هل كل هؤلاء الناس يقرأون الكتب بالفعل؟ فكرتُ بهذا السؤال وأنا عالق في زحام الطريق المؤدي إلى معرض الكتاب مساء الجمعة الماضية. ولا شكَّ عندي أن كثيرين غيري قد راودهم التساؤل نفسه وسط ذلك الاحتشاد المروري على مداخل مركز عمان للمؤتمرات والمعارض، في اليوم ما قبل الأخير من أيام معرض مسقط الدولي للكتاب، في دورته التاسعة والعشرين.

ظني لم يذهب بعيدًا، فبعد دقائق فقط تفاجأتُ بإحدى الصديقات وقد وضعت على حسابها في الإنستغرام صورة ساخرةً لها، التقطتها وهي تمسك بكوب من الذرة عند أحد الأكشاش الصغيرة قرب البوابة، مع تعليق مضاد: «الآن في العرس الثقافي»؛ كما لو أنها تقول: هذا ما جئتُ من أجله أنا وغيري؛ جئنا لنستمتع بالذرة!

وللذرة، بطبيعة الحال، ماضٍ وذكريات في تاريخ معرض الكتاب بمسقط. إنها تقليد متوارث منذ أيام زياراتنا المدرسية للمعرض، تقليد تطور عبر الأجيال حتى بات توقيعًا خاصًّا بهذه المناسبة، فمن لم يأتِ من أجل الكُتب فليستمتع أقله بالتجوال مع كوب من الذرة. أما تعبير «العرس الثقافي» الشهير فله هو الآخر أيضًا ماضٍ وذكريات في قصة المعرض، تعبير يجعلني أسأل بجدية عن أول من أطلق هذا الوصف على معرض الكتاب حتى أصبح وسمًا تقليديًّا ولازمة من لوازم اللغة الإعلامية في كل دورة سنوية. سيهمنا العثور على هذه المعلومة حال فكرنا غدًا أن نكتب تأريخًا خاصًّا بأيام معرض مسقط الدولي للكتاب. ومؤخرًا فقط أصبح هذا التعبير مقولة للتندر والسخرية بين المثقفين، وصارت له دلالات أخرى، عكسية أحيانًا.

ولكن لنعد إلى سؤال الأساس: هل كل هؤلاء الناس يقرأون الكتب بالفعل؟ حين يشعر الناس بالاختناق في زحامٍ ما فسيلجأون تلقائيًّا للتساؤل عن حق الآخرين في وجودهم بالمكان نفسه. إنه سؤال مشروع، ما دام مشهد الإقبال على المعرض (خاصة في ساعات الذروة من أيامه الأخيرة) يصعقنا بحجم التباين الساحق بين المدخلات والمخرجات، بين حجم إنفاق عمانيي الطبقة المتوسطة وما دونها على الكتب، سنويًّا، في مقابل استمرار السمات التي تسم مجتمعنا المستقر طيلة أيام السنة: غياب التفكير النقدي، تسطيح القضايا العامة، سطوة الرأي الجمعي على الرأي الفردي والخيارات الشخصية، ركود الحركة الفكرية والجدل المتجدد حول الأفكار، هيمنة الثوابت على المتغيرات وعلى إمكانية التغيير، ضعف المعرفة التأسيسية بالحد الأدنى ما يمكن أن نسميه بـ«تاريخنا الوطني»، شح الحضور والمشاركة في مقاعد الأمسيات والجلسات الثقافية في باقي أيام السنة، اجترار الأسئلة ذاتها والقضايا ذاتها في المناسبات ذاتها، ما بين الواقع الافتراضي والواقع الحقيقي، دون تطور أو تحول يُذكر أو ينبي عن مجتمع قارئ متحرك إلى ما هنالك من سمات وظواهر عامة تجعلنا لا نصدق تمامًا أن إحصائيات زوار المعرض وقواعد بيانات المبيعات تعطينا مؤشرًا دقيقًا لنسبة القراء الفعليين أو تنبينا عن حال القراءة ونموها فعلاً جادًا ومتجددًا في عُمان. ما أود قوله يلخصه صاحبي بطريقة أكثر رعونةً وأقل تهذيبًا: «لو أن ربع هؤلاء الوافدين إلى معرض يقرأون ما يشرون حقًا؛ لكنَّا في مجتمع مختلف تمامًا».

بالتأكيد، أثر القراءة على المجتمع وتطور الوعي العام لا يمكن أن يُقاس وفقًا لمعادلة رياضية مباشرة تقارن المدخلات بالمخرجات، فاستقراء الظاهرة الاجتماعية أعقد من هذه الحسبة المبسطة، لا جدال في ذلك ولا مراء، فالمسألة مرهونة بعوامل أخرى خارج مشهد معرض الكتاب نفسه. لكننا في الوقت ذاته لا نستطيع أن نتجاهل تفاقم مشكلات معرفية وفكرية أساسية، كتلك التي سبق ذكرها، بينما ندعي أننا شعب يقرأ! كيف ندعي أننا مجتمع يقرأ في حين أن حياتنا الثقافية، البيئة المصدرة للكتب والأفكار، هي أكثر البيئات فقرًا لحس النقد، وأكثرها اعتمادًا على المجاملات والتودد والتزلف على حساب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قضية الكتابة وجودتها بشكل خاص؟! وإلى متى سنطمئن بانتشاء إلى مجاملات الضيوف الأجانب حين يخبروننا مشكورين بأن العمانيين شعب قارئ لا مثيل له؟!

ليست المشكلة في اعتبار الكتاب بضاعة منزوعة القداسة، تُشرى وتُباع كسائر البضائع. المشكلة تكمن في انقطاع تواصلية العملية التي تحول الكتاب من منتج مادي مدفوع إلى مضمون فأثر حي بفعل القراءة والنقاش واحتكاك الأفكار الخارجة من حبر الورق. بيد أن الاكتفاء بالاقتناء وشعور التملُّك لدى الفرد هو ما يُعطل صيرورة القراءة باعتبارها فعلًا متواصلًا، وهو ما يجعل من مشهد الإقبال على الكتب مجرد ظاهرة استهلاكية موسمية تشبه ما يحدث يوميًّا في المجمَّعات التجارية الكبرى، في مجتمعات الاستهلاك والاستعراض.

معرض الكتاب مناسبة سنوية للتساؤل عن القراءة وجدواها ومردودها على الفرد والمجتمع، وعلى مجريات حياتنا وسلوكنا الفكري، وعلى تطور كتابتنا في عُمان، نحن المعنيين بقضية الكتابة. فأين تذهب هذه الكتب وأين تتسرب القراءة؟ مشهد توافد العمانيين بمختلف أجيالهم على دور النشر وسؤالهم عن كتب بعينها مشهد مهول، مذهل، ويستدعي التأمل والتفكير به على أكثر من وجه.

لماذا تنفد عناوين محددة بالرغم من غلاء أسعارها؟ وكيف يتبادل الناس توصياتهم، وكيف يتسامعون بها، وعلى أي أساس؟ لا بدَّ أن نتوقف بإمعان أكبر ونحن نتأمل عملية شراء الكتب، أن نقاربها كحالة استهلاكية تستدعي فحصها وتحليل توجهاتها. 3 عقود من معرض مسقط الدولي للكتاب أعتقد أنها كفيلة لدراسة التجربة بجدية أعمق، والاستفادة منها بطريقة مغايرة لفهم أحوال القراءة في عُمان، ومعرفة ماذا يقرأ العمانيون، وكيف؟

سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: معرض الکتاب

إقرأ أيضاً:

هل ثواب قراءة القرآن من الموبايل له نفس ثواب المصحف الورقي؟.. أيهما أفضل

أجمع العلماء على أن قراءة القرآن الكريم من الهاتف المحمول جائزة شرعًا، ولا يُشترط لها الوضوء، بخلاف القراءة من المصحف الورقي التي يشترط فيها الطهارة. 

ورغم أن الثواب في كلتا الحالتين حاصل؛ إلا أن القراءة من المصحف تظل أولى عند بعض العلماء، لما فيها من تعظيم للنص القرآني بالنظر إليه ولمسه، وهو ما لا يتوفر في الأجهزة الرقمية.

وقد ذهب الإمام النووي إلى أن القراءة من المصحف أفضل من القراءة غيبًا، لأن النظر في المصحف عبادة إضافية، تجمع بين التلاوة والنظر. 

كما اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم مس المصحف للمُحدث، سواء كان حدثًا أصغر أو أكبر، بينما أجازوا القراءة من الهاتف دون وضوء.

أما من كان على جنابة، فلا يجوز له قراءة القرآن، سواء من المصحف أو الهاتف، في حين أن المرأة الحائض يجوز لها القراءة من الهاتف وفق بعض الآراء، لأنه لا يأخذ حكم المصحف الورقي.

وفي هذا السياق، أوضح الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، أن قراءة القرآن دون وضوء جائزة، خاصة لمن يقرأ أثناء السير أو من الهاتف.

وأشار إلى أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ القرآن على أي حال، إلا إن كان جنبًا، فلا يمسه حتى يغتسل.

هل الأفضل تأخير صلاة العشاء عن وقتها؟.. الإفتاء تردحكم تأخير الصلاة عن وقتها.. الإفتاء: يجوز في هذه الحالاتالإفتاء توضح حكم سنة صلاة العصر وعدد ركعاتهاهل يجوز ترديد آيات قرآنية في السجود؟.. دار الإفتاء تجيب طباعة شارك قراءة القرآن الهاتف المحمول المصحف الورقي دار الإفتاء الوضوء الحدث الأكبر

مقالات مشابهة

  • ثواب استماع القرآن للمرأة غير القادرة على القراءة.. تعرف عليه
  • اتحاد الكتاب يقيم أمسية نثرية فارساتها الزعبي والمفتي ودراغمة في فعاليات جرش39
  • افتتاحُ معرض الكتب المستعملة بولاية سناو
  • بالصور.. هؤلاء أوائل شهادة التيرمينال
  • في ثوان .. خطوات دفع فاتورة الغاز المنزلي بالموبايل وتسجيل القراءة
  • تخليد اسمه في الكتاب.. المركز الكاثوليكي يكشف عن تكريم منتظر لـ لطفي لبيب
  • مكتبة مصر العامة تنظم معرضًا لبيع الكتب بأسعار رمزية
  • اختتام برنامج الأمسيات الشعرية في رابطة الكتاب الأردنيين
  • هل ثواب قراءة القرآن من الموبايل له نفس ثواب المصحف الورقي؟.. أيهما أفضل
  • ملتقى الكتاب السوريين يختتم فعالياته ويكرم الأدباء والمثقفين المشاركين