تكتسي زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى باريس أهميتها، ليس فقط من كونها أول زيارة له إلى عاصمة أوروبية، بل لأنها تفتح باب أوروبا أمام التحول السوري الجديد، خاصة أن فرنسا تحظى بثقل كبير في منظومة الاتحاد الأوروبي، وكانت من أولى الدول الأوروبية التي أرسلت وزير خارجيتها جان نويل بارو، صحبة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا ألما بيربوك إلى دمشق.
كما قامت بإعادة فتح سفارتها، التي أغلقت في مارس/ آذار 2012، بعد أن قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا احتجاجًا على التعامل الدموي لنظام الأسد البائد مع المحتجين السلميين الذين ثاروا على النظام في منتصف مارس/ آذار 2011. ثم قامت باريس بتعيين السفير جان باتيست فيفر قائمًا بالأعمال في سفارتها في دمشق.
وكان لافتًا مسارعة الرئيس ماكرون إلى تهنئة أحمد الشرع بتوليه منصب الرئاسة السورية، ووجه إليه دعوة لزيارة فرنسا، لكنه عاد وقرنها بشروط سياسية، تتلخص في ضرورة تشكيل حكومة سورية شاملة تضم كافة أطياف المجتمع المدني السوري، وتوفير الضمانات الأمنية اللازمة من أجل عودة ملايين اللاجئين السوريين إلى مدنهم وقراهم.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هو: ماذا يريد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من نظيره السوري أحمد الشرع؟
بداية، تشير الزيارة إلى جدية فرنسا واهتمامها بالوضع السوري الجديد، وتأتي تتوجًا لمسار سلكته السلطة الجديدة في سوريا لإعادة بناء علاقاتها الدولية، وكسر العزلة السياسية التي فرضت على البلاد لفترة طويلة، لذلك سعت الإدارة الجديدة إلى الانفتاح على الأوروبيين لرفع جميع العقوبات، أو على الأقل تخفيفها، والإسهام في ملفَي التعافي المبكر، وإعادة الإعمار، وتقديم مساعدات اقتصادية وتقنية هي بأمسّ الحاجة إليها.
إعلانوبالتالي، فإن زيارة الشرع إلى باريس تؤكد تمكن حكام سوريا الجدد من انتزاع تأييد واعترف دولي واسعَين، إلى جانب احتضان عربي خليجي غير مشروط، الأمر الذي يمنحهم شرعية خارجية. وتشي الزيارة بحدوث تغير في موقف معظم دول الاتحاد الأوروبي حيال التحول السوري، الذي أنهى حكم آل الأسد الاستبدادي.
وبالتالي، فإنها تمثل فرصة هامة للشرع كي يشرح رؤيته لمستقبل سوريا، ويقدم تصوره لمسار عملية الانتقال السياسي فيها، خاصة أن سوريا بحاجة إلى جمْع الدول للوقوف إلى جانبها لمواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها. إضافة إلى سعيها لحشد دولي لوقف الاعتداءات والتوغلات الإسرائيلية المتكررة، التي تسعى إلى تفتيتها وزعزعة أمنها واستقرارها.
الواقع هو أنّ فرنسا، التي بات دورها هامشيًا في أزمات منطقة الشرق الأوسط، تريد العودة إلى الانخراط فيها من البوابة السورية واللبنانية، واستئناف نفوذها ودورها التاريخي، خاصة أنها تحتفظ ببعض أوراق النفوذ في المنطقة، لذلك سارعت إلى احتضان المؤتمر الدولي حول سوريا، الذي عقد في 13 فبراير/ شباط الماضي، بمشاركة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، وتبذل جهودًا من أجل رفع العقوبات عن سوريا، وذلك في إطار سعيها لأن تكون الراعي الدولي الأوروبي لعملية الانتقال في سوريا.
تستند فرنسا في عودتها إلى الملف السوري، إلى الدعم الذي أظهرته لتطلعات الشعب السوري منذ بداية ثورة 2011، حيث تبنّت موقفًا مساندًا للمعارضة ضد نظام الأسد البائد، وانخرطت في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، وتعاملت بإيجابية مع التغير السوري، من أجل إبعاد روسيا وإيران عن الساحة السورية، وكل ما قد يتسبب في إحداث فوضى خلال عملية الانتقال السياسي فيها.
كما أن منظمات حقوقية فرنسية وسورية استثمرت قوانين الاختصاص القضائي العالمي، والمبدأ الجنائي الفرنسي، في رفع قضايا لمحاكمة مجرمين من نظام الأسد، لأن تلك القوانين تسمح بمحاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية حتى لو ارتكبت خارج فرنسا وضد أجانب، شرط وجود صلة بفرنسا، مثل حمل الضحايا الجنسية الفرنسية.
إعلانوقد أصدر قضاة فرنسيون في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 مذكرات توقيف دولية بحق ثلاثة من كبار مسؤولي أجهزة استخبارات نظام الأسد، هم: علي مملوك (مدير المخابرات العامة)، وجميل حسن (مدير المخابرات الجوية آنذاك) وعبد السلام محمود (مسؤول في فرع التحقيق بمطار المزة).
ثم أصدر القضاء الفرنسي مذكرة اعتقال ثانية في 20 يناير/ كانون الثاني الماضي بحق بشار الأسد. وسبق أن أصدر قضاة فرنسيون في نوفمبر/ كانون الأول 2023، أول مذكرة اعتقال بحقه لاتهامه بالتواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
أراد الرئيس ماكرون من زيارة الشرع إلى باريس إظهار التزام فرنسا بدعم إعادة "بناء سوريا جديدة حرة ومستقرة وذات سيادة كاملة تحترم جميع أطياف المجتمع السوري دون تمييز"، لكن تركيزه انصب على القيام بمزيد من الخطوات باتجاه توسيع دائرة تمثيل الأقليات في مفاصل الحكم والدولة، وإيقاف الانتهاكات والتجاوزات التي حصلت مؤخرًا في الساحل السوري، إلى جانب ملف المقاتلين الأجانب في سوريا، وضرورة إبعادهم عن قيادة الجيش الجديد.
إضافة لضرورة انخراط سوريا في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة، وضرورة دمج حلفائه في قوات سوريا الديمقراطية في العملية الانتقالية، فضلًا عن أنه لم يخفِ مطالبه بأن تبقى سوريا بعيدًا عن نفوذ النظامين: الروسي والإيراني، ومنع سوريا من أن تتحول مرة أخرى منصة للمليشيات الإيرانية لزعزعة استقرار المنطقة. ما يعني منع وصول الأسلحة إلى حزب الله اللبناني، منعًا لأي تهديد للداخل اللبناني، ولأمن إسرائيل.
غير أنّ القضايا التي تهم فرنسا لا تنحصر بالوضع الداخلي، وما يتعلق بعملية الانتقال السياسي، ومشاركة الأقليات وحقوق المرأة، بل تتمحور حول قضايا إقليمية ودولية أهمها:
استقرار المنطقة، وخاصة الوضع في لبنان المجاور، مع التركيز على ترسيم الحدود البرية والبحرية بين سوريا ولبنان، ووضع اللاجئين السوريين فيه. ملف مكافحة الإرهاب ومنع ظهور تنظيم الدولة، وتراه باريس تحديًا مشتركًا للمجتمع الدولي. إضافة إلى بحث مصير معتقلي التنظيم الفرنسيين وعوائلهم في السجون التي تشرف عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد). وضع الكيانات والمجموعات الكردية التي تدعمها فرنسا، ومناقشة مصير الاتفاق الذي وقع في العاشر من مارس/ آذار الماضي بين الرئيس الشرع وقائد قسد مظلوم عبدي، بشأن إدماج قسد في الجسم السوري الجديد. مسألة عودة اللاجئين السوريين المتواجدين في مختلف البلدان الأوروبية. إعلانليس جديدًا القول إن ما يهم الدول هو مصالحها، وعليه فإن فرنسا لديها مصالح اقتصادية في سوريا، وذلك في ظل مرحلة إعادة الإعمار المقبلة عليها، وتريد الشركات الفرنسية أن يكون لها نصيبها، ولعل باكورة الحصة الفرنسية تجسدت في العقد الذي وقعته "الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية" السورية مع شركة "سي إم إيه سي جي إم" الفرنسية، ومدته 30 عامًا، ويتضمن قيام الشركة الفرنسية بتطوير وتشغيل ميناء اللاذقية بقيمة 230 مليون يورو، تضخ الشركة خلال العام الأول مبلغ 30 مليون يورو، فيما تضخ في الأعوام الأربعة التي تليه مبلغ 200 مليون يورو، على أن تقوم بإنشاء رصيف الميناء بطول كيلو ونصف الكيلومتر وبعمق 17 مترًا.
ولعل توقيع اتفاق بهذا الحجم مع شركة فرنسية، يؤكد موقف فرنسا الداعم لاستقرار سوريا. لكن ضخ الاستثمارات الفرنسية في مختلف القطاعات الاقتصادية يتطلب رفع العقوبات المفروضة عليها، وخاصة العقوبات الأميركية على سوريا، التي تشكل أكبر عقبة أمام تعافي البلاد وتحسين شروط عيش السوريين، فضلًا عن أنّها تعيق ملايين اللاجئين السوريين الذين ينتظرون توفير بيئة ملائمة معيشيًا لعودتهم إلى بلادهم، حيث لا تمتلك السلطات الجديدة القدرة على تقديم الخدمات والاحتياجات الضرورية لعموم السوريين، خاصة أن أكثر من 90 في المئة منهم تحت خط الفقر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات اللاجئین السوریین فی سوریا خاصة أن
إقرأ أيضاً:
ماذا تعرف عن الكتب البيضاء التي حوت خطط الصين للأيام السوداء؟
في صيف عام 1998، وبينما كانت الصين تضع قدما راسخة في الاقتصاد العالمي بعد عقدين من الانفتاح، خرجت إلى العلن وثيقة غير معتادة من وزارة الدفاع الصينية بعنوان "الدفاع الوطني الصيني". لم تكن وثيقة تقنية بحتة، بل بيانا سياسيا بلغة جديدة أرادت بكين من خلاله مخاطبة الداخل والخارج معا. جاء هذا التحول بعد أن نجحت إصلاحات الرئيس الصيني، دينغ شياو بينغ، في انتشال البلاد من عزلتها الطويلة، لتتحول من قوة إقليمية حذرة إلى لاعب عالمي يختبر لأول مرة لغة الثقة في مخاطبة الآخرين.
سيفتح هذا الإصدار الباب لسلسة من الإصدارات التي أتت لاحقا، سميت "الكتب البيضاء". فمع النمو الاقتصادي المتسارع للصين، راحت دوائر غربية تطرح أسئلة قلقة حول طبيعة هذا الصعود ومكونه العسكري، ليولد مفهوم "التهديد الصيني" في الفكر الإستراتيجي الغربي. ومن ثمّ؛ أرادت بكين أن تكسر هذه الصورة عبر وثائق رسمية تعلن فيها نيتها، وتُظهر أنها قوة مسؤولة تحافظ على الوضع القائم. كما سعت من خلالها إلى تعزيز الشفافية -ولو جزئيا- وإلى دمج نفسها في النظام الدولي عبر تقديم نظرة عامة عن سياساتها الدفاعية وتطور جيش التحرير الشعبي.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2لماذا لا تستخدم الصين سلاح الجو؟list 2 of 2لماذا يتسابق العالم لتطوير الصاروخ "الصامت"؟end of listفي المقابل، أرادت الصين التعبير للعالم بقدر من الوضوح عن مخاوفها الأمنية والتهديدات التي تعمل على مواجهتها أو إحباطها. وفي الداخل أيضا، أدت هذه الكتب وظيفة تعبوية وطنية، إذ استخدمتها الحكومة لتعميق الوعي الدفاعي لدى المواطنين وتعزيز التماسك الوطني، وتبرير الإنفاق الحكومي المرتفع على المسارات الأمنية.
وفي أجواء ما بعد الحرب الباردة، ومع تنامي الثقة الدولية بإصلاحات دينغ، وجد الغرب في الصين شريكًا اقتصاديًا واعدًا، ففُتحت أمامها الأبواب تدريجيًا نحو المؤسسات الاقتصادية العالمية. وقد بلغت هذه المسيرة ذروتها بانضمام بكين رسميًا إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، وهو حدث مثّل شهادة قبول دولي بالصين كلاعب ملتزم بقواعد السوق العالمية، وفرصة تاريخية لتعزيز اندماجها في النظام الاقتصادي الدولي.
إعلانهذا الانفتاح عزز من تدفقات الاستثمار الأجنبي والتبادل التجاري، لكنه في الوقت نفسه ضاعف من توقعات المجتمع الدولي بشأن شفافية سياساتها، بما في ذلك سياساتها الدفاعية والأمنية، وهو ما جعل الكتب البيضاء أداة مهمة لتبديد المخاوف وبناء صورة القوة الصاعدة المنفتحة على الحوار.
ومع مرور السنوات، تحولت هذه الكتب إلى مرجع لفهم تطور الفكر الأمني الصيني. وفي حين ركزت النسخ الأولى على الدفاع الوطني وإستراتيجية الجيش، جاءت الإصدارات اللاحقة لتعكس صعود الصين وثقتها المتزايدة في عرض مصالحها. أما الإصدار الأخير في مايو/ أيار 2025 فقد شكّل نقطة تحول جذرية، إذ لم يعد الأمن مقصورا على الحدود أو الجيش، بل أصبح مفهوما شاملا يمتد إلى الاقتصاد والتكنولوجيا والمجتمع والاستقرار الأيديولوجي تحت قيادة الحزب المطلقة.
فما الذي تكشفه هذه الوثائق عن الطريقة التي ترى بها بكين العالم، وعن طبيعة التهديدات والفرص التي تحدد سياستها الدفاعية؟ وكيف يمكن قراءة كتاب 2025 في ضوء فهم تطور التفكير الأمني الصيني منذ بدء إصدار هذه الوثائق؟
منذ إصدارها الأول عام 1998، حرصت الصين في كتُبها البيضاء على التأكيد بأن سياستها العسكرية تستند إلى منطق دفاعي مع التعهد بعدم استخدام الأسلحة النووية أولا. عبر هذه السردية، سعت بكين إلى ترسيخ صورة قوة صاعدة ذات نية سلمية وغير ساعية للهيمنة. فهي تذكّر دائما بأنها لم تبدأ حربا قط طيلة تاريخها، وتعهدت بتقليص حجم جيش التحرير الشعبي طواعية، في رسالة تهدف إلى تهدئة المخاوف الإقليمية والدولية من صعودها العسكري.
لكن هذا الطابع الدفاعي لم يبق ثابتا بصورة مطلقة، بل شهد تحولا تدريجيا يعكس توسع المصالح الصينية ونطاق قدراتها. ففي عام 2015، مثّل التحول من مفهوم "دفاع المياه القريبة" إلى "حماية البحار المفتوحة" علامة فارقة في إستراتيجيتها البحرية.
حيثُ لم تعد البحرية الصينية معنية فقط بحماية السواحل، بل أصبحت مكلفة بتأمين الممرات البحرية الإستراتيجية والمصالح الخارجية الممتدة عبر المحيطات. تجلى هذا في بناء أسطول مياه زرقاء، وتكثيف الانتشار في المحيط الهندي، وتنفيذ تدريبات في البحار البعيدة. هذا التوسع الجغرافي يتحدى استمرار بكين في تقديم نفسها بوصفها قوة "دفاعية" بينما تتحرك لحماية مصالحها في نطاق عالمي متزايد.
إلى جانب هذا البعد الجغرافي، شهدت العقيدة العسكرية الصينية تحولا نوعيا في طبيعة الحرب ذاتها. فمنذ عام 2004، انتقلت بؤرة الارتكاز من "كسب الحروب المحلية تحت ظروف التكنولوجيا الحديثة" إلى "كسب الحروب المحلية تحت ظروف المعلوماتية". هذا التحول عمّقته ورقة عام 2019، التي أولت اهتماما بالغا للتقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي ومعلومات الكم والبيانات الضخمة وإنترنت الأشياء والحوسبة السحابية في الميدان العسكري.
كما حددت الوثائق مجالات جديدة للمنافسة الإستراتيجية مثل الفضاء الخارجي والفضاء السيبراني، باعتبارها ميادين حاسمة في حروب المستقبل. يعكس هذا الإدراك الصيني أن التفوق العسكري لن يُبنى فقط على قوة التكنولوجيا التقليدية، بل على القدرة على دمج الأنظمة المعلوماتية في كل مستويات القتال والدعم، مما يضع الصين على مسار واضح نحو تحقيق "حلم الجيش القوي" بحلول منتصف القرن الـ21.
مهما تتعدد وتتعقد المعطيات التي تحكم صياغة العقيدة الأمنية للصين؛ ثمة خط أحمر في قلب هذه المنظومة لا يغادر مكانه رغم تعاقب الأعوام وتباين الأولويات، لا يقبل المساومة ولا التبديل، هو تايوان.
إعلانفمنذ مطلع الألفية، كررت الكتب البيضاء أن قوى الانفصال التايوانية تمثل التهديد الأخطر للعلاقات السلمية عبر المضيق. وفي وثيقة عام 2010، طُرح توحيد المضيق بوصفه "مهمة نهائية"، مع فتح باب المشاورات المتكافئة وبحث آلية أمنية لبناء الثقة. لكن الخطاب ازداد حدة في ورقة عام 2019، حيث وُصفت قوى استقلال تايوان بأنها "أخطر تهديد فوري للسلام"، مع تعهد صريح بأن بكين ستتخذ كل الإجراءات الضرورية لمنع الانفصال والتصدي لأي تدخل خارجي.
هذا الاهتمام الآخذ في التصاعد بمسألة تايوان، يرجع بالأساس لاعتبار نزاع السيادة على الجزيرة ليس مجرد نزاع حدودي اعتيادي فحسب، بل المعركة الأكثر رمزية لمحاولة الصين الانعتاق من الطوق الأميركي المفروض على حدودها البحرية عبر سلسلة من القواعد والتحالفات.
بيد أن أولويات الأمن القومي الصيني لم تقف عند حدود مضيق وجزيرة تايوان، بل توسعت لتشمل حماية الحقوق البحرية والمصالح الخارجية المتنامية. حيث شددت ورقة عام 2013 على دور الجيش في حماية المصالح البحرية، بما في ذلك إنفاذ القانون البحري واستغلال الموارد البحرية. وعمّقت وثيقة 2015 هذا النهج بالدعوة إلى التخلي عن "العقلية البرية" وبناء قوة بحرية حديثة قادرة على حماية السيادة وحقوق الملاحة وخطوط الاتصال البحرية (SLOCs) والمصالح الاقتصادية بالخارج.
هذا التوجه تُرجم عمليا بإنشاء "قاعدة دعم جيش التحرير الشعبي الصيني" في جيبوتي، وهي قاعدة عسكرية تابعة للبحرية الصينية، عززت قدرات الصين على إبراز القوة في القرن الأفريقي وسواحل المحيط الهندي، وهي أول قواعد البحرية الصينية وراء البحار.
شكّل الكتاب الأبيض الصيني لعام 2025 نقطة تحول مفصلية في الفكر الأمني الصيني، إذ يُعد أول وثيقة رسمية تركز بالكامل على تقديم مفهوم "الأمن القومي في العصر الجديد"، بصورة تعكس ترسيخ مقاربة "الأمن القومي الشامل" التي طرحها شي جين بينغ عام 2014، والتي تستند إلى فلسفة شمولية تربط بين الأمن الداخلي والخارجي، القوة التقليدية وغير التقليدية، أمن الدولة وأمن الشعب، وأخيرا بين السياسة والاقتصاد والتنمية والأمن. إنها مقاربة توسع مفهوم الأمن ليغطي كل مفاصل الدولة والمجتمع، ويبتلع كل مناشط الحياة.
وفي قلب تلك المقاربة يقف "الأمن السياسي" بوصفه مهمة أساسية وشريان حياة للأمن القومي، فالحفاظ على سيطرة الحزب الشيوعي والنظام الاشتراكي لم يعد في هذه الحالة مجرد سجال سياسي، بل غدا "ركيزة أمنية عليا"، يُنظر إلى أي تهديد لها باعتباره خطرا وجوديا على تماسك الدولة.
من هنا، توسعت أدوات الرقابة والسيطرة لتشمل قطاعات كانت تُعد سابقا خارج نطاق الأمن القومي، مثل التكنولوجيا والتمويل ومنصات التواصل وسلامة الغذاء والدواء. هذه النقلة تمثل تحول الصين نحو نموذج أمني مركزه الحزب، وتطمس فيه الحدود بين الحوكمة اليومية والدفاع عن الدولة.
وبصورة واضحة؛ يؤكد الكتاب على العلاقة العضوية بين التنمية والأمن، مع إعادة ترتيب الأولويات، فلم تعد التنمية تُنتج الأمن، بل بات الأمن شرطا مسبقا للتنمية، وأصبح الاستقرار الاقتصادي والاكتفاء الذاتي التكنولوجي من متطلبات الأمن القومي، وليس مجرد أدوات لخدمة النمو.
وتعزز هذا التصور بصورة مطردة تحت وطأة الضغوط التي فرضها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، منذ عودته إلى السلطة، عبر فرض رسوم جمركية وسياسات عزل تهدد مكانة الصين في سلاسل الإمداد العالمية.
في هذا السياق الدولي المتوتر، طُرحت بكين "مبادرة الأمن العالمي" (GSI) لتكون إطارا بديلا للأمن الدولي، يناهض ما تعتبره "عقلية الحرب الباردة" التي تقودها الولايات المتحدة. تدعو المبادرة إلى أمن مشترك وشامل وتعاوني ومستدام، يقوم على احترام السيادة وتسوية النزاعات سلميا. بهذا، تسعى الصين إلى إعادة صياغة قواعد اللعبة الأمنية الدولية وفق رؤيتها، دون التزام صارم بتبنّي النموذج الغربي السائد.
إعلانبهذا المنظور؛ لا يقدم كتاب 2025 تصورا متطورا للأمن الصيني فحسب، بل يعكس نضجا إستراتيجيا في كيفية فهم الصين لعالم يشهد انزياحات كبرى. وبذلك يتحول الأمن القومي من مظلة لحماية الدولة إلى عدسة لفهم السياسة الصينية في الداخل والخارج، ويصبح تتبع هذه الوثائق الرسمية سبيلا لفهم طريقة تفكير بكين في عالم ما بعد القطبية الأميركية.
هندسة الهيمنة: جيش بمقاييس الطموح الصيني"يجب أن نبني جيشا يطيع أوامر الحزب، ويستطيع خوض الحروب والانتصار فيها، ويتحلى بالانضباط الرفيع"
بهذه العبارة الحاسمة التي أطلقها شي جين بينغ في أول خطاب له بصفته رئيسا للجنة العسكرية المركزية عام 2012، رسمت القيادة الصينية مسارا طويل الأمد لإعادة بناء جيش التحرير الشعبي ليصبح قوة عالمية حديثة. بدءا من تحديث العقيدة والمبادئ، إلى عملية هندسة هيكلية وتنظيمية عميقة، استهدفت تحويل الجيش من كتلة ضخمة تقليدية إلى آلة قتالية مرنة وفعّالة، قادرة على العمل في بيئة قتال معقدة، متعددة المجالات، وعالية التقنية.
وقد فصّلت الورقة البيضاء لعام 2019 هذه الإصلاحات، التي تُعد الأوسع منذ عقود، وركّزت على إعادة هيكلة القيادة وتعزيز الكفاءة القتالية. شملت الإصلاحات إعادة تنظيم الأجهزة الوظيفية للجنة العسكرية المركزية، وإنشاء هيئات جديدة أبرزها "قوات الدعم الإستراتيجي (PLASSF)"، وتحويل "قوة المدفعية الثانية" إلى "قوة الصواريخ لجيش التحرير الشعبي (PLARF)"، إضافة إلى "تأسيس قوة الدعم اللوجستي المشترك (PLAJLSF)". كان الهدف من كل ذلك محددا، هو "تعزيز القيادة المركزية وتحسين نظم القيادة والسيطرة العملياتية المشتركة"، بما يواكب طبيعة الحروب الحديثة.
وعلى مستوى البنية البشرية والتنظيمية، جرى تقليص عدد القوات، حيث خُفضت القوة العاملة بنحو 300 ألف جندي لتستقر عند مليوني جندي، مع إعادة تشكيل الجيوش الجماعية، وتطبيق نموذج "الفيلق – اللواء – الكتيبة" بدلا من النموذج التقليدي واسع النطاق. كما جرى تعزيز أنواع جديدة من القوات القتالية، بما يجعل الجيش أكثر مرونة وفاعلية في بيئة قتال عالية الكثافة المعلوماتية.
وفي سياق أوسع، حددت الصين أهدافا بعيدة الأمد لتحديث جيشها، تُعرف بعنوان "حلم الجيش القوي" التي طرحها شي جين بينغ، وتتضمن: تحقيق الميكنة العسكرية بحلول عام 2020، والوصول إلى التحديث الكامل بحلول عام 2035، وبناء جيش عالمي المستوى بحلول عام 2049 بحلول الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية.
ولتحقيق هذه الرؤية، تستثمر بكين بكثافة في البحث والتطوير، مع تركيز خاص على الصواريخ النووية متوسطة وبعيدة المدى، والقدرات غير المتماثلة، والاستجابة السريعة، والحرب المعلوماتية، والدفاع السيبراني.
أما من حيث الإنفاق الدفاعي، فتؤكد الكتب البيضاء أن نفقات الصين معقولة ومتناسبة مع نموها الاقتصادي، مشيرة إلى أنها لم تتجاوز 2% من الناتج المحلي الإجمالي خلال العقود الثلاثة الماضية. وتوضح وثيقة 2019 أن الزيادة في الإنفاق تُوجه لتحسين رفاهية الجنود، وتطوير المعدات، وتعميق الإصلاح، وتعزيز التدريب القتالي.
لكن رغم هذه التأكيدات، يظل مجال الإنفاق العسكري نقطة خلاف دائمة مع الغرب، حيث يشير معارضو السياسة الصينية في الساحة الدولية إلى غياب الشفافية في تفاصيل الميزانيات العسكرية وعمليات الاستحواذ على الأسلحة.
هذا التباين بين الخطاب الرسمي والشكوك الدولية يعزز من الاعتقاد بأن الكتب البيضاء الصينية أدوات إستراتيجية للرسائل أكثر من كونها تقارير مُخصصة للإفصاح الكامل، وتهدف بالدرجة الأولى إلى تشكيل تصورات الخارج عن نية الصين وتوجهاتها العسكرية.
وفي ظل عالم يزداد اضطرابا، وتتفكك فيه القواعد القديمة التي حكمت النظام الدولي لعقود، تواصل بكين بلا هوادة تعزيز ما تسميه "أساس الأمن القومي الشامل"، وهو المفهوم الذي لا يقتصر على تحصين الحدود أو تحديث القدرات العسكرية، بل يمتد ليشمل كل مفصل من مفاصل الدولة، من الاقتصاد إلى التكنولوجيا، ومن الأمن الغذائي إلى الأمن الأيديولوجي. في هذا التصور، لا تُترك أي جبهة دون تحصين، ولا يُترك الجيش دون دور يتجاوز الحماية إلى إعادة هندسة البيئة الإستراتيجية المحيطة بالصين.
فالمسألة لم تعد مجرد تحديث لقوة عسكرية تقليدية، بل بناء تدريجيا لذراع إستراتيجية قادرة على الحسم عند المنعطفات الكبرى، حين تتصاعد التوترات وتُختبر التوازنات. لقد بدأت الصين فعليا في تأمين حاضرها، لكنها تُعد جيشها وتُعيد صقله من أجل لحظة قادمة لم تحن بعد، لكنها حتمية في منطق القوة الصاعدة، لحظة قد تُعاد فيها كتابة خرائط النفوذ، ويُعاد فيها تعريف من يمتلك الحق في صياغة قواعد النظام العالمي القادم، ومن يفرض شروط السلام أو الحرب.
إعلان