عباس المسكري

 

في الديمقراطيات الحقيقية، لا يُقاس عدل القانون فقط بما ينص عليه؛ بل أيضًا بالسياق الذي يصدر فيه، والآثار التي يتركها على المكونات المختلفة للمجتمع، ومن هذا المنطلق، يثير التعديل الجديد لقانون الأوقاف في الهند مخاوف مشروعة وعميقة لدى المسلمين، لا لأنه ينظم إدارة الأملاك فحسب؛ بل لأنه يُدخلها في إطار وصاية قد تفرغها من معناها الأصلي وتحوّلها إلى أداة خاضعة لمركز سياسي لا يُمثّلها.

الأوقاف الإسلامية في الهند ليست مجرد ممتلكات تُدار؛ بل هي امتداد لهوية تاريخية وثقافية ودينية، نُسجت عبر قرون من التفاعل والعيش المشترك، وارتبطت بأنشطة التعليم والرعاية الاجتماعية والدينية، وهذه المؤسسات كانت دائمًا تعبيرًا عن قدرة المجتمع المسلم على تنظيم شؤونه وممارسة مسؤولياته الخيرية والدينية دون الحاجة إلى تدخل الدولة.

لذلك، فإنَّ نقل الإشراف على هذه الممتلكات من داخل المجتمع إلى جهة حكومية لا تعبّر عن طبيعته الثقافية والدينية، يُنظر إليه بحقٍ كخطوة تفتقر إلى الحساسية السياسية وتخالف روح التعددية التي يُفترض أن تقوم عليها الهند الحديثة، وتبرير الحكومة بأنَّ التعديل يستهدف تعزيز الشفافية ليس كافيًا؛ بل وربما يفتقر إلى المصداقية، عندما نضعه في سياق سياسي أوسع يتّسم بتقليص متزايد لمساحات التعبير الذاتي للمسلمين، وتزايد واضح في مركزية السُلطة وغياب التمثيل المُتوازِن للأقليات في اتخاذ القرار.

لقد زاد في تعميق المخاوف المتعلقة بتعديل قانون الأوقاف في الهند، السياق السياسي الذي تتخذه الحكومة الحالية بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، والتي تُعد في نظر كثيرين حكومة يمينية متشددة في مواقفها تجاه الأقليات، خاصة المسلمين، فعلى الرغم من أن التعديل جاء تحت شعار تعزيز الشفافية، فإنَّ اشتراط تعيين مواطن من الطائفة الهندوسية على رأس إدارة أوقاف المُسلمين يُنظر إليه كإجراء يستهدف تقويض الهوية الثقافية والدينية للمسلمين، وهذا التعيين يُعد بمثابة تجاوز فاضح لحقوق المسلمين في إدارة شؤونهم الدينية والاجتماعية، مما يعزز الشكوك حول نوايا الحكومة في تحويل الأوقاف الإسلامية إلى أداة لفرض السيطرة الثقافية والدينية، بدلًا من تعزيز التعددية واحترام الحقوق المتساوية لجميع الطوائف.

الشفافية لا تُفرض من أعلى؛ بل تُبنى من داخل المؤسسات، بالشراكة، وبتمكين المجتمعات من إصلاح ذاتها، لا بمصادرة حقها في إدارة شؤونها، وما يزيد من عمق الإشكال أن هذا القانون أُقر رغم الاعتراضات السياسية الواسعة، ورغم التحفظات التي عبّر عنها ممثلو الطائفة المُسلمة وغيرهم من الأطياف السياسية، وهذا التمرير السريع يعكس خللًا في آلية التشريع حين يتعلق الأمر بحقوق الأقليات، وكأنَّ أصواتهم ليست معتبرة بما يكفي للتأثير في القرار النهائي، ما يعيد إنتاج شعور الإقصاء والتهميش.

إن أي صمت مستقبلي من قبل المنظمات الإسلامية والحقوقية الدولية تجاه ما تسعى إليه حكومة مودي اليمينية، لن يكون مبررًا؛ بل قد يُفهم كتواطؤ يشجّع على المضي في مزيد من الانتهاكات. ما يتم الترويج له في الهند اليوم ليس مجرد تعديل قانوني؛ بل توجه سلطوي خطير يمكن أن يتحوّل إلى نموذج عالمي في قمع الأقليات المسلمة تحت غطاء "الإصلاح" و"الشفافية". وغياب ردّ فعل دولي حازم، ربما يُشكّل سابقة خطيرة قد تُغري حكومات أخرى بانتهاج المسار نفسه، مما يُهدد مستقبل الحقوق الدينية والثقافية للمسلمين في عدد من الدول، والسكوت في هذه المرحلة لن يُقرأ إلا كضعف، أو رضًا ضمنيًا عن نهج قمعي يتسع نطاقه.

إنَّ الدفاع عن استقلالية الأوقاف ليس قضية فقهية ولا إدارية فقط؛ بل هو دفاع عن الحق في التنظيم الذاتي، عن التعددية الحقيقية، عن توازن العلاقة بين الدولة ومواطنيها من خلفيات مختلفة. فحين تفرض الأغلبية رؤيتها على مؤسسات الأقلية، دون حوار حقيقي، فإنَّ ذلك لا يحقق العدالة؛ بل يرسّخ الهيمنة، ويغذي الانقسام.

الهند اليوم أمام لحظة فارقة، ليس فقط في مسار تشريعي؛ بل في اختبار جدي لمدى التزامها بالمبادئ التي قامت عليها بعد الاستقلال، فإمَّا أن تُثبت أنها قادرة على احتضان تنوعها بمسؤولية وإنصاف، أو تنزلق إلى نموذج تُهيمن فيه رؤية واحدة على حساب البقية، وتُدار فيه الدولة بمنطق الوصاية لا الشراكة.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

كلمات دلالية: فی الهند

إقرأ أيضاً:

الجامع الأزهر: الحج جسر روحي يجمع المسلمين ويعمق وحدة الأمة وتماسكها

عقد الجامع الأزهر أمس الاثنين، اللقاء الأسبوعي للملتقى الفقهي (رؤية معاصرة) تحت عنوان "آداب وواجبات الحج في الفقه الإسلامي"، واستضاف الملتقى: الدكتور حسن الصغير، الأستاذ بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، والمشرف العام على لجان الفتوى بالأزهر الشريف، والأمين المساعد للبحوث بمجمع البحوث الإسلامية، ود. محمد محمد عبد الستار الجبالي، أستاذ الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، وعضو مجمع البحوث الإسلامية، وأدار الحوار الدكتور مصطفى شيشي، مدير إدارة الرواق بالجامع الأزهر. 

وافتتح الدكتور حسن الصغير، الأستاذ بكلية الشريعة والقانون، والمشرف العام على لجان الفتوى بالأزهر، حديثه بتوضيح آداب الحج التي تعد سننا مستحبة للحجيج، وواجبات الحج التي لا يصح الحج إلا بها، كما تطرق فضيلته إلى إمكانية إسقاط هذه الآداب والواجبات على غير الحجاج أيضا، فكما أن أول ما نعلمه للحاج هو التوبة النصوح بشروطها المعروفة، فإن هذا الواجب ينطبق على كل مسلم في مكانه، وتذكير الحاج بها ينبع من قدسية رحلة الحج والحرص على ألا يضيع الحاج أجرها، وأن يستفيد منها بالابتعاد عن كل ما ينقص من ثوابه،  كذلك فإن هذه الأمور واجبة علينا جميعًا، و كما نأمر الحاج بـصلة الرحم التي قد يكون قطعها، وهو كذلك أمر واجب على الجميع، وما يدل على هذا قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾، وكما نوجه الحاج إلى تحري طيب النفقة، فإن هذا المبدأ يعد واجبًا على المسلم في كل زمان ومكان، وفي أي عمل يقوم به ﴿ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾، وكما يحظر على الحج اللغط والرفث ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، كذلك مأمور بها كل إنسان سواء كان في الحج أو في أي مكان.

وأضاف المشرف على لجان الفتوى بالأزهر، إنه على الإنسان أن يتحلى بالأدب في كل وقت، فالأيام جميعها ملك لله سبحانه وتعالى، ولكن الأمر يكتسب أهمية خاصة في الأيام المباركة، حيث يضاعف الله فيها الأجر والثواب، وبالتالي ينبغي علينا مضاعفة اجتهادنا في الابتعاد عن المعاصي في هذه الأيام المباركة، وفي سياق هذه المشاركة الروحية مع الحجيج، ينبغي علينا أيضا أن نتعمق في فهم أمور ديننا ومناسك الحج، فهذا يعد مشاركة للحجاج في آدابهم، فالفقه الإسلامي، بجانب كونه مجموعة من القواعد المنظمة والضابطة لعباداتنا، يحمل في طياته جانبًا عميقا من الحكمة والمقاصد الشرعية التي تستدعي منا تأملاً بالغ الأهمية، فالحاج مطالب بأداء النسك على الوجه الصحيح، وغير الحاج مطالب بتطبيق الحكمة والغاية من هذه النسك لأن شعائر الله جاءت من أجل صلاح البشرية دون التقيد بزمان ومكان.  

وأوضح المشرف على لجان الفتوى بالأزهر، أن الله سبحانه وتعالى قد خص أيام الحج بفضل عظيم للمسلمين، مستشهدا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام"، ويقصد بها الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة، وهذا الفضل لا يقتصر على الحجاج فحسب، بل يشمل غير الحجاج أيضا، مما يؤكد أن شعائر الله تحمل في طياتها دلائل خير وبركة لجميع المسلمين، وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يمنح جميع المسلمين فرصة المشاركة في الأجر والثواب، وليس لمن حج فقط.

أحكام المرأة في الحج .. الأزهر للفتوى يوضحمناسك الحج خطوة بخطوة.. من يوم التروية إلى طواف الوداع بطريقة سهلة وميسرةحكم الحج من مال الزوجة الخاص.. الإفتاء توضحأفضل الأذكار التي أوصانا بها النبي في العشر الأوائل من ذي الحجة.. رددها الآن

من جانبه ، أشار الدكتور محمد عبد الستار الجبالي، عضو مجمع البحوث الإسلامية، إلى حكمة الله تعالى في جعل مواسم للطاعات؛ لكي نتمكن من خلالها تدارك ما فاتنا من خيرات، حيث يضاعف الله فيها الأجر على الطاعات إكراما لعباده "إن لله في أيام الدهر لنفحات، فتعرضوا لها لعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبداً"، ومن هذه المواسم المباركة تلك الأيام الخاصة بشعائر الحج، فكما منح الله الحجيج شرف هذه العبادة وفضلها العظيم، شمل فضله جميع خلقه، فجعل أيام الحج أيام خير وبركة لجميع عباده.

وبين أن الحج يقوي الجانب الإيماني في نفس المؤمن، الذي يعد دعامة أساسية في بناء الشخصية المسلمة، لذا، من لم يتمكن من أداء فريضة الحج، فلا يزال بإمكانه مشاركة الحجاج الجانب الروحي من خلال اغتنام فضل هذه الأيام المباركة. 

وبين عضو مجمع البحوث الإسلامية أن شعائر الحج تحمل معنى عظيمًا وحكمة بالغة، تكمن في أداء مناسك الحج بهذا الجمع من  الناس من كل حدب وصوب، هذا التجمع الذي يعد دلالة عظمية على وحدة الأمة وتماسكها، وأنها مجتمعة على قلب رجل واحد في أداء منسك واحد لله رب العالمين، مستدلا على هذا المعنى السامي، الذي تحتاجه  الإمة الإسلامية اليوم أكثر من أي وقت مضى، بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، أبلغت؟" قالوا: بلغ رسول الله. ثم قال: "أي يوم هذا؟" قالوا: يوم حرام. ثم قال: "أي شهر هذا؟" قالوا: شهر حرام. ثم قال: "أي بلد هذا؟" قالوا: بلد حرام. قال: "فإن الله قد حرّم بينكم دماءكم وأموالكم" قال: ولا أدري قال: "أو أعراضكم"، أم لا "كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. أبلغت؟" قالوا: بلغ رسول الله. قال: "ليبلغ الشاهد الغائب"، كما أن هذا المعنى لم يكن خاص بالحجيج في حجة الوداع وإنما هو نداء نبوي من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الأمة على امتداد مكانها وعلى اختلاف زمانها.

يُذكر أن الملتقى "الفقهي يُعقد الاثنين من كل أسبوع في رحاب الجامع الأزهر الشريف، تحت رعاية فضيلة الإمام الأكبر وبتوجيهات من الدكتور محمد الضويني وكيل الأزهر الشريف، ويهدف الملتقى الفقهي إلى مناقشة المسائل الفقهية المعاصرة التي تواجه المجتمعات الإسلامية، والعمل على إيجاد حلول لها وفقا للشريعة.

طباعة شارك الجامع الأزهر الملتقى الفقهي ملتقى الجامع الأزهر

مقالات مشابهة

  • وفد الكنيسة الكاثوليكية بأسوان يهنئ القيادات الرسمية والدينية بالمحافظة بعيد الأضحى
  • باستثناء إسرائيل صدى طوفان الأقصى يتردد في ثورة بنغلاديش
  • إدارة أوقاف النزهة: أطفال مسجد مصر يشاركون مرضى 57357 محاكاة مناسك الحج
  • الجامع الأزهر: الحج جسر روحي يجمع المسلمين ويعمق وحدة الأمة وتماسكها
  • ما هي خيارات جماعة الإخوان المسلمين بعد قرارات حظرها؟
  • وها نحن في أعظم مواسم المسلمين حج بيت الله
  • وزارة الأوقاف تطالب بتعزيز السياسات والبرامج التي تدعم الأسر والوالدين
  • «رؤية القيادة السياسية في إدارة وحماية مواقع التراث العالمي» ندوة بمكتبة الإسكندرية
  • مصرع 25 شخصا جراء انهيارات أرضية شمال شرقي الهند
  • برلمانية: إنشاء 22 مستوطنة جديدة بالضفة انتهاك صارخ لحقوق الإنسان