الملفوظات.. وثيقة دعوية وتاريخية تستكشف منهجية جماعة التبليغ
تاريخ النشر: 3rd, May 2025 GMT
في زمن تشتد فيه الحاجة إلى تجديد العمل الدعوي وإحياء الرسالة التربوية، يطل علينا كتاب "الملفوظات" للعلامة المجدد الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي، رحمه الله تعالى، مؤسس جماعة الدعوة والتبليغ، كأثر علمي وتربوي فريد، ينهل من معين الحكمة الإيمانية، ويرسم معالم منهج دعوي أصيل مستمد من الهدي النبوي.
لقد جاء هذا الإصدار، الذي تولت دار القلم بدمشق طباعته، ليجمع للمرة الأولى بين دفتيه صورة حية عن المنهج الدعوي الذي سلكه هذا الإمام، وذلك من خلال مجموعة من الكلمات والنصائح التربوية المختارة، التي عرفت في تراث الجماعة باسم الملفوظات.
ويكتسب هذا الكتاب قيمته من كونه أول عرض جامع ومنظم لهذه النصوص باللغة العربية، وذلك بترجمة رصينة، وخدمة علمية متقنة، وإخراج فني أنيق، مما يجعله وثيقة دعوية وتاريخية مهمة، تسد فراغا في المكتبة الإسلامية المعاصرة، وتفتح آفاقا لفهم مدرسة دعوية أسهمت في تشكيل الوعي الإيماني والدعوي لدى الملايين.
وقد تولى الشيخ عادل الحرازي اليماني الندوي، أستاذ علوم الحديث في كلية الشريعة بجامعة قطر، الإشراف على الكتاب ومراجعته العلمية واللغوية. والشيخ عادل هو من تلامذة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، رحمه الله، وقد لازمه لسنوات، وانتفع أيضا بعدد من علماء الهند، واليمن، والشام، والحجاز، مما أكسبه أهلية عالية لمعالجة هذا التراث.
إعلان مقدمات نفيسةويزيد من أهمية الكتاب وقيمته المعنوية والعلمية أن افتتح بعدد من المقدمات النفيسة لثلة من كبار العلماء والدعاة المعاصرين، وفي مقدمتهم:
الشيخ العلامة الفقيه المحدث القاضي محمد تقي العثماني، مفتي باكستان وأحد أبرز رموز الفقه المعاصر، والشيخ الدكتور خالد سيف الله الرحماني، الأمين العام للمجمع الفقهي الإسلامي بالهند، والعلامة المؤرخ نور الحسن راشد الكاندهلوي، حفيد الشيخ محمد إلياس، وراوي سيرته، والدكتور أكرم الندوي، الباحث الموسوعي والكاتب المعروف، والشيخ الأديب نعمان الندوي، أحد أبرز رموز البيان الدعوي، والشيخ سجاد النعماني الندوي، نجل العلامة الفقيه المحدث الشيخ منظور النعماني، ومشرف الترجمة، والشيخ مجيب الرحمن الندوي، مترجم الكتاب، والشيخ عادل الحرازي، الذي كتب مقدمة شاملة تعد دراسة تأصيلية في "الملفوظات" ومنهجيته التربوية والدعوية.
تعد هذه المقدمات مدخلا تأصيليا لفهم خلفيات الكتاب وسياقاته الدعوية، كما تبرز العلاقة الروحية والمنهجية الوثيقة بين الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي والشيخ أبي الحسن الندوي، ودورهما في إبراز جهد جماعة الدعوة والتبليغ، وتعريف العلماء والدعاة في العالم العربي، وبخاصة في الحجاز، بهذا التيار الدعوي العالمي.
السياق الدعوي والتاريخي للكتابولا تخلو "الملفوظات" من فوائد تربوية وعقدية ودعوية وتاريخية، تجعلها مرجعا أساسيا لكل من يسعى لفهم المنهج الإصلاحي التجديدي في مجال الدعوة، كما تصوره تجربة هذا العالم، الذي أجمع أعلام الهند وكثير من علماء العالم الإسلامي على إمامته وتجديده.
ويعد كتاب "الملفوظات" للشيخ محمد إلياس الكاندهلوي الذي عاش بين عامي (1885م- 1944م)، مؤسس جماعة الدعوة والتبليغ، من الوثائق الفكرية المهمة التي تبرز رؤيته الدعوية وملاحظاته التربوية، والكتاب ليس من تأليف الشيخ، بل هو جمع لأقواله ومجالسه وملاحظاته التي وثقها مريدوه وتلامذته، لا سيما الشيخ محمد منور الذي ينسب إليه حفظ الكثير من تلك المجالس ونقلها، وقد أصبح هذا النص بعد ذلك مصدرا أساسا لفهم المنطلقات الفكرية والتنظيمية للجماعة التي أسسها في الهند في أوائل القرن الـ20.
إعلانوينحدر الشيخ محمد إلياس من أسرة علمية في منطقة كاندهلة شمال الهند، وتربى في بيئة دينية متأثرة بالمدرسة الديوبندية الإصلاحية، وترافقت نشأته الدعوية مع التحديات الكبرى التي واجهها المسلمون في شبه القارة الهندية، ومنها الاستعمار البريطاني، وفتور الوعي الديني بين عوام المسلمين، والاختراقات الثقافية الغربية.
وقد رأى الشيخ أن إصلاح المسلمين لا يمكن أن يكون عبر التعليم النظامي وحده، بل يحتاج إلى بعث جديد من خلال دعوة الناس إلى أساسيات الدين، بدءا من التوحيد، والعبادات، ومكارم الأخلاق، في إطار عمل شعبي لا مركزي، وحث طلبة الجامعات على العمل في الدعوة لله.
محتوى الكتاب وبنيتهيضم الكتاب جملة من الأقوال والتوجيهات التي تتعلق بالمجالات التالية:
أهمية التوحيد: إذ يصف الشيخ التوحيد الخالص بأنه أساس النجاة، ويربط بين ضعف التوحيد وانحطاط المسلمين. أولوية العلم والعمل: يشدد الشيخ على ضرورة تعلم فروض العين والعمل بها قبل فروض الكفاية، ويركز على البعد العملي لا النظري في الدعوة. الذكر والتقوى: كثيرا ما يحث الشيخ في الملفوظات على كثرة الذكر، وعلى التحلي بالتقوى بصفتها شرطا للقبول عند الله. العمل الجماعي والدعوي: يؤكد الشيخ على أهمية الخروج في سبيل الله، وهي سمة مميزة في جماعة التبليغ، بوصفها وسيلة للتزكية وبث روح الدعوة. التجرد والإخلاص: يوصي الشيخ مرارا بالحذر من الرياء وتجنب الانشغال بالشهرة والجدل. المنهجية الدعوية كما تتجلى في "الملفوظات"تبرز الملفوظات منهجا دعويا متميزا، يركز على التجوال والخروج وسيلة لقطع التعلقات الدنيوية، وعلى الانخراط في تجربة روحية جماعية، وتعليم العوام بأبسط الوسائل، من خلال النصح المباشر، وتذكير الناس بالمبادئ الإسلامية الأساسية دون تعقيد.
أصبحت الأفكار الواردة في "الملفوظات" لاحقا أساسا في تدريب الدعاة والكوادر في جماعة التبليغ، حتى إن المبادئ الستة الشهيرة للجماعة يمكن تتبع جذورها في هذه الملفوظات، وهي:
إعلانالكلمة الطيبة (الشهادة)، والصلاة، والعلم والذكر، وإكرام المسلم والإخلاص والنية، والخروج في سبيل الله.
ويركز الكاندهلوي ابتداء على التقيد بالأصول بتصحيح النية والإخلاص وترسيخ الإيمان في القلب، فغاية الدعوة كما يرى أن تصبح أحكام الله تعالى وأوامره هوى الإنسان ورغبته الطبيعية، وتصبح النواهي كريهة له في نفسه، ويرى أن الأذكار وسيلة موصلة لتلك الغاية.
ومما يقوله الشيخ رحمه الله، ويمكن عده مركزيا في فكره: "إن منزلة الفرائض أعلى بكثير من درجة النوافل، بل نعتقد أن المقصود من النوافل هو تكملة الفرائض أو تلافي النقائص التي تحصل في تأدية الفرائض، فالمقصود أن الفرائض أصل توابعها وفروعها، لكن أحوال بعض الناس أنهم لا يهتمون في الفرائض، وينشغلون باهتمام كبير في النوافل، فكما أنكم تعلمون أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجميع شعب التبيلغ من أهم الفرائض، ولكن ما عدد الذين يؤدون هذه الفريضة مقابل المشتغلين والمنهمكين في الأعمال والعبادات والأذكار النفلية، وهم ليسوا بقليل!".
وكان مرتكزه في منهجه الدعوي وترغيبه بالخروج للدعوة سنة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فقد نقل عنه في ملفوظاته تنبيهه أن دعوة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في مكة كانت بالتطواف على الناس ودعوتهم إلى الحق، في حين لم يكن هذا عمله بعد أن وصل إلى المدينة المنورة، بل جعل له فيها مقرا استقر فيه، ولكنه إنما فعل هذا بعد أن هيأ جماعة خاصة تؤدي هذا العمل الدعوي بين الناس بأحسن وجه.
يعد كتاب "الملفوظات" نافذة أساسية لفهم فكر الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي، ولفهم التشكل الفكري لحركة الدعوة والتبليغ، إذ يجمع بين بساطة اللغة وعمق الفكرة الدعوية، ورغم أن أسلوبه أقرب إلى المجالس الوعظية، فإنه يبرز ملامح مشروع إصلاحي عملي اتخذ من الدعوة إلى الله منهجا، ومن التزكية الفردية والجماعية وسيلة للتغيير، ولعل هذا الكتاب يستحق إعادة قراءة متأنية في سياق تطورات الحركات الإسلامية المعاصرة، لا سيما تلك التي تدعو إلى العمل الدعوي خارج الأطر السياسية والتنظيمية الصارمة.
إعلانالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الدعوة والتبلیغ
إقرأ أيضاً:
فتاوى :يجيب عنها فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عُمان
هناك عادة يتم تبريرها من جهة أن الجيران هم الذين يقومون بإعداد هذه الوجبات الأولى، وأن الوجبة تُعد غداء مثلًا بعد الدفن أو عشاء بعد الدفن كذلك، وأيضًا في الأيام الثلاثة التي فيها أيام العزاء يقوم الجيران بإعداد الطعام للمعزين الذين يأتون من أماكن بعيدة، فما حكم هذا التصرف؟
الحقّ أن في هذه التصرفات، مع التوسع فيها وإيجاد المسوغات، تركًا للسنة، أو أن فيها تركًا للسنة، وإصرارًا على الاستمرار في هذه العادات التي تثقل كاهل الأسر وتثقل كاهل المجتمع، ولا سبيل إلى التقليل منها إلا بتعاون الجميع، واليوم السبل ميسّرة، فإن الناس يسافرون ويذهبون ويجيئون، ولا يجدون حرجًا في تهيئة الطعام الذي يحتاجون إليه في أوقاته، فإما أن يكون لهم قريب أو صديق، أو أن يأكلوا طعامهم في شيء من هذه الأماكن المعدّة لذلك.
لكن أن يشتغل الناس بإعداد الطعام وهم في حالة دفن الميت، فهذا يمكن أن يضيع عليهم ما هم أولى بالاشتغال به من حضور الجنازة وتشييعها وأداء حق هذا المسلم الميت، وفيه كما تقدّم تشجيع على أن يأتي الناس من أماكن شتّى؛ لأنهم ألفوا أن يجدوا الطعام معدًّا، ولذلك فإنهم لا يكترثون بالمواقيت، بالمواعيد التي يأتون فيها، ولا بأحوال الميت وأسرته، لأنهم يحملون الأمر على أن الجيران أو الأقارب هم الذين أعدّوا هذا الطعام.
وسمعتُ في السؤال كأنه يقول: الغداء والعشاء، وكذلك في أيام العزاء أيضًا الغداء والعشاء، هم وضيوفهم، وينبغي للمعزين أنفسهم إن كان ولا بدّ أن يذهبوا للتعزية أن يتحرّوا غير أوقات الطعام، وأن يتحرّوا غير أوقات الراحة؛ لأن في ملازمة العزاء لأهل المصاب عناء ومشقة لا يجهلها الناس، ففيه عناء كثير، ولا بدّ لهم من شيء من الراحة واستجماع قواهم ليتمكنوا من استقبال المعزين.
فعلى الناس أن يتعاونوا في مراعاة الأوقات وفي التخفيف عن أهل العزاء، ومنهم الجيران والأقارب، أما مع هذا التوسع بدعوى أن الأقارب والجيران هم الذين يُعدّون هذا الطعام لأهل الميت، فيبدو أن أهل الميت هم في آخر قائمة الاهتمامات، وإنما المقصود هو المذمّة من الضيوف، من المعزين الذين يأتون، ويُترك صحن لأهل البيت، لأهل العزاء.
فإذا لا بد أن يتعاون الجميع، ولا شك أن الحال اليوم أيسر مما كان عليه الحال قبل سنوات، حينما يتكلف أهل العزاء، وقد يكون ذلك من تركة الميت، وفيهم قُصَّر وأيتام، اليوم وُجدت هذه الصناديق الأسرية، والأقارب، والجيران، ولكن هذا لا يعني أن نستمر في هذه العادات، ينبغي أن نُقلّل منها، وأن نتحرى الأوقات التي هي غير أوقات الوجبات، وأن نخفف على أهل المصاب قدر ما نستطيع، ووُجدت اليوم من وسائل إيصال التعازي ورسائل المواساة وسائل كثيرة، ينبغي أيضًا أن يُستفاد منها، وألا يُحرِج الناسُ بعضُهم بعضًا في هذا الشأن، فينبغي أن يتعاون الجميع حتى نجعل من هدينا وسيرتنا في أيام العزاء أقرب ما يكون إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والله تعالى المستعان.
هل ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقرأ سورة الكافرون في الركعة الأولى من الضحى، وفي الثانية الإخلاص؟
أما في صلاة الضحى فلا أحفظ أنه ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يقرأ فيها سورة الكافرون وسورة الإخلاص، ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ بهاتين السورتين في سنة المغرب وفي سنة الفجر، وفي ركعتي الطواف، لكن في سنة الضحى لم أطلع أنه مما يُستحب أن يُقرأ في ركعتي الضحى الكافرون والإخلاص، وردت رواية لكنها ضعيفة، وبعضهم يقول موضوعة، في الضحى بقراءة «والشمس وضحاها» في الأولى، وقراءة «الضحى» في الثانية، لكنها كما قلت ضعيفة ضعفًا شديدًا.
ابني مريض منذ سبعة أشهر ولا يزال يتلقى العلاج في أحد المستشفيات، إلا أن بعض المقرّبين وبعض الناس يُلِحّون عليّ في تغيير اسمه، زاعمين أنه سيشفى بعد تغيير الاسم، مع أن اسم ابني اسم نبي، وهو داوود عليه السلام، كيف نرد على من يقول هذه البدع؟
أسأل الله تعالى الشفاء والصحة والعافية لولده ولسائر ذرياتنا، إنه تعالى سميع مجيب، وأما الجواب فإنه لا صحة لهذا المدعى، لا من ناحية شرعية ولا من ناحية طبية، فليس في الطب أن للأمراض التي يُصاب بها المواليد أو يُصاب بها الأطفال أو الناس علاقة بين الاسم والمرض، ولا يوجد هذا في الشرع، أن إصابة الناس بالأمراض يمكن أن تكون راجعة إلى الاسم، بل يُخشى أن يكون هذا من التشاؤم الذي نُهي عنه في دين الله تبارك وتعالى.
فقد كان أهل الجاهلية يتشاءمون بالأسماء وببعض الحوادث، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الروايات: «لا شؤم»، وفي بعض الروايات: «لا هامة ولا عدوى ولا صفر»، وقال: «ولا شؤم»، فنفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون للطيرة والتشاؤم أي أثر في مجريات الأحداث في هذا الكون، فيما يصيب بني البشر وما يحصل لهم من حوادث.
فعلى من زعم هذا الزعم أن يتوب إلى الله تبارك وتعالى، وأن يوقن أن الطيرة والتشاؤم ليسا من أفعال أهل الإسلام، وإنما هما من أفعال أهل الجاهلية، وأن هذا الدين جاء لنفي مثل هذه الأوهام والمزاعم، والذي يُبتلى ولدُه بشيء من الأمراض لا ينبغي له أن يسمع لهؤلاء، فإن التماس العلاج هو الأصل، وهذا من البلاء الذي يُضاف إلى المرض: أن يسمع مثل هذه الأقاويل، ولأن كل والد يشفق على ولده، فإنه يسعى إلى التماس ما يُخرجه مما هو فيه من بلاء ومرض ومعاناة، فقد يضعف أمام هذه المزاعم والأقاويل التي يوجهها الناس، لكن عليه أن يثبت وأن يحمل نفسه على ما في شرع الله تبارك وتعالى، وأن يوقن أنه لا طيرة ولا شؤم في هذا الدين الحنيف.
فكيف واسم ولد السائل من الأسماء المحمودة، والمحمود من يُسمّى بها تأسّيًا بأسماء رسل الله تبارك وتعالى وأنبيائه الكرام عليهم الصلاة والسلام، فلا يلتفت إلى هذه الأقاويل، وليلتمس العلاج، وليكثر من الضراعة والدعاء لله تبارك وتعالى، وليتصدق، فإن الصدقة تدفع البلاء، وأما ما يتعلق بالاسم فقد تقدم الجواب عنه، والله تعالى أعلم.
يُلاحظ في المساجد اقتطاع الأعمدة لصفّ المصلين، بمعنى أن الأعمدة تقطع صفوف المصلين، مما يؤدي إلى أن بعض المصلين يتجاهلون الصفوف التي فيها الأعمدة ويتقدمون أو يتأخرون، فيخلّ المكان، بمعنى تكون المسافة بعيدة بين الصف والصف الآخر، هل يؤثر هذا على صحة الصلاة للصفوف التي تليها؟ وما حكم الصلاة بين السواري؟
هذه مسألة فيها خلاف عند أهل العلم، وليس حديثهم في حالة ضيق المساجد والجوامع كما يحصل في صلاة الجمعة على سبيل المثال، أو في صلاة القيام، أو في صلوات الجماعة في رمضان من امتلاء المساجد وضيقها بالمصلين؛ فإن الكل متفق من رخّص ومن شدّد في مسألة الصلاة بين السواري، أي الأعمدة الأسطوانية، كلهم متفقون على أنه في حالات الضيق وعند امتلاء المساجد فلا إشكال ولا حرج في أن تُنشأ الصفوف بين السواري، هذا مما ينبغي أن يُنتبه إليه محل اتفاق.
يبقى الحال في حالة السعة: هل هناك حرج في الصلاة بين السواري؟ فيها خلاف، والأقرب هو أن النهي صحيح عن الصلاة بين السواري، فهناك روايات من طريق أنس بن مالك قال: «كنا نُنهى عن الصلاة بين السواري»، وفي بعض الروايات: «ونُطرد عنها طردًا»، وهذه الصيغة تدل على أن الرواية مرفوعة، أي: كنا نُنهى ونُطرد أي في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقول الصحابي: «كنا نؤمر» أو «كنا ننهى» هو في حكم المرفوع.
وروايات أخرى أيضًا من طريق معاوية بن قرة، والحديث صحيح أيضًا أنهم كانوا ينهون عن الصلاة بين السواري، فذهب الجمهور من الإباضية والشافعية والأحناف والحنابلة إلا المالكية إلى النهي عن الصلاة بين السواري، واختلفوا: هل هو للتحريم أو للكراهة؟ وأكثرهم على أنه للكراهة.
وأما المالكية فإنهم يرخصون، فيُروى عن الإمام مالك أنه لا حرج في الصلاة بين السواري، وأُظن أن مما استند إليه القائلون بالجواز أو الترخيص، أو الذين حملوا النهي وصرفوه من التحريم إلى الكراهة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة صلى بين العمودين، صلى بين الساريتين، ولكن الجمهور ردّوا بأن ذلك خاص بالصلاة داخل الكعبة، وأنه كان منفردًا، لم يكن يصلي في جماعة.
الحاصل أنه ما أمكن اجتناب الصلاة في الجماعة بين السواري فذلك خير وخروج من الخلاف، وينبغي أن تتصل الصفوف وألا يُقطع بينها قاطع، لكن هذا القاطع من السواري أو الأعمدة لا يؤدي إلى انتقاض الصلاة، لا يؤدي إلى نقض صلاة ذلك الصف؛ لأنه فاصل طبيعي، فهو ليس بالفجوة التي يمكن ملؤها وقصّروا في ملئها، وإنما هو فاصل طبيعي استدعاه بناء المسجد أو الجامع.
لكن قدر المستطاع يُجتنب الصلاة بين السواري في المساجد في حال السعة، فإن فعلوا ذلك فلا يضيرهم، وإن أمكن لهم أن يجعلوا الصفوف متقاربة وأن يجتنبوا مواضع السواري فذلك خير، فإن لم يمكن لهم وكان الصف من وراء السارية فلا حرج إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم.