لا ينظر للطفولة باعتبارها مرحلة كغيرها. بل المرحلة التي تُكوّن الإنسان ذهنيا، جسديا، ونفسيا. مرحلة يتقرر فيها ما إذا كان الطفل سيؤجل أكل قطعة المارشميلو ليكافأ بأخرى، ويكبر ليصبح إنسانا قادرا على ضبط النفس، تأجيل تحقيق الرغبات، ينال الشهادات، والترقيات، ويحقق النجاح الاجتماعي. أو ما إذا كان سيأكلها مباشرة، وينتهي باختصار بلا مستقبل.

مرحلة تغور فيها الجراح النفسية لتصبح أمراضا عقلية عند البلوغ. مرحلة إذا فات فيها الطفل أن يلعب، أن يتغذى كما يجب، فإنه يفقد الفرصة في تنمية دماغه على النحو المطلوب.

لكن، ثمة أطروحات جديدة لا تكتفي بأن ترفض هذه الأفكار، لأننا نفتقر للأساس العلمي الذي يدعمها، بل تذهب إلى تسليط الضوء على خطر هذه النظرة الجوهرانية والحتمية لنمو الإنسان.

تكتب فرانسيسكا مِزينزانا وغابرييل شايدكر في «ما المشكلة في ذكاء أطفالنا؟» حول تحويل تدخلات الطفولة المبكرة لوسائل هيمنة في الجنوب العالمي. يعمل منطق هذه التدخلات كالتالي: إذا ما تم التدخل في تربية الأطفال على نحو محفز، يحسن أدمغتهم، فسيعود بنتائج إيجابية على أدائهم الأكاديمي، وتكوينهم كناضجين. إن هذه التدخلات تمثل استثمارا فعالا يعِدُ بتحقيق النمو الاقتصادي، السلام، الديمقراطية بأنجع الطرق، عبر استهداف لبنات المجتمع الأساسية، ومكون مستقبله الأهم.

وفق هذا تُصمم برامج للتطور الأمثل لدماغ الأطفال، تستفيد من المرحلة التكونية، وقدرة الدماغ على النمو بوتيرة لن تتكرر مستقبلا.

يُجادل الكاتبان أن هذا المنطق يقوم على افتراضين مترابطين. «الأول هو أن هناك خطأ جوهريا في طريقة تربية الآباء في الجنوب العالمي لأطفالهم. والثاني هو أن قضايا مثل الفقر، وانخفاض الدخل، والبطالة، وعدم الاستقرار السياسي أو الحروب يمكن إرجاعها بطريقة ما إلى عيوب فردية».

هذه السرديات تؤكد على وجود قصور. والقصور الذي كان يُرد يوما ما إلى دونية العرق، يُربط اليوم بالظروف الاقتصادية الاجتماعية فترة التنشئة. سردية تُعزي أصحاب الامتيازات عبر تأكيدها أنهم لا يتحمّلون مسؤولية التفاوت الاقتصادي والاجتماعي. وهي أداة طيعة لتبرير فشل السياسات، ودور القوى المهيمنة في المصير المؤسف للدول التي استعمرتها، وتواصل استعمارها بنعومة في عالم اليوم. غني عن الذكر كيف استغل هذا لانتزاع الأطفال من السكان الأصليين، وكيف أن وضع تنشئة الطبقة المتوسطة في الدول الغربية كمعيار، يفشل في الأخذ في الحسبان الفروق الاجتماعية والثقافية التي تنتج أساليب أخرى، لعلها أكثر ثراءً وتحفيزا. فالأب الغربي يحتاج ليعين «موعد لعب» حتى يتسنى لطفله اللعب مع أقرانه، بينما الحارة والعالم هي ملاعب الأطفال الطبيعية في مناطق أخرى.

يتم عبر سرديات النمو المبكر الاحتفاظ بعقلية الحتمية وتحويل المسؤولية من النظام وسياساته إلى طبيعة الأفراد. ولأن تفسيرات الحتمية البيولوجية للسلوك البشري -والتي تركز على دور الجينات على حساب البيئة أو التربية والأقران- لم تعد مقبولة أخلاقيا ومعرفيا اليوم، يحدث الانزياح من مرحلة التكون الجنيني إلى الطفولة المبكرة، ليرتبط حظ الإنسان، وما يستحقه في الحياة بظروف تنشئته التي لا سبيل لإلغائها.

الذي نغفل عنه غالبا أن كثيرا من الاستنتاجات حول الأمر تُبنى على دراسات لحالات استثنائية، متطرفة. أقتبس مجددا من فرانسيسكا مِزينزانا وغابرييل شايدكر، اللذين يقولان: «تستند معظم الأبحاث حول تأثير الحرمان على الدماغ في مرحلة النموّ إلى دراسات أُجريت على الأطفال الذين تم تبنّيهم من دُور الأيتام الرومانية بعد سقوط نظام تشاوشيسكو عام 1989، والذين عرفوا الحدّ الأدنى من التواصل البشري، وهو أمرٌ لن تعيشه الغالبية العظمى من أطفال العالم».

في أكثر من مناسبة أتحدث عن الحاجة الملحة لأن تُقرأ العلوم والنتاج المعرفي المتمركز حول الغرب على نحو ناقد. إن المقاييس التي توضع لتشخيص وتبرير التدخلات العلاجية والطبية قد تكون في حالات (غير كونها أداة هيمنة) ضد مصلحة الأطفال، لأسباب أقلها إقناعهم بأنهم يعانون من أمراض، ومن قصور. وأقصاها تهديد حياتهم عبر التدخلات غير الملائمة.

نوف السعيدية كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التی ت

إقرأ أيضاً:

وحدة التدخلات الطارئة تدعم مشاريع المبادرات في محافظة صنعاء بدفعة من الاسمنت والديزل

الثورة نت/..

دُشِّن اليوم في محافظة صنعاء، صرف الدفعة السابعة من مادة الإسمنت والديزل لدعم مشاريع المبادرات المجتمعية في عدد من المديريات.

وتشمل هذه الدفعة ستة آلاف 330 كيس إسمنت، و52 ألف لتر ديزل، بتمويل من وحدة التدخلات المركزية التنموية الطارئة بوزارة الإدارة المحلية والتنمية الريفية، وذلك في إطار جهود دعم المشاريع المجتمعية ذات الأولوية، التي تسهم في تحسين مستوى الخدمات، وتعزيز المشاركة المجتمعية في التنمية المحلية.

وخلال التدشين، أكد وكيل المحافظة عبدالغني داوود أهمية هذه الدفعة في تحفيز عجلة التنمية المحلية، واستكمال المشاريع قيد التنفيذ، إلى جانب المساهمة في إطلاق مبادرات جديدة تلامس احتياجات المواطنين.

من جانبه، أشاد ممثل وحدة التدخلات المركزية بالمحافظة، المهندس أسامة الشامي، بتفاعل المجتمعات المحلية مع المشاريع، مؤكداً على أهمية المتابعة المستمرة لضمان جودة التنفيذ واستدامة الأثر التنموي.

بدوره، نوّه مدير المبادرات المجتمعية بالمحافظة، المهندس محمد النزاري، بالدور الفاعل لوحدة التدخلات المركزية في تلبية متطلبات التنمية، واستنهاض الطاقات المجتمعية للمشاركة في تنفيذ المشاريع الخدمية والإنمائية.

مقالات مشابهة

  • التدخلات التنموية تدعم مشاريع المبادرات في ذمار بكميات من الاسمنت والديزل
  • عاصم الجزار: الجبهة الوطنية حزب شعبوي.. ونستهدف التأثير لا الهيمنة
  • الانتصار اليمني في البحر الأحمر.. رسالة مدوية بنهاية عصر الهيمنة الأمريكية
  • التدخلات التنموية الطارئة تدعم مشاريع المبادرات في بعدان بكمية من الاسمنت
  • إبراهيم عثمان يكتب: تبرير العدوان: لماذا حدث ولماذا فشل؟
  • من الجمهوريين والديمقراطيين.. ما سر الهجمات العنصرية على ممداني؟
  • وحدة التدخلات الطارئة تدعم مشاريع المبادرات في محافظة صنعاء بدفعة من الاسمنت والديزل
  • وحدة التدخلات توزيع 10 آلاف كيس إسمنت و50 ألف لتر ديزل لدعم المبادرات في عمران
  • روبوتات الذكاء الاصطناعي تتقدم بخجل… وغوغل يواصل الهيمنة
  • تدشين صرف 4500 كيس اسمنت لاستكمال (220) خزان حصاد مياه في القبيطة