الاغتراب وآثاره السلبية

الاغتراب وآثاره السلبية
– ١ –
لا شك أن للاغتراب مزايا عديدة وفوائد شتى، أغرت كثيرا من الناس ولا سيما الشباب بالتورط فيه، ولكنني أزعم أنه كالخمر ضرره أكثر من نفعه، فمتى فاق المغترب من سكرته، وما أطولها، علم أنه ارتكب خطيئة وأفضى به طموحه إلى سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.

الاغتراب هو مفارقة المرء وطنه ، والحلول ببلاد غير بلده، والعيش بين أهل غير أهله؛ ابتغاء المال الوفير، والعيش الرغيد، وربما كان سببه الهروب من بطش الحكام المستبدين.

وقليل من المغتربين اغترب من أجل الدراسة ونيل شهادات عليا في تخصصاتهم وما هؤلاء أعني بهذا المقال؛ لأن آثار الاغتراب السلبية عليهم قليلة لقلة الوقت الذي يقضونه خارج أوطانهم.
وبعض المغتربين يطلقون على الاغتراب لفظ “الهجرة” ويسمون أنفسهم “مهاجرين” ولكني أحسب أن هذا هروب، ضرب من ضروب التحسين اللفظي لتخفيف وقع كلمة “الاغتراب” على النفس، فقد جبلت النفوس على حب الأوطان وكراهة مفارقتها.

ودعك من كلام بعض الأدباء عن الغربة داخل الوطن وبين الأهل فهذا استخدام مترف للألفاظ لا أعنيه وإنما أعني المعاني الحقيقية للاغتراب – أي انتقال المرء من بلد إلى بلد آخر واتخاذه وطنا له – التي جرت المآسي على المغترب وتركت عليه وعلى أسرته آثارا سلبية.

والمغتربون صنفان: أحدهما يمم شطر السعودية ودول الخليج، وهؤلاء أصابوا المال ولم يخسروا كثيرا من ثقافاتهم إذ لا يزالون في الإطار العام للثقافة العربية الإسلامية وإن فقدوا شيئا من خصوصية ثقافتهم السودانية وأصبح أولادهم متنازعين بين ثقافتين؛ الغلبة فيهما غالبا للثقافة الخليجية لهجة وذوقا وانتماء ووجدانا فالبيئة لها أثر بالغ في تشكيل الوجدان.

والصنف الآخر يمم شطر أوروبا والولايات المتحدة وبعض دول آسيا حيث الغربة الحقيقية – ولا ينبئك مثل خبير – غربة الوجه واليد واللسان والثقافة والدين والهوية والعادات والتقاليد، ولهذا النوع من الغربة آثار سلبية على المغترب وأسرته لو مزجت بماء البحر لمزجته ولكن طيش الشباب – عفا الله هنا – حسّن لنا القبيح وزينه.

وأغلب هؤلاء المغتربين من الصنف الثاني خسروا أبناءهم وبناتهم وأسلموهم لمن لا يؤتمن عليهم، ولا يدرك الأبوان فداحة ما ارتكبوا في حق بنيهم وبناتهم من إثم حتى يروا كيف نزعوا بأيديهم نسلهم من جذوره، وأن أبناءهم لم يعودوا امتدادا لهم فقد انقطعت هذه الصلة بينهم وبين هذه الثقافة التي ورثها عن أجداده كابرا عن كابر، وكل هذا التفريط من أجل لعاعة من الدنيا لو صبر لجاءته في وطنه صاغرة تجرر أذيالها ولكن الإنسان خلق من عجل.
أكتفي بهذا الجزء وللحديث بقية بل بقايا.
(نواصل)

الاغتراب وآثاره السلبية
-٢-
إن أول أثر سلبي للاغتراب هو ما يجده مغتربو أوروبا وأمريكا في أنفسهم من اعتياد المنكر فقد ترى أعينهم أبشع أنواع المنكر ولا تنكره قلوبهم دعك عن تغييره باليد واللسان!
حكى لي صديق عاش في أمريكا فترة طويلة ثم ذهب إلى السودان في إجازة فاستأذنه أخوه المغرم بمشاهدة المسرحيات أن يذهب إلى المسرح القومي في أم درمان فأذن له فذهب الأخ ورجع سريعا فسأله عن سبب رجوعه سريعا فقال له وضع الممثل يده على كتف الممثلة فاحتج الجمهور وهشموا الكراسي قال فمكثت دقائق انتظر بقية القصة لأعرف سبب احتجاج جمهور المسرح ثم اكتشفت أن القصة قد انتهت، وأنه ذكر السبب ولكني أنا المفتون بالحياة الغربية لم استوعب هذا السبب لكثرة ما رأت عيني وسمعت أذني من المنكر، قلت فكيف إذا رأوا الفتى يخاصر الفتاة ويقبلها جهرة أمام الناس وهم لا يأبهون؟!

وأول خطوة في تغريب الأبناء ودمجهم في المجتمع الجديد هي إلحاقهم بالمدارس العامة وبدء تعلم الانجليزية وترك تعلم اللغة القومية والدين إلى ما يسمى بمدارس نهاية الأسبوع التي تمارس نشاطها بضع سويعات يومي السبت والأحد وهي على قلتها وقلة إمكانياتها وقلة مؤهلات أساتذتها لا يلتحق بها إلا قليلا من الطلاب لأن في إلحاق الطلاب بها حرمانا لهم من عطلة نهاية الأسبوع وهو ما يجعل الطلاب يكرهون مادتي اللغة العربية والدين، والطفل شديد الملاحظة للفرق بين النوعين من المدارس، المدارس العامة بكل إمكانياتها وتأهيل معلميها ومعلماتها ومدارس عطلة نهاية الأسبوع بكل بؤسها وبؤس معلميها ومعلماتها والطفل يحكم على ما يرى. وأما التضحية من أجل الأهداف النبيلة وتعليم ما ينفعه في آخرته فهذه قيم يفهمها الكبار لا الأطفال.

ومع تقدم الطفل في المدارس العامةتستمر عملية نسيان الماضي وإحلال الجديد محله أي نسيان اللغة القومية وإحلال اللغة الإنجليزية مكانها، وهذه هي الكارثة التي تتلوها كوارث يأخذ بعضها برقاب بعض.

وكنا نحن المغتربين المعجبين بالحضارة الغربية حضارة الغالب يغرنا أن نرى أبناءنا يتحدثون الإنجليزية كأهلها بلا لكنة Accent ويطربنا ذلك حتى علمنا أنها مباينة بيننا وبينهم في كل شيء، ولا سبيل إلى تداركها ولا يبدو لك ذلك واضحا إلا بعد تخرج ابنك من الجامعة وبداية ممارسة السلوك الذي أشربه في المدارس وهو يافع ، وإن عاتبته فلسان حاله يقول لك: آلان وقد كبرت!

إن من استبدل بلغته لغة قوم آخرين فقد فرط في هويته ورضي بالدنية وهان أمره في أعين من رضي أن يلحق نفسه بهم فلا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى!

والذي يمعن النظر في أدبيات المستعمرين (البغاة) الدين احتلوا دول العالم الثالث يجد أن الرواد تقدموهم، والرائد لا يكذب أهله، وأعني بهم المستشرقين فقد قدموا بين أيديهم الدراسات الانثربولوجية واللغوية والثقافية لهذه المجتمعات التي يريدون احتلالها وقد عولوا فيها على سلخ مواطني هذه الدول عن لغاتهم ليسهل سلخهم عن دينهم وهويتهم لعلمهم بخطورة اللغة وأثرها في تماسك النسيج الاجتماعي للشعوب، هذا وقد تأتى لهم ما أرادوا فقد ظلت هذه الشعوب خاضعة لهم حتى بعد خروجهم من أرضها؛ لأنهم تركوا فيها ما هو أخطر من وجودهم الحسي، تركوا فيها لغتهم وثقافتهم ومناهج تعليمهم ورجالا من هذه الشعوب صنعوهم ليحملوا الراية من بعدهم.
وللحديث بقية.

#هاشم_الإمام يكتب: الحلقة الثالثة (الأخيرة)
الاغتراب وآثاره السلبية
-٣-
كان الاغتراب من قبل للمعيدين المبتعثين من الجامعات لنيل شهادتي الماجستير والدكتوراه، ويسمى الابتعاث، ولأصحاب التخصصات العلمية كالهندسة وغيرها وللعمال الفنيين المهرة الذين انتدبوا إلى دول الخليج وبعض الدول الإفريقية للإسهام في نهضتها، ويسمى الانتداب، وكانت فترة الابتعاث أو الانتداب محددة يعود المبتعث أو المنتدب بعدها إلى وظيفته في الجامعة أو في مؤسسات القطاع العام او الخاص، وكانت الوظيفة مجزية من حيث عائدها المادي فلا يحتاج شاغلها إلى إراقة ماء وجهه بالركض وراء نيل الوظائف خارج الوطن.
أما الاغتراب اليوم فمتاح لكل أحد لكرام الناس ولسفلتهم، للمتعلمين وللجهلة؛ لذلك تجد كثيرا منهم يعملون في وظائف متواضعة أو في مجال غير مجال تخصصهم. فالذي يحمل شهادة جامعية يحتاج أن يدرس ليعادلها وبعض التخصصات يحتاج حاملها إلى الدراسة لاستخراج رخصة في مجال التخصص حتى يجد وظيفة تناسب تخصصه ولكن العمل لساعات طويلة في الوظائف الهامشية من أجل تأمين لقمة العيش وبالحد الأدنى للأجور لا يمكنه من توفير الوقت للدراسة وتطوير قدراته فيستكين لهذه الوظائف التي توفر له المأكل والمشرب والملبس والسكن والمركب الحسن مما لا يتوفر له في وطنه فيحيل تحقيق مطامحه إلى أولاده عسى أن يحققوا ما أخفق هو في تحقيقه.

هذا والغرض من فتح باب الهجرة إلى أوروبا والولايات المتحدة إنما هو جلب العمالة الرخيصة، وأما الاضطهاد وحقوق الإنسان وغيرها من الدعاوى فحق أريد به باطل.
هناك فروق شاسعة وعلامات فارقة بين مفهومنا في الشرق لتربية البنين والبنات وبين مفهوم هؤلاء الغربيين فكثير مما نعدّه من الثوابت يعدونه من المتغيرات، وكثير مما نراه بِرّا ، يرونه قيدا، فالوالدان والأسرة مثلا يعدان حجر عثرة أمام تربية الطفل على الاستقلالية، ومن هنا يبدأ برنامج هدم الأسرة وتفكيكها وتمزيق النسيج الاجتماعي وصب الطفل في القالب الذي أعد له لاستقبال الثقافة والقيم الغربية وتمثلها.

هذا ولا أريد أن أعمم هذه الصورة البشعة لحال المغتربين في بلدان أوروبا وأمريكا فالتعميم من الظلم ومجافاة العدل، فهناك عوائل كريمة استطاعت مقاومة هذا التغريب وتربية أبنائها وبناتها على قيم الإسلام وتعاليمه فنشأت على الاستقامة وحسن الخلق ولكنهم ربما افتقروا إلى بعض القيم الثقافية القومية فتجدهم مثلا لا يصِلُون أرحامهم ولا يرون لهم حقا غير الزكاة في أموالهم ويتعجبون من هذه العلاقات الحميمية التي تربط آباءهم وأمهاتهم بذويهم.
هذه أوجاع يطول منها تقلبنا على فراشنا حين نستغشي ثيابنا ليلا وربما عدت إليها وفصلتها أكثر من ذلك إذا وجدت متسعا من الوقت.

هذا وأستأذن القراء لأعرض عليهم كتابا ترجمته عن الإنجليزية وعنوانه في الأصل الإنجليزي :How to teach children responsibility أما في الترجمة العربية “كيف تعلم أطفالك المسؤولية؟” وسأنشره على عدة بوستات ولن تكون متتابعة بل تتخللها بوستات في موضوعات شتى حتى لا يصيب القراء الملال.
(انتهت)

هاشم الإمام

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين