التركيز على الادخار وتوجيه الإنفاق نحو الرعاية الصحية والمعاشات بدلاً من السلع والخدمات الإنتاجية، وهذه التغيرات تقود إلى فتور مزمن في الطلب المحلي مما يُضعف ديناميكية الأسواق ويثبط شهية القطاع الخاص للاستثمار، خاصة في القطاعات المرتبطة بالشباب مثل التكنولوجيا، والتعليم، والعقارات.
والأخطر من ذلك - وفقُا للدراسة - أن الركود الديموغرافي لا يقتصر أثره على جانب الطلب فقط، بل يمتد إلى جانب العرض أيضًا، حيث تُشير الأدلة إلى أن المجتمعات التي تشيخ تقلّ فيها معدلات الابتكار، وتنخفض إنتاجية القوى العاملة، وتضعف فيها القدرة على استيعاب التحولات التكنولوجية السريعة. فالمجتمع الذي يشيخ يفقد بالتدريج عنصر «المخاطِر والمغامِر»، الذي غالبًا ما يكون محركًا أساسيًا لريادة الأعمال والنمو في اقتصاد السوق. وهذا الوضع يصبح أكثر تعقيدًا إذا كانت الدولة جزءًا من تكتل سكاني يعاني من الظاهرة نفسها، كما هو الحال في أوروبا، حيث لا توجد كتلة شبابية كافية لدفع عجلة الطلب عبر الحدود، وهنا تصبح الاقتصادات أشبه بمنظومة مغلقة،
حيث يؤدي انخفاض عدد السكان النشطين إلى تباطؤ اقتصادي، يدفع الحكومات إلى تقليص الإنفاق، مما يعمّق حالة الجمود.
ولتوضيح أثر انخفاض الإنجاب بشكل واقعي، تستعرض الدراسة حالة ليتوانيا، باعتبارها اقتصادًا انتقاليًا شهد تغيرات ديموغرافية حادة، حيث تراجع عدد المواليد في البلاد بنسبة 37٪ منذ عام 1990، مما أدى إلى تقلص عدد السكان، وارتفاع كبير في نسبة كبار السن.
ومن السهل أن يُنظر إلى تراجع المواليد باعتباره شأنًا اجتماعيًا خاصًا أو نتيجة طبيعية لتحولات الحداثة، لكن الدراسة تبيّن أن هذا الانخفاض يحمل في طياته تأثيرات هيكلية على الاقتصاد الكلي. فكلما قلّ عدد الأطفال، تقلصت قاعدة الهرم السكاني، ما يؤدي لاحقًا إلى تقلّص حجم القوة العاملة مقارنة بعدد المتقاعدين، وهو ما يعرف بـ«نسبة الإعالة». وينعكس هذا الخلل على أسواق العمل، والمعاشات، والطلب الكلي، والقدرة الإنتاجية للأمة، خصوصًا إذا لم تُعالج الفجوات بمقاربة استباقية بعيدة المدى.
رفاه حاضر مقابل عجز مستقبلي
تُظهر التجربة الأوروبية مفارقة لافتة يصعب تجاهلها، فالدول التي تعاني اليوم من أدنى معدلات الولادة، هي ذاتها التي تُصنَّف ضمن الأعلى دخلًا عالميًا، وتُعرف بأنظمتها الاجتماعية المتقدمة التي توفر التعليم المجاني، والرعاية الصحية الشاملة، ومعاشات تقاعدية سخية. وقد بدأ هذا النموذج، الذي شكل لعقود أساس «الحلم الأوروبي»، بمواجهة تحدّ خطير مصدره ليس في المال أو السياسة، بل في التركيبة السكانية نفسها.
فوفقًا للدراسة، فإن المكاسب الاجتماعية التي جنتها أوروبا عبر عقود من الرفاه، قد لا تكون مستدامة في غياب قاعدة سكانية شابة وواسعة تموّل هذه الأنظمة، فالمعادلة التي بُنيت عليها أنظمة التقاعد والرعاية الصحية كانت تفترض وجود عدد كبير من السكان في سن العمل مقابل أقلية من كبار السن، أما اليوم، فقد انقلبت النسبة تدريجيًا، وباتت الدول مطالبة بتمويل معاشات ورعاية صحية لعدد متزايد من كبار السن، اعتمادًا على ضرائب تُحصّل من عدد آخذ بالتناقص من الأفراد النشطين اقتصاديًا.
وتحذر الدراسة من أن هذا الاتجاه - إذا لم تتم معالجته - سيقود إلى فجوات مالية ضخمة في أنظمة التقاعد والضمان الاجتماعي، وربما إلى أزمات تمويل حادة تبدأ بزيادة الديون العامة، ولا تنتهي بتقليص الإنفاق أو فرض ضرائب إضافية تُضعف من تنافسية الاقتصاد. وهكذا، كما تُظهر الدراسة، فإن أوروبا تجد نفسها عالقة بين نموذج رفاه حاضر لا يستطيع التكيف مع واقع ديموغرافي جديد، ومستقبل مالي قد يُجبرها على إعادة كتابة العقد الاجتماعي من أساسه.
المرأة في قلب المعادلة
أكدت الدراسة بوضوح أن أحد المفاتيح الجوهرية لفهم التراجع في معدلات الإنجاب يكمن في التحولات العميقة في أدوار النساء داخل الاقتصاد والمجتمع؛ فمشاركة المرأة في سوق العمل، لا سيما في الاقتصادات المتقدمة، كانت من أهم المنجزات الاجتماعية في العقود الأخيرة، لكنها في الوقت نفسه طرحت معادلة جديدة لم تُعالج بما يكفي على مستوى السياسات تتمحور في السؤال التالي: كيف يمكن للنساء أن يجمعن بين الطموح المهني وتكوين الأسرة، دون أن يضطررن للاختيار القاسي بين الاثنين؟
وأظهرت الأدلة أن الارتفاع في مشاركة النساء في القوى العاملة، دون وجود سياسات داعمة كافية، يؤدي في كثير من الحالات إلى تأجيل الإنجاب أو العزوف عنه، حيث إن النساء يتحملن في غياب تلك السياسات عبئًا مزدوجًا يتمثل في مسؤولية العمل خارج المنزل، ومسؤولية الرعاية داخله. ومع ارتفاع كلفة الحياة وزيادة الضغوط الاقتصادية يصبح قرار إنجاب الأطفال محفوفًا بمخاوف حقيقية تتعلق بالاستقرار المالي والتوازن النفسي، وفرص التطور المهني. وتلفت الدراسة النظر إلى أن الدول التي نجحت نسبيًا في كسر هذه المعادلة الصعبة مثل فرنسا والدنمارك لم تعتمد فقط على الحوافز المالية، بل قامت ببناء بنية أساسية اجتماعية تُمكّن المرأة من الاختيار بحرية حقيقية مثل: تقديم خدمات رعاية الأطفال عالية الجودة ومنخفضة التكلفة، وتشريع إجازات أمومة وأبوة متوازنة، وتشجيع العمل بدوام جزئي مرن دون أن يُعدّ تقليلًا من قيمة الموظف.
وتشير الورقة إلى أن النموذج القائم على «المرونة المؤسسية» تجاه الأسرة والعمل هو الأكثر فعالية في الحفاظ على استقرار ديموغرافي صحي، وفي المقابل، تُحذّر الدراسة من أن الاقتصادات التي تُبقي على فجوة كبيرة بين الطموح المهني للنساء ومتطلبات الحياة الأسرية ستواجه على المدى الطويل عجزًا ديموغرافيًا متراكمًا، لن تُعالج تبعاته عبر الهجرة أو الحوافز المالية وحدها.
سياسات صديقة للأسرة
ورغم الصورة القاتمة التي ترسمها الأرقام، لا تتعامل الورقة البحثية مع التراجع السكاني على أنه مصير لا يُمكن تغييره، بل تؤكد أن الديموغرافيا لا تُكتب بالحتميات، بل بالسياسات، وعلى عكس الانطباع السائد بأن معدلات المواليد تنخفض بفعل قوى اجتماعية أو ثقافية لا يمكن ضبطها، تشير الدراسة إلى أن تدخلات سياسية ذكية ومدروسة يمكنها إعادة التوازن، وتتمحور الاستجابة المقترحة حول ثلاث ركائز رئيسية.
أولا: خفض كلفة تربية الأطفال
تُعد هذه الركيزة حجر الأساس في أي استراتيجية فعالة، فتربية الأطفال في المدن الحديثة لم تعد مسألة تقليدية، بل عبئًا ماليًا متناميًا. وتشمل الإجراءات دعم التعليم منذ المراحل الأولى، وتوفير حضانات بأسعار مدعومة أو مجانية، إلى جانب الإعانات المباشرة للأسر، التي تُقدَّم وفقًا لعدد الأطفال أو دخل الأسرة.
ثانيًا: إصلاحات سوق العمل
لتعزيز المرونة الأسرية
تشير الدراسة إلى أن واحدة من أعمق التناقضات في حياة النساء المعاصرات تكمن في الاصطدام بين إيقاع العمل ومتطلبات الأمومة، لذلك فإن المرونة المؤسسية في سوق العمل تُعد شرطًا ضروريًا، ومن الإجراءات المقترحة: تعزيز العمل عن بعد، وتوسيع نطاق الدوام الجزئي، وإعادة هيكلة إجازات الأبوة والأمومة بشكل عادل، مما يخفف الضغط عن الأمهات ويشجّع الآباء على الانخراط في الرعاية.
ثالثًا: الهجرة المنظمة
لتعويض العجز السكاني
تعترف الورقة بأن بعض المجتمعات بلغت مرحلة يصعب معها إعادة رفع معدلات الولادة على المدى القصير، لذا تُصبح الهجرة المنظمة ضرورة لا مجرد خيار. إلا أن الباحث يحذّر بوضوح من الاعتماد عليها كحل سهل، دون بناء منظومة متكاملة للدمج الثقافي والاجتماعي، فالهجرة قد تسد الفجوة السكانية على الورق، لكنها لا تحقق استدامة إذا ما اصطدمت بجدران من العزلة أو التهميش.