يعد كتاب "السياسة والحكم في النُّظم التسلطية" لميلان دبليو سفوليك من الأعمال الأكاديمية البارزة التي أسهمت في تطوير حقل دراسات السلطوية، وذلك من خلال تقديمه إطارا نظريا تحليليا شاملا لفهم طبيعة الحكم السلطوي وآليات عمله الداخلية والخارجية، وقد صدر الكتاب عام 2012 باللغة الإنجليزية، ونقلته إلى العربية الأستاذة عومرية سلطاني بترجمة علمية دقيقة صدرت حديثا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

يرتكز سفوليك في أطروحته الأساسية على أن السياسة في الأنظمة السلطوية تدور حول صراعين متوازيين: أولهما بين الحاكم والمحكومين، وهو ما يسميه بـ"مشكلة السيطرة التسلطية"، وثانيهما بين الحاكم والنخب التي تشاركه السلطة، وسماها بـ"مشكلة التقاسم التسلطي للسلطة". ويرى المؤلف أن هذين الصراعين يشكلان جوهر السياسة السلطوية، وأن فهم آليات حلهما يفضي إلى تفسير بنية النظام واستقراره وتحولاته.

وصدرت عن "الشبكة العربية للأبحاث والنشر" ترجمة كتاب "السياسة والحكم في النظم التسلّطية" لميلان دبليو سفوليك، في 320 صفحة، وقامت بالترجمة الأستاذة عومرية سلطاني. وصارت متوفرة في مكتبتي الشبكة العربية في بيروت واسطنبول. pic.twitter.com/UNNvmp2mYN

— الشبكة العربية (@NetworkArab) April 27, 2025

صراعات الأنظمة السلطوية

وتتعلق "مشكلة السيطرة التسلطية" بطريقة فرض النظام لسلطته على المجتمع وضبط الجماهير، في حين تتعلق مشكلة "التقاسم التسلطي للسلطات" بتوازن القوى داخل النخبة الحاكمة، وطريقة إدارة الصراعات الكامنة فيما بينها.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2مؤتمر الدوحة يسأل: هل الاستشراق الجديد امتداد أم قطيعة؟list 2 of 2"مؤسسة التصوف".. كتاب جديد يضيء الوجه الاجتماعي والاقتصادي للمتصوفين الإسلاميينend of list إعلان

وفيما يخص مشكلة السيطرة التسلطية يرى سفوليك أن الحاكم المتسلط يلجأ إلى أداتين أساسيتين لمواجهة التهديدات المنبعثة من القاعدة الشعبية، وهما: القمع والاستمالة، حيث يمثل القمع الاستخدام المباشر للعنف، أو التهديد به، لإسكات المعارضة وتحييد التهديدات المجتمعية، ويشمل هذا القمع طيفا واسعا من الممارسات، تبدأ بالرقابة وتنتهي بالتصفيات الجسدية، في حين تقوم الاستمالة على إدماج النخب والشرائح الاجتماعية في بنية النظام، سواء أكان ذلك من خلال الامتيازات المادية أو المناصب السياسية أو خلق مؤسسات تمثيلية شكلية، وتُستخدم هذه الأداة لتفكيك الحركات المعارضة واستباق اندلاع التوترات، غير أن كلفتها الاقتصادية والسياسية قد تكون باهظة، كما أنها قد تفضي إلى إضعاف قبضة النظام على المدى البعيد.

وفيما يتعلق بالمشكلة الثانية "مشكلة التقاسم التسلطي السلطة"، يركز سفوليك على أن النُّظم التسلطية لا تواجه فقط تهديدات من المجتمع، بل من داخلها أيضا، خاصة من النخب التي يتقاسم معها الحاكم السلطة، وفي ظل غياب سلطة محايدة تضمن الالتزام بالاتفاقات الداخلية، تصبح الانقلابات والعنف وسيلتين حاكمتين لحل النزاعات داخل النخبة. وللتحكم في هذه المعضلة، تتبع الأنظمة التسلطية 3 إستراتيجيات رئيسة:

أولا: مراكمة السلطة الشخصية، وهي محاولة الزعيم المركزي تقليص نفوذ شركائه تدريجيا، واحتكار أدوات القمع والقرار السياسي، وتعزز هذه الصيغة استقرار النظام على المدى القصير، غير أنها تجعله هشا ومفرط الاعتماد على شخصية الحاكم، ومن أبرز الأمثلة على هذه الإستراتيجية: حافظ الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق. ثانيا: إرساء مؤسسات حاكمة شكلية أو جزئية تسمح بدرجات من التمثيل المؤسسي للنخبة دون تهديد لهيمنة الحاكم، وهي إستراتيجية تتيح توزيعا محدودا للسلطة يقي من تفجر الصراعات، كما في تجربة الحزب الشيوعي الصيني أو الحزب الثوري المؤسساتي في المكسيك. ثالثا: إدارة العلاقة مع النخب من خلال التهديد المتبادل، أي عن طريق التوازن الدقيق بين قدرة الزعيم على قمع النخب، وقدرة النخب على الإطاحة به، وهذا ما يفرض حالة من الردع المتبادل تحفظ استقرار النظام. إعلان

ما يميز رؤية الكاتب للنظم التسلطية رفضه للتصنيفات السائدة التي تعتمد على نماذج مثالية للنظم التسلطية، من مثل النظام العسكري، أو نظام الحزب الواحد، أو النظام الشخصاني، حيث يرى سفوليك أن مثل هذه التصنيفات البسيطة تتجاهل الطبيعة المتداخلة المعقدة للأنظمة السلطوية، إذ قد يجمع النظام الواحد في الغالب بين سمات متعددة، فمثلا، النظام السوري في عهد حافظ الأسد وابنه بشار، هو نظام عسكري، ونظام حزب واحد، ونظام شخصاني في آن معا.

ما بواعث السياسة في الدكتاتوريات؟ يحاج ميلان دبليو سفوليك بأن جل النظم التسلطية عليها أن تحلّ صراعين أساسيين
أولهما أنّ الدكتاتوريين يواجهون تهديدات من الجماهير التي يحكمون وتلك مشكلة السيطرة التسلطية. وثانيهما منفصل عن الأول وينشأ من النخب التي يحكم معها الدكتاتوريون#صدر_حديثا pic.twitter.com/luh3PlF5vt

— الشبكة العربية (@NetworkArab) May 5, 2025

مقاربة تحليلية

وسعيا من سفوليك للتغلب على محدودية النماذج النمطية، يقترح مقاربة تحليلية تعتمد على 4 معايير يمكن قياسها كميا:

درجة تدخل الجيش في السياسة. طبيعة القيود المفروضة على الأحزاب السياسية. طريقة اختيار السلطة التشريعية. طريقة اختيار السلطة التنفيذية.

ومن القضايا اللافتة التي ناقشها سفوليك في هذا السياق العلاقة بين السلطوية والديمقراطية، حيث يرفض النظر إليهما على أنهما طرفا نقيض على سلسلة أو طيف واحد، فهو يؤكد أن الفرق بين النظامين ليس فرق درجة، بل فرقا نوعيا، يتمثل أساسا في غياب سلطة محايدة تفرض احترام القواعد المتفق عليها، وتكريس مبدأ العنف بوصفه أداة سياسية مشروعة في السلطوية.

ويرى سفوليك أنه يمكن -من خلال هذه المعايير الأربعة- تصنيف النُّظم السلطوية بدقة أكبر، حيث يتم وضع كل نظام على سلسلة متصلة أو طيف تحليلي يتراوح بين درجة أدنى وأعلى في كل معيار من هذه المعايير. ويستند هذا التحليل إلى قاعدة بيانات واسعة شملت كل نظام سلطوي استمر ليوم واحد على الأقل بين عامي 1946 و2008.

إعلان

ويبين سفوليك من خلال استخدامه نظرية الألعاب أو نظرية اللعبة -وهي فرع في التحليل الرياضي، له تطبيقات في العلوم الاجتماعية وعلم السياسة والاقتصاد، يدرس طريقة اتخاذ القرارات في المواقف التي يكون فيها عدد من الأطراف يتفاعلون معا ويحاول كل منهم تعظيم مكاسبه مع توقع تصرفات الآخرين، كيف يتخذ الفاعلون السياسيون في النظم السلطوية قراراتهم بناء على توقعاتهم لسلوك الآخرين، في ظل غياب سلطة محايدة تضمن تنفيذ الاتفاقات، ويصبح العنف في هذه الحالة الحكم النهائي والمرجع لحسم النزاعات، الأمر الذي يضفي على السياسة السلطوية طابعا هشا وعنيفا.

يعتمد سفوليك في تحليله على أدوات نظرية الألعاب لفهم الخيارات الإستراتيجية للحاكم والنخبة والمعارضة في بيئة لا يحكمها قانون مستقل أو قواعد مؤسسية راسخة، بل تهديد دائم باستخدام العنف، وتظهر تحليلاته أن الطريقة التي يعالج بها النظام هاتين المعضلتين، السيطرة والتقاسم، تحدد شكل الحكم السلطوي، ودرجة استقراره، وإمكانية تحوله أو انهياره.

في ضوء الثورات التي اجتاحت العالم العربي يعتبر المؤلف أن سقوط رأس النظام لا يعني بالضرورة انهيار النظام السلطوي بأكمله (رويترز) النُّظم السلطوية ومآلاتها

ويستعرض سفوليك عدة سيناريوهات لتفاعل هذه التوترات:

في حين ينجح الزعيم في مراكمة سلطاته إلى الحد الذي لا تملك فيه النخب القدرة على مقاومته، يتحول النظام إلى أوتوقراطية شخصوية، كما حدث في حالة صدام حسين بالعراق، أو حافظ الأسد في سوريا.

وفي حال الوصول إلى تسوية مؤسسية بين الزعيم والنخب، فإن النظام يصبح أكثر استقرارا، كما في الصين المعاصرة أو المكسيك في عهد الحزب الثوري المؤسسي.

وقد أسهم هذا الإطار النظري في تفسير تنوع النُّظم السلطوية ومآلاتها، كما وفر أدوات تحليلية لفهم طرائق انهيار بعضها وأسباب ذلك، وطرائق وأسباب بقاء بعضها الآخر، ويؤكد سفوليك أن بناء مؤسسات داخل النظام السلطوي لا يعكس بالضرورة نية للتحول الديمقراطي، بل قد يكون آلية لإدارة الصراعات الداخلية وتحقيق الاستقرار دون التنازل عن احتكار السلطة.

إعلان

وفي ضوء الثورات التي اجتاحت العالم العربي عام 2011، يسلط المؤلف الضوء على مسألة في غاية من الأهمية، ينبغي التنبه لها وهي تأثير الماضي السلطوي الطويل على فرص التحول الديمقراطي، ويوضح أن مؤسسات الحكم السلطوي تخلف إرثا ثقيلا من الممارسات والقيود والهياكل التي لا تزول بزوال الحاكم فقط، لذا فإن سقوط رأس النظام لا يعني بالضرورة انهيار النظام السلطوي بأكمله، وهو ما تجسد في تجارب مثل مصر وتونس بعد الربيع العربي، حيث أعاقت القوى المتجذرة في الدولة إمكانية الانتقال السلس إلى الديمقراطية.

ويرى سفوليك أن ثورات الربيع العربي لا يمكن فهمها فقط بوصفها تعبيرا عن إرادة شعبية تسعى للتغيير، بل ينبغي تحليلها أيضا بعدّها اختبارا حاسما لبنية الأنظمة الداخلية السلطوية ذاتها، فكل نظام سلطوي واجه هذه الانتفاضات كشف عن مدى قدرته المؤسسية على مقاومة الصدمات السياسية، وعلى هذا يعلل سفوليك تباين نتائج الثورات بين الدول -من انهيار سريع للأنظمة كما في تونس، إلى صمود دام طويلا كما في سوريا– بناء على مدى تماسك المؤسسات السلطوية داخل كل نظام، وليس فقط بمدى حدة المعارضة أو مطالب الجماهير، فالتحول أو الثبات، في هذا المنظور، يعتمد على الترتيبات الداخلية للنظام أكثر من أنه نتيجة مباشرة لغضب شعبي.

وعلى إحكام البنية النظرية التي يقدمها سفوليك في أطروحته، فإن بعض الباحثين في مجال السياسة يشيرون إلى محدودية الكتاب لقصوره عن التفاعل مع العوامل الاقتصادية والاجتماعية، من مثل دور الطبقات، والدين، والاقتصاد السياسي، والحركات الاجتماعية، فضلا عن أن التركيز على النخب ودوائر السلطة قد يغفل ديناميات المقاومة المجتمعية من أسفل.

لكن تبقى مساهمة سفوليك بالغة الأهمية، إذ إنها قدمت نموذجا علميا دقيقا لتحليل السلطوية، مدعوما ببيانات تجريبية وشواهد تاريخية، الأمر الذي يجعل هذا العمل مرجعا لا غنى عنه للباحثين في العلوم السياسية والدراسات المقارنة.

إعلان

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات فكر الشبکة العربیة کل نظام من خلال فی الن کما فی

إقرأ أيضاً:

مونيكا ويليم تكتب: مقاربة معضلة السجين .. مهلة ترامب ومأزق التصعيد بين إسرائيل وإيران

في خضم التصعيد المتواصل والمتسارع في الحقيقة بين إسرائيل وإيران، تتعاظم التساؤلات بشأن الدور الأمريكي الموسع في هذه المرحلة المفصلية من الصراع لا سيما بعد توجيه ضربات امريكية بالفعل  لثلاثة مواقع نووية إيرانية ، وذلك في ظل واقع بالغ التعقيد يشير بوضوح إلى أن جميع الفاعلين في هذه الأزمة، بلا استثناء، يقفون أمام مأزق سياسي وعسكري عميق، فالوصول إلى معادلة صفرية أو تحقيق حسم مطلق يبدو أمرًا مستبعدًا، نظراً لتداخل الحسابات وتشابك الأولويات والمخاطر.
 

أشعر إن قرار الولايات المتحدة بإعطاء مهلة أسبوعين دون التحرك الحاسم أو الانسحاب الكامل قد يعيد إلى الأذهان أحد أشهر نماذج game theory ، وهو نموذج “معضلة السجين” (Prisoner’s Dilemma)، الذي يوضح كيف يمكن لفاعلين عقلانيين أن يتخذوا قرارات تؤدي إلى نتائج غير مثالية لكليهما بسبب غياب الثقة المتبادلة.

في هذا النموذج، يتم القبض على سجينين ويُعزل كل منهما عن الآخر، ويُعرض عليهما خيار: إما التعاون (الصمت) أو الخيانة (الاعتراف). إذا تعاون الاثنان، يُعاقبان بشكل خفيف. وإذا خان أحدهما وصمت الآخر، يُعفى الخائن ويُعاقب الآخر بشدة. وإذا خان الاثنان، يُعاقبان معًا بعقوبة متوسطة. النتيجة أن كل منهما، وهو يفكر في مصلحته الفردية، يميل إلى الخيانة، رغم أن التعاون هو الخيار الأفضل جماعيًا.

بتطبيق ذلك على الوضع الأمريكي الإيراني، نجد أن واشنطن لا تثق بأن إيران ستتراجع أو توقف التصعيد، بينما إيران لا تثق بأن أمريكا ستتخلى عن دعم إسرائيل. لذا يميل الطرفان إلى التصعيد أو التلويح به، رغم أن التعاون وليكن المؤقت مثل التهدئة قد يجنّب الجميع الخسائر الأكبر، هذه المفارقة الجوهرية هي ما تعقّد الوصول إلى مخرج سياسي متوازن.

وفي هذا الاطار ، أتصور من الضروري محاولة تفنيد واستنباط الأسباب الرئيسية الدافعة لمهلة الأسبوعين وذلك بالأخذ في الاعتبار هذا المعطي البارز ، حيث يبدو أن الرئيس دونالد ترامب يسعى لأن يُسجله التاريخ كرئيس قوي أحدث تغييرات جذرية، حتى وإن كانت مثيرة للجدل. فهو يرغب في أن يُقارن بالرؤساء الذين اتخذوا قرارات حاسمة غيّرت مجرى التاريخ، مثل الرئيس الأمريكي هاري ترومان الذي أمر بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما لإنهاء الحرب العالمية الثانية.

وفي هذا السياق، لا يتردد ترامب في التفاخر بقراراته الجريئة، وعلى رأسها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس بعد الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في 2018، واعتبارها خطوة تثبت أنه الرئيس الذي لا يخضع للضغوط بل يصنع الوقائع بجرأة. وقد أحدث هذا القرار بالفعل تحولًا رمزيًا وسياسيًا كبيرًا، دون أن يكلّف الولايات المتحدة ثمنًا مباشرًا في حينه على المستوى العسكري أو الأمني، لكن، وبحسابات المنطق الأمريكي الأوسع، خاصة من منظور المؤسسات الأمنية والاستخباراتية، فإن مثل هذه الخطوات لا تخلو من تبعات اقتصادية وأمنية بعيدة المدى. فالتحولات السياسية المفاجئة قد تؤدي إلى توترات إقليمية تتطلب تدخلات أمريكية مكلفة، عبر تعزيز التواجد العسكري.

وعليه، يمكن سرد الدوافع المحتملة التي قد تكون وراء قرار الرئيس دونالد ترامب بمنح إيران مهلة زمنية محددة تمتد لأسبوعين، لاتخاذ قرار نهائي بشأن التصعيد العسكري. وتُظهر هذه الأسباب مزيجًا معقدًا من الحسابات السياسية والعسكرية والدبلوماسية، والتي تتمحور بالاساس في ارتفاع احتمالية الخداع والتضليل الاستراتيجي، حيث انه لا يستبعد أن يكون هذا القرار مجرد خدعة مدروسة، هدفها مفاجأة إيران بعمل عسكري خاطف قبل انقضاء المهلة، فترامب معروف بسلوكه غير المتوقع، لذلك تعمّد استخدام هذه النهج لتعظيم أثر الضربة وتفادي الاستعداد الإيراني.

الأ انه وبعد ساعات من أطلاق الهجمة الامريكية ، فمن الواضح الآن هو أن الرئيس الأمريكي ترامب دفع الولايات المتحدة إلى حرب مع إيران يعترف هو نفسه بأنها قد تتصاعد، في ظل وجود مخاطر تتعلق بثلاثة أمور مجهولة أساسية تواجه أمريكا والعالم.

وعليه،  أن الأمر المجهول الأول هو كيفية الرد الإيراني، وذلك بالنظر إلى أن طهران تمتلك مجموعة من الخيارات، ويرجح في هذا الاطار أن إيران سترغب في الرد هذه المرة بشكل أقوى لمحاولة إعادة بناء قدرتها على الردع، لكن ربما تكون قدرتها على ذلك أكثر محدودية.
أما الأمر المجهول الثاني هو ما إذا كانت الضربات الإسرائيلية والأمريكية قد أنهت فعلاً جهود إيران النووية أم ربما سرعتها.

والخطر الآن هو أن تؤدي الهجمات إلى أن تقرر إيران أنها بحاجة فعلاً إلى أسلحة نووية ، في حين أن الأمر المجهول الثالث هو: هل هذه هي نهاية الصراع أم بدايته؟ فحتى لو تم تدمير قدرة إيران على التخصيب، فمن غير المرجح أن يتم القضاء على الخبرة الفنية لتخصيب اليورانيوم، وهو ما يشير إلى أن الصراع ربما لم ينته بعد.

وبناء علي ما تم تناوله وتفنيده ، سيكون من الضروري التوقف عند تفاصيل الضربة الأمريكية لإيران والتي يمكن توصيفها بأنها تطور متوقع ولكن محسوب، أذ وجّهت الولايات المتحدة ضربة عسكرية ضد إيران، لكنها اختارت السيناريو “الخاطف او الوسط”، والذي لا يعد انتهاكًا للدستور الأمريكي، إذ يندرج ضمن صلاحيات الرئيس تنفيذ عمليات محدودة، ولا يمثل إعلانًا رسميًا للحرب، والذي يعد بدوره صلاحية حصرية للكونجرس، وبالتالي اكتفى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باستهداف دقيق لعدد من المنشآت النووية الإيرانية الرئيسية، مثل نطنز وأصفهان وفوردو، متجنبًا في هذا التصعيد المرحلي توجيه ضربة شاملة واسعة النطاق، سواء منفردًا أو بالشراكة مع إسرائيل، وهو خيار لا يزال مطروحًا ومؤجلاً لحين الضرورة.

وعلي هذا الأساس، يمكن تفسير هذا التغير الاستراتيجي في سياسة الولايات المتحدة من زاويتين ، الأولي، محاولة تحقيق توازن داخلي داخل تيار “أميركا أولاً” (MAGA) الذي يقود السياسة الأمريكية حاليًا، حيث ينقسم هذا التيار بين جناح متشدد يدعو لضرب إيران عسكريًا بشكل حاسم، وجناح آخر أكثر تحفظًا يرى أن التدخل العسكري المباشر ليس في صالح الولايات المتحدة في هذا التوقيت ، بالنظر إلي أن هذا الهجوم قد يشكل مدخلاً لعودة الجيش الأمريكي إلى منطقة الشرق بعد توجه أمريكي سابق لتقليص الوجود العسكري في المنطقة. وقد يؤدي رداً إيرانياً إلى تورط عسكري أمريكي أكبر في الصراع قد يأخذ أشكالاً مختلفة خاصة إذا خرجت الأمور عن السيطرة.

الزاوية الثانية، تهدف الضربة إلى اختبار رد الفعل الإيراني: بحيث هل ستقبل طهران بالشروط الأمريكية وتعود لطاولة المفاوضات من موقع أضعف، وهو سيناريو يُعد بمثابة انتصار ضمني لواشنطن حتي وإن لم يكن محل ترحيب من نتنياهو، أم أن إيران سترد بشكل اكثر قوة عبر استهداف مواقع أو قوات أمريكية في المنطقة، ما قد يُسرّع من تحوّل الموقف الأمريكي إلى إعلان حرب رسمي عبر الكونجرس. 

في المقابل تبدو خيارات إيران في الرد على الضربة الأمريكية شديدة التعقيد ومحفوفة بالمخاطر. فإن أقدمت على الرد المباشر ضد الولايات المتحدة، فإنها بذلك تفتح الباب أمام مواجهة عسكرية شاملة مع قوة عظمى، قد تنتهي بانهيار بنيتها العسكرية والأمنية، أو تدخلها في دوامة طويلة من الفوضى وعدم الاستقرار، على غرار ما شهدته العراق وأفغانستان. أما إذا اختارت التراجع وقبول وقف إطلاق النار دون رد، فإنها ستجد نفسها قد خسرت معظم مكاسبها الاستراتيجية: برنامجها النووي مدمَّر، وقواتها العسكرية منهكة، ونفوذها الإقليمي تراجع بشكل حاد، الأمر الذي يضعف قدرتها على التفاوض لرفع العقوبات المفروضة عليها.

وعلاوة على ذلك، فإن الضربة الأمريكية قد تدفع الجماعات الموالية لإيران في المنطقة إلى الرد، غير أن قدرة هذه الجماعات على الفعل باتت محدودة. فإسرائيل تمكنت من إضعاف كل من حزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة، فيما تراجعت الميليشيات العراقية عن استهداف القواعد الأمريكية نتيجة الضغوط السياسية والأمنية. وحدهم الحوثيون في اليمن قد يحتفظون بالقدرة والإرادة لشن هجمات ضد المصالح الأمريكية، إلا أن تأثيرهم يبقى محدودًا نسبيًا في تغيير موازين القوى الإقليمية.

ختاماً، يبدو أن خيار الضربات الخاطفة جاء لموازنة ضغوط تعرض لها ترامب لمنعه من القيام بأي عمل ضد إيران خشية أن تنجر الولايات المتحدة إلى صراع ممتد لإسقاط القيادة الإيرانية، كما أنه يؤكد ارساء نقاط تركيزه فقط على الخطوات اللازمة لضمان عدم تمكن إيران من تطوير سلاح نووي، لا سيما أن الصراع دخل مرحلة جديدة عنوانها: “جميع الاحتمالات المفتوحة، والتوقع صعب”. ولايزال يعتمد الأمر علي مدي تأثير وطبيعة الرد الايراني.

طباعة شارك إسرائيل وإيران الولايات المتحدة إسرائيل إيران

مقالات مشابهة

  • مقاربة بين صيانة الطرق وصيانة المجتمع.. ندوة علمية بنقابة المهندسين
  • بريطانيا تدعو رعاياها بقطر إلى البقاء في أماكنهم حتى إشعار آخر
  • التقطيع الثقافي للسرد.. مقاربة معرفية جديدة في الخطاب الأدبي الجزائري
  • باكستان والمعادلة المعقدة بين العسكر والحكم المدني
  • لوبوان: 4 أسئلة لفهم أزمة اليورانيوم بين النيجر وشركة أورانو الفرنسية
  • مونيكا ويليم تكتب: مقاربة معضلة السجين .. مهلة ترامب ومأزق التصعيد بين إسرائيل وإيران
  • صراع الهاوية / بقلم هبة عمران طوالبة 
  • لفهم مدى قوة الضربة الأمريكية بإيران.. مسؤول يكشف تفاصيل ما فعلته 6 طائرات شبح
  • ضربة إسرائيل القوية التي وحّدت إيران
  • السياسة .. كديانة يهودية