1 ما يسعد المرء أن يرى أنه، وسط حرائق الحرب والظلام، هناك من يفكّر بعيدًا ويبدأ العمل؛ مما يُشي بأننا قادرون على البناء، وقادرون على الفعل الإيجابي في أحلك الظروف. إن الذي جرى في ميادين الحرب وخارجها معجزة؛ من جيش محاصر وشعب مشرّد ننهض وننتصر، من دولة لا تملك في خزائنها مليمًا ساعة اندلاع الحرب إلى بلد استطاع، في عامين، أن يوفّر مليارات الدولارات لتمويل الصرف المهول على الحرب والسلاح من موارده الخاصة.

إن الذي جرى من معالجات في قطاع الاتصالات، بعد أن تدمرت غالب بنيته وتوقفت أبراجه، شيء يثير العجب ، كما ان ما تحقق في الميدان العسكري، والقطاع الاقتصادي، وبنك السودان، والاتصالات، معجزات يحق لنا أن نفتخر بها. لقد استطاع الذين أوكل إليهم إدارة هذه القطاعات تثبيت أركان الدولة التي كانت في مهبّ الريح.
2
ما جرى ويجري حاليًا من حوارات حول قضية الشمول المالي، التي أصبحت الدولة الآن منفتحة عليها مستوعبة لضرورتها مما يشي بأننا على اعتاب مرحلة جديدة من السير الحثيث لتحقيق الشمول المالي والذي كان يمكن أن يتحقق منذ زمان بعيد، لولا الصراعات القميئة في قطاع الاتصالات التي امتدت لسنوات. كان يمكن أن نكون في وضع متقدم اليوم، بحكم وضعنا الممتاز في قطاع الاتصالات منذ بداية هذا القرن، ولكن الله غالب.
3
ما هو الشمول المالي؟
الشمول المالي هو العملية التي من خلالها يتم تمكين جميع فئات المجتمع، خاصة الفئات الضعيفة والمهمشة، من الوصول إلى الخدمات المالية الرسمية (مثل الحسابات البنكية، التمويل، التأمين، الادخار، والدفع الإلكتروني) بأسعار مناسبة وبشكل آمن.
سنعود لاحقًا لنرى الوسائل التي يتحقق بها الشمول المالي وخاصة من ناحية الاستخدام الواسع والذكي للتكنولوجيا الرقمية والنظر للتجارب المطبقة في الدول الإفريقية والعربية، ثم ندلف لتحديد الأهداف التي يمكن أن يحققها الشمول المالي في الاقتصاد.
ماذا جرى بشأن النقاش العام في قضية الشمول المالي؟
4
خلال منتديين مهمين، أحدهما في القاهرة والآخر في بورتسودان، تمّت إثارة موضوع الشمول المالي، الذي يُعد الآن ضرورة قصوى لحركة الأموال والاقتصاد عمومًا.
المنتديان كانا بدعوة من مركز شموس ميديا، وهو مركز ترأسه الأستاذة سمية سيد، الكاتبة الاقتصادية المعروفة، ويحق القول إن مثل هذه المبادرات ليست غريبة على سمية سيد؛ بل هي بارعة في ابتدار أفكارها وتنظيمها والحشد لها.
سبق لها أن نفذت عشرات الندوات الاقتصادية الناجحة بالخرطوم، وهي تفعل ذلك على خلفية اهتمامها بالاقتصاد، ومقدراتها على التقاط القضايا المهمة في الساحة الاقتصادية.
المهم أن شموس وضعت القضية على طاولة النقاش العام، وبدأ حراك متسارع في هذا الاتجاه ولا يزال.
في الندوة الأولى (21/1/2025)، أكد الدكتور خالد التيجاني أن السودان كان سبّاقًا في مجال التقنية الرقمية في إفريقيا والوطن العربي، إلا أن عوائق واضحة أوقفت مسيرته وعطّلته عن المواكبة، وعزا د. خالد الأمر إلى رفض بعض المؤسسات لهذا التحول، وطالب بتشريعات حاسمة وواضحة من الدولة وبنك السودان، باعتبارها الحل لهذه المعضلة.
في ذات الندوة، طالبت الدكتورة عسجد يحيى الكاظم بتعزيز الشمول المالي، الذي اعتبرته مفتاح التحول الرقمي لتوسيع الخدمات البنكية في السودان، كما دعت إلى توحيد منصة الدفع الإلكتروني لتعزيز الشمول المالي، واستعرضت تجارب ناجحة في عدد من الدول الإفريقية والآسيوية.
5
في الندوة الثانية، التي عُقدت مساء الخميس 6 مارس 2025 في بورتسودان، عاد د. خالد التيجاني ود. عسجد الكاظم لطرح ورقتين أكثر شمولًا وعمقًا حول موضوع الشمول المالي وضرورته وأهدافه.
وقد أدهشتني د. عسجد بنظرتها المتقدمة والعلمية والعملية في تناول موضوع الشمول المالي خلال الورقة التي قدمتها في المنتدى، (توحيد منصة الدفع الإلكتروني/ خطوة نحو التحول الرقمي والشمول المالي).
الورقتان تستحقان أن تتخذهما الدولة خارطة طريق لتنفيذ الشمول المالي من خلال التكنولوجيا الرقمية.

ما سرّني في الندوة الثانية هو حضور كل أركان الدولة، وخاصة في جانبها الاقتصادي، وهو نجاح يُحسب لمركز شموس، كما أنه مؤشر على القبول الرسمي بالحاجة الملحة لاستخدام التكنولوجيا الرقمية في تطبيق الشمول المالي، الذي أصبح ضرورة وليس ترفًا؛ ضرورة فرضها الواقع الاقتصادي والتطور التكنولوجي.

في المقال القادم، سأعرض ما جاء في الورقتين، ثم أذهب لإدارة نقاش حول الأفكار التي تطرحانها، والسبيل لتطبيقها.
نواصل.

عادل الباز

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الشمول المالی

إقرأ أيضاً:

منظمة العنف، والاستبداد، والانتقام بالحرب على المدنيين والثورة

منظمة العنف، والاستبداد، والانتقام بالحرب على المدنيين والثورة

وجدي كامل

تمثل الحرب الحالية في السودان ذروة نزعة التضليل التاريخي والإعلامي والثقافي. بشاعتها على الأرض لا تخفى، ويومياتها الدامية شاهدة، بينما يروج إعلام الحكومة – حكومة “الأمر الواقع” – لرواية مضادة: عن حرب في نهايتها، وانتصارات وشيكة، وزيارات ميدانية  لرئيس وزراء بورتسودان، الذي شاهدناه يتلقى التهاني ويتبادل التحايا مع المواطنين، وكأنه يحتفل بمناسبة سعيدة خاصة لا تهم احدا سواه، ولا يعرف الناس عنها شيئًا.

وراء هذا المشهد، تتكشف الحقيقة. فالحرب تُدار عسكريًا ومدنيًا بواسطة تنظيم الإخوان المسلمين. هذا التنظيم الذي بدد أموال الناس، ورهن موارد البلاد، وباع أملاكها، وكاد أن يقتل ثلث سكانها فقط كي يحكم، ولا يتعرض لاي مساءلة قانونية عن جرائمه.

اللجوء إلى الحرب ليس جديدًا على هذا التنظيم. فمنذ نشأته، ظل في مواجهة دائمة مع التيارات الثقافية والسياسية السائدة في السودان، رافضًا الحوار، ومفضّلًا تصفية الخصوم بالعنف. من المطالبات بفرض الدستور الإسلامي، إلى المواجهات الطلابية، إلى تمرير قوانين سبتمبر 1983، ثم انقلاب 30 يونيو 1989… العنف ظل حلاً استراتيجيًا.

لقد بدأت تلك المرحلة التراجيدية بحرب الجنوب، التي وُظِّفت لقمع المطالب السياسية والثقافية والاقتصادية، باستخدام شعارات دينية زائفة، وتضليل بالدين لخدمة أهداف سلطوية.

ثم جاءت حرب دارفور عام 2003، لتكشف الوجه الحقيقي مجددًا بتفكيك النسيج الاجتماعي، وإعادة تشكيل الخريطة السكانية، ونهب موارد الذهب واليورانيوم والنحاس. انها حرب لإعادة إنتاج السلطة على حساب المجتمعات المحلية.

أما الحرب الراهنة، فهي حرب انتقام مباشر من ثورة ديسمبر 2018. عندما أسقط الشعب رأس النظام، وزجّ بعدد من رموزه في السجون، وبدأت لجنة إزالة التمكين بتفكيك المنظومة الاقتصادية الفاسدة… هنا بدأ الرد.

ورغم أن الحرب تبدو على السطح صراعًا بين الجيش والدعم السريع، إلا أنها أعمق من ذلك. لقد صُوِّبت نيرانها نحو المدنيين وتحالفاتهم السياسية. هدفها إفشال الانتقال الديمقراطي، من خلال تحالفات ضمّت اللجنة الأمنية، والحركات المسلحة، وقوى سياسية متربصة بالثورة، تمارس الاتجار في سوق السياسة.

نجحت اللجنة الأمنية، في البداية، في إخفاء أجندتها: إعادة إنتاج النظام القديم. ثم جاءت لحظة الانتقام الكبرى عبر مجزرة الاعتصام، ثم تفجير الحرب من قلب العاصمة، في الأحياء السكنية والمناطق الحيوية. النتيجة: قتل، تشريد، نزوح، ونهب.

وبينما تغيب الإحصاءات الدقيقة، فإن مشاركة القوى الأمنية والعسكرية تمثل امتدادًا مكشوفًا للنظام السابق، الذي لم يُخفِ تهديده باستخدام القوة حتى قبل اندلاع الحرب.

ولتعميق مشروع الانتقام، جرى توظيف قسط من الأموال المنهوبة لبناء سردية إعلامية خبيثة، تقسّم الرأي العام، وتفكك القوى المدنية. تم استخدام أدوات استخباراتية وإعلامية متقدمة لترويج رواية “حرب الكرامة” ضد الدعم السريع، رغم أن الأخير صنيعة النظام نفسه، استخدمه لقمع الشعب من قبل.

لقد أضاعت قوى الثورة فرصة ثمينة. غابت الإدارة الموحدة، وضعف التنسيق، ولم تستطع أن تقضي على هذه المنظومة الأخطر على استقرار السودان. منظومة هي التهديد الأكبر أمام قيام دولة مدنية ديمقراطية حديثة.

اليوم، بعد اتساع الخراب، تتعالى الأصوات المطالبة بوقف الحرب. ولكن وقف الحرب لا يكفي. لا بد من إعادة تعريفها: هذه ليست مجرد حرب بين جيشين، بل حرب انتقام من الحاضر، ومحاولة لإلغاء التاريخ، وتشويه المستقبل. وقف الحرب يجب أن يقترن بتجريم قانوني لهذا التنظيم، حتى لا يُلدغ السودان مرة أخرى من نفس الجُحر.

إن أي توافق سياسي في سودان المستقبل يجب أن يُبنى على رفض قاطع ليس فقط للتنظيم الاخواني فقط، بل لثقافة اللعب بالدين كورقة سياسية. السياسة يجب أن تقوم على المصالح الوطنية، التنمية، والعقلانية، لا على الاستغلال الديني والتضليل الأخلاقي.

ولتكون الأفكار مشروعًا قابلًا للتطبيق في ظروف سلمية مدنية، علينا:

تفكيك الشبكات الاقتصادية السرية:

لا يكفي إسقاط النظام سياسيًا؛ لا بد من تفكيك البنى الاقتصادية التي أنشأها: من الشركات الواجهة، والمنظمات الخيرية الزائفة، إلى العلاقات البنكية المشبوهة. هذا يتطلب أجهزة رقابة قوية، وقضاء مستقل، ومخابرات مالية متقدمة.

استرداد الأموال المنهوبة:

عبر لجان قانونية، واتفاقيات دولية (مثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد)، وملاحقة الأموال المهربة والمجمّدة بالخارج، بمساعدة دعم قانوني دولي فعّال.

إعادة هيكلة الاقتصاد السوداني:

عبر تقليص سيطرة التنظيمات السياسية على القطاعات الإنتاجية، وتقوية القطاع العام، ودعم الشركات الصغيرة والمبادرات المحلية المستقلة، مع شفافية مالية تجاه اقتصاديات الأحزاب.

إصلاح المؤسسات المالية:

مراجعة دور البنوك في غسل الأموال والتمويل السياسي، وتطبيق حوكمة صارمة وفقًا لمبادئ الشفافية الدولية (مثل FATF).

تحصين المستقبل:

بوضع قوانين تمنع احتكار الدين أو الاقتصاد من قبل أي جهة سياسية. وهذا يتطلب تفعيل قوانين تضارب المصالح، وتوسيع دور الإعلام الاستقصائي والمجتمع المدني في كشف الفساد.

سياسيًا، لا يمكن الحديث عن دولة مدنية ديمقراطية دون تفكيك أدوات الهيمنة الاقتصادية والتنظيمية لأي تيار يستخدم الدين كسلاح.

وأخيرًا، يتبدى الخطر الأكبر في النسيان، سواء أكان نسيانًا ذاتيًا أو بفعل التضليل الإعلامي. لا بد من نشر الوعي، وتوثيق جرائم الفساد المالي، وكشف كيف ارتبط المال بالاستبداد.

ان الشعب الذي يعرف كيف يُموَّل الاستبداد، يعرف كيف يُقاومه ويطيح بأركانه، ويبطل مفعول ثقافته.

الوسومالإخوان المسلمين الحرب السودان الشبكات الاقتصادية السرية المؤسسات المالية ثورة ديسمبر 2018 حرب دارفور حكومة الأمر الواقع رئيس وزراء بورتسودان هيكلة الاقتصاد السوداني وجدي كامل

مقالات مشابهة

  • منظمة العنف، والاستبداد، والانتقام بالحرب على المدنيين والثورة
  • هكذا سرقت الحرب طبل الغناء الجماعي في السودان
  • بركات الذي فشل كرئيس لجهة بني ملال إحدى أفقر الجهات يتحدث عن التنمية
  • رأي.. عمر حرقوص يكتب: حرب إيران وإسرائيل.. تجسس ورقص فوق سطوح بيروت
  • حفتر .. التورط في حرب السودان
  • يوسف عبد المنان يكتب: عبدالله بلال وحده في الصفوف الأمامية
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: حفتر وحسابات السودان الجديدة
  • لماذا لم تٌقحم إيران حزب الله في الحرب مع إسرائيل؟
  • محمد أبوزيد كروم يكتب: حيا الله السلاح والكفاح، والنصر الذي لاح
  • الدكتور وفيق نصير يكتب: الحرب بين إسرائيل وإيران وتداعياتها على البيئة العالمية