عندما تُقرأ الحربُ لا من فُوَّهةِ البندقيّة، بل من تعبيرات الوجه، ووَضْعِيّات الجسد، ونظرات الازدراء والتحدّي، فإنّنا نكون في صُلبِ معركةٍ أعمقَ للحرب الثقافيّة الرمزيّة، التي تُمهِّدُ لما بعدها من عنفٍ ودمار.

فالتحليلُ للحربِ الدائرةِ بأنّها حربٌ تستمدُّ تغذيتها من تاريخٍ مهولٍ من العنصريّةِ والكراهيّةِ وشَتّى علاماتِ الانقسامِ الاجتماعيّ والثقافيّ، قد يستغرق وقتًا وعملًا معلوماتيًّا مُجهِدًا، قد يحتاج إلى عشرات المؤلّفات، كما هي مبذولةٌ لمن أراد التثبّت من الوقائع والإقناع بها.

ولكن، صورة فوتوغرافيّة واحدة، في أقل من ثانية، مُقْتطَعة من تصوير فيديو جرى بكاميرا الهاتف أو بكاميرا احترافيّة، في هذا التوقيت من الزمان، تُصبح قادرةً على إيصال المعنى والتأكيد على الحُجّة.

هكذا، انتشر في الأيام الماضية مقطعٌ لفيديو يُظهِرُ شخصًا بدينًا، ضخمَ الجثة، شماليَّ أو وَسَطيَّ الملامح، في لحظة تصوير وهو يتهجّم على صبيّ، تقول هيئتُه إنّه قادمٌ من إحدى مناطق الغرب، أو جبال النوبة، أو جنوب النيل الأزرق، فأبطَلَ من تدفُّقِ الرجل، الذي كان – وفيما ثبت لاحقًا – يُسجّل مقطعًا عن عودة الحياة لطبيعتها في منطقةٍ من مناطق الجزيرة، لصالح قناة الجزيرة مباشر.

تحرُّشُ البدين بالصبيّ في وسط سوق الخضار لم يكن لخطأٍ مقصودٍ أو إساءةٍ مُفتعلةٍ قام بها الصبي، عندما قاطع التصويرَ بمروره ما بين البدين والكاميرا، بل لسوء تقدير، أو عدم معرفة أصلًا بما يجري من تصوير، وما يتطلّبه من سلوكٍ حركيّ ما بين المتحدّث والكاميرا.

لاحقًا، ذُكرت المعلومات أنّه "الشيخ" عبد الباسط الشُّكري، والذي وصفه المحلّلُ المعلوماتيّ والصحفيّ الاستقصائيّ *بُشرى علي* بأنّ آخر وظيفةٍ تسنَّمها كانت مشرفًا على خلوة مجمّع إبراهيم مالك، وما عُرِف عنه حينها باهتمامه بركوب عربته الـ"برادو" الجديدة أكثر من اهتمامه بوظيفة الإشراف على الخلوة. وأنّ المصوّر هو شقيقه المراسل، الذي -فيما يبدو- أراد أن يخصّ شقيقه بالإكراميّة الماليّة التي تُقدّمها القناة في مثل هذه الإفادات.

أظهر الفيديو المُتداوَل عبد الباسط متحرّشًا بالصبي، بينما أبدى الأخيرُ ردًّا دفاعيًّا استثنائيًّا عن كرامته بعدم الانصياع لأوامر عبد الباسط بالابتعاد من دائرة التصوير، الأمر الذي سجّل إعجابًا شعبيًّا منقطع النظير، منحازًا للحظة دفاع الصبي عن نفسه.

الصورة، بالتفاصيل التي أوردتها لغةُ الكلام والجسد، عبّرت عن السلوك العنيف، غير الإنسانيّ، للشيخ عبد الباسط، بحيث انطوت على توبيخٍ لم يكن يجد تبريرًا إلّا في سياقٍ يُذكّرُ بتعامل التّجار التاريخيّين في الرقّ، أو سادة الحملات الاسترقاقيّة باحتقارهم لرعاياهم من المُستَرَقّين. غير أنّ ردّة فعل الصبيّ المُستنكرة ألغت كلّ "ملكيّة" مزعومة لعبد الباسط في الأمر والنهي.

لقد كشفت الصورةُ بجلاءٍ عن انتفاض كرامة "المُستَعبَد المفترَض"، التي رفضت الانصياع، وتمرّدت على التوبيخ، فواجهت النظرة الفوقيّة بندّيّةٍ مذهلة، ما جعل المشهد ليس مجرّد شجار، بل احتكاك هُويّتين: هُويّة "السّيّد"، المرتكزة على الجسد المترهّل، والملبس التقليدي، والميكروفون المثبَّت بعناية، والذي يحمل صورة "الشرعيّة" الإعلاميّة والدينيّة؛ وهويّة الصبيّ، الباحث عن ردّ اعتبار لكرامته التي جُرِحت.

القراءة السيمائيّة البصريّة لزاوية التصوير تُظهر عبد الباسط وهو يطأ بظلّه الجسديّ والنفسيّ على مساحة الطفل، فتعكس نظامًا تراتبيًّا مُكرّسًا، كأنّه يقول: "أنا الأعلى، أنت الأدنى". فلغةُ الجسد، التي تعتمد على القُرب لدرجة الالتحام المُهدِّد بالضرب واستعمال العنف، تصنع خطابًا بصريًّا مُنتِجًا للمعنى، من صراع الاحتقار والمقاومة في دلالته العامّة.

أمّا زاوية التصوير، أو الصورة فلسفيًّا، فتقول أكثر مما يُقال. ففي نظريّة ميشيل فوكو عن السلطة، يُفهم الجسد كمساحةٍ تُمارَس عليها أنظمة الضبط والانضباط. وفي هذه الصورة، يحاول "الشيخ" أن يضبطَ الجسد الخارج عن الطاعة – جسد الصبي – لكن الردّ المقاوم يفضح آليّات السلطة كلّها، بالتحدّي، إلى عكسه: شدّ الصبي لجسده، وإرساله نظرةَ تحدٍّ استثنائيّة للشُّكري.

أمّا في سيمياء رولان بارت، فهذه الصورة تُمثّل لحظةَ انفجارٍ للمعنى، الذي أعاد تعريفها كونها ليست مجرّد صورة، بل خطابًا اجتماعيًّا كاملًا، مشحونًا بالعنصريّة، والتاريخ، والمقاومة، مما يجعلها ليست فقط توثيقًا للحظةٍ عابرة، بل شهادةً بصريّة تعبّر عن أنّ الانقسام الاجتماعيّ في السودان ليس مزروعًا فقط في المظالم السياسيّة والاقتصاديّة، بل في النظرات، والأجساد، وردود الأفعال المتباينة في لحظات الصدام.

المفارقة الساخرة، أنّ هذا التهجُّم وقع أثناء تصوير مشهدٍ إعلاميّ يُفترَض أنّه "يطمئن" الناس على عودة الحياة إلى طبيعتها، بينما "اللاطبيعيّ" تجلّى في عنف الشُّكري ذاته.

وهكذا، نخلصُ من الفيديو، أو الصورة بوصفها وثيقةً وشهادة، إلى أنّ الحرب لم تبدأ مع البنادق، بل بدأت حين تمّ ترسيخ طبقيّاتٍ وإثنيّاتٍ تُهين الإنسان وتُجزِّئه حسب لون بشرته، أو لهجته، أو لباسه. وتُكرِّس لكلّ ذلك حربًا بداخلها قانونٌ غير مكتوب، يحمل اسم: *الوجوه الغريبة*، في أرجاءٍ ومناطقَ بعينها، من بلدٍ من المفترض أن يكون واحدًا، موحّدًا.

wagdik@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: عبد الباسط

إقرأ أيضاً:

صاحب فندق ببلغاريا: إلى الجحيم أيها الإسرائيليون تبا لكم!

"تبا لكم أيها الإسرائيليون الحقيرون كم وددت أن تحترقوا في الجحيم.. لا تحتاجون لمناديل المراحيض، فأنتم أقذر الحيوانات على وجه الأرض".

هذه الرسالة رد بها صاحب فندق على إسرائيلي وزوجته كانا يقيمان في فندقه وطلبا في آخر يوم لهم بالفندق أن يمدهما ببعض مناديل المراحيض.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2غدعون ليفي: مصدومون من ضرب سائق عربي فلم لا تصدمكم الإبادة بغزة؟list 2 of 2عامل إغاثة إيطالي: فقدت الثقة في الإنسانية بسبب أوضاع غزةend of list

الرسالة أُرسلت إلى إيليت مايكل غايغو وزوجها عندما طلبا مناديل المراحيض لغرفتهما الفندقية في صوفيا، بلغاريا، الأسبوع الماضي. وتحدثت مايكل غايغو لصحيفة جيروزالم بوست صباح الجمعة عن تلك "التجربة المروعة".

وتقول: "نحن نحب بلغاريا كثيرا. لا نحب الفنادق الضخمة المزدحمة، بل نبحث دائما عن فندق صغير".

محادثة بين ضيف إسرائيلي وصاحب فندق بلغاري (سكرين شوت من هاتف مايكل جاييغو)

وجد الزوجان الإسرائيليان فندق أغونتشيف العائلي على موقع "بوكينغ.كوم" (booking.com) ووصلا إليه الاثنين الماضي. وطوال معظم فترة إقامتهما، لم يقابلا أحدا في مكتب الاستقبال باستثناء رجل واحد في اليوم الأول أعطاهما رمز الفندق والغرفة.

"لم يكن هناك ماء ساخن، ولم يكن الفطور جيدا، لكننا لم نشتكِ"، لكن صباح الخميس، أي قبل يوم من موعد مغادرتهما، نفد ورق المرحاض.

وعندما ذهبنا لتناول الإفطار، قالوا للعمال إنه لا يوجد مناديل في مرحاضهم، ووعد الموجودون بمعالجة الأمر، ثم غادر الزوجان وظلا خارج غرفتهما طوال اليوم، وعندما عادا في المساء، لم يكن هناك مناديل بالمرحاض، ولم يكن هناك أحد في الاستقبال، لكن كان ثمة رقم هاتف، فاتصلا به مرارا وتكرارا وبعد أن يئسا من الرد أرسل الزوج رسالة واتساب إلى صاحب ذلك الرقم.

إعلان

وفي اليوم التالي، وبعد أن غادر الزوجان الفندق، وبعد أن عادا إلى إسرائيل، اكتشف زوج مايكل غايغو ردّ صاحب الرقم، فكانت الرسالة المذكورة آنفا.

وتقول إيليت لصحيفة جيروزاليم بوست: "غمرتنا الصدمة.. لقد كنا نحاول أن نبقى بعيدين عن الأضواء. وكان زوجي يرتدي قبعة يهودية، لكننا كنا نتحدث الإنجليزية".

ومنذ الحادثة، تقول إيليت إنها تواصلت هي وزوجها مع موقع "بوكينغ.كوم": "لا نريد إعطاء أموال لهؤلاء الأشخاص". لكنهما لم يتلقيا أي رد، كما تواصلا مع السفارة البلغارية في إسرائيل وشرطة صوفيا، غير أنهما كذلك لم يتلقيا أي رد منهما.

وبعد ذلك وضعت إيليت منشورا في مجموعة فيسبوك إسرائيلية تحذر فيه الآخرين من ذلك الفندق، وتقول إنها تلقت اتصالا من السفير الإسرائيلي في بلغاريا، الذي قال إنه صدم من الحادث وسوف يفعل كل ما في وسعه لإخراج هذا الفندق من موقع بوكينغ.

وتختم حديثها لصحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية بالقول: "شعرتُ بأهمية تعريف الإسرائيليين بأمر هذا الفندق لأن الإسرائيليين يُحبون الفنادق الصغيرة. شعرنا بالتنمر، وكان الأمر مُخيفا".

مقالات مشابهة

  • صورة نادرة لمدرسة بنات مصرية تُعيد الذاكرة إلى زمن الانضباط التعليمي
  • الحبس لعصابة ضبطت بحوزتهم 70 كلغ من الكيف المغربي
  • اللجنة التنسيقية لخميس الجسد - زحلة أطلقت شعار اليوبيل
  • فوز أهلي حلب على الجيش في الجولة الأولى للدور ربع النهائي من دوري كرة السلة للرجال، وذلك في المباراة التي جمعتهما اليوم في صالة الفيحاء بدمشق
  • فرنسي يقتل جاره التونسي بـ5 رصاصات
  • من مكة إلى الكرامة… الرصاصة التي أصبحت جيشًا
  • الإعدام لعامل قتل سيدة مُسنة وسرقتها في الإسكندرية
  • صاحب فندق ببلغاريا: إلى الجحيم أيها الإسرائيليون تبا لكم!
  • مسابقة التصوير العالمية للطعام.. تعرف على الصور التي حازت على المراكز الأولى
  • نبوءات ويتمان.. كيف تنبأ شاعر القرن الـ 19 بأمريكا العصر الحديث؟