يعد كتاب "السياسة والحكم في النُّظم التسلطية" لميلان دبليو سفوليك من الأعمال الأكاديمية البارزة التي أسهمت في تطوير حقل دراسات السلطوية، وذلك من خلال تقديمه إطارا نظريا تحليليا شاملا لفهم طبيعة الحكم السلطوي وآليات عمله الداخلية والخارجية، وقد صدر الكتاب عام 2012 باللغة الإنجليزية، ونقلته إلى العربية الأستاذة عومرية سلطاني بترجمة علمية دقيقة صدرت حديثا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

يرتكز سفوليك في أطروحته الأساسية على أن السياسة في الأنظمة السلطوية تدور حول صراعين متوازيين: أولهما بين الحاكم والمحكومين، وهو ما يسميه بـ"مشكلة السيطرة التسلطية"، وثانيهما بين الحاكم والنخب التي تشاركه السلطة، وسماها بـ"مشكلة التقاسم التسلطي للسلطة". ويرى المؤلف أن هذين الصراعين يشكلان جوهر السياسة السلطوية، وأن فهم آليات حلهما يفضي إلى تفسير بنية النظام واستقراره وتحولاته.

وصدرت عن "الشبكة العربية للأبحاث والنشر" ترجمة كتاب "السياسة والحكم في النظم التسلّطية" لميلان دبليو سفوليك، في 320 صفحة، وقامت بالترجمة الأستاذة عومرية سلطاني. وصارت متوفرة في مكتبتي الشبكة العربية في بيروت واسطنبول. pic.twitter.com/UNNvmp2mYN

— الشبكة العربية (@NetworkArab) April 27, 2025

صراعات الأنظمة السلطوية

وتتعلق "مشكلة السيطرة التسلطية" بطريقة فرض النظام لسلطته على المجتمع وضبط الجماهير، في حين تتعلق مشكلة "التقاسم التسلطي للسلطات" بتوازن القوى داخل النخبة الحاكمة، وطريقة إدارة الصراعات الكامنة فيما بينها.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2مؤتمر الدوحة يسأل: هل الاستشراق الجديد امتداد أم قطيعة؟list 2 of 2"مؤسسة التصوف".. كتاب جديد يضيء الوجه الاجتماعي والاقتصادي للمتصوفين الإسلاميينend of list إعلان

وفيما يخص مشكلة السيطرة التسلطية يرى سفوليك أن الحاكم المتسلط يلجأ إلى أداتين أساسيتين لمواجهة التهديدات المنبعثة من القاعدة الشعبية، وهما: القمع والاستمالة، حيث يمثل القمع الاستخدام المباشر للعنف، أو التهديد به، لإسكات المعارضة وتحييد التهديدات المجتمعية، ويشمل هذا القمع طيفا واسعا من الممارسات، تبدأ بالرقابة وتنتهي بالتصفيات الجسدية، في حين تقوم الاستمالة على إدماج النخب والشرائح الاجتماعية في بنية النظام، سواء أكان ذلك من خلال الامتيازات المادية أو المناصب السياسية أو خلق مؤسسات تمثيلية شكلية، وتُستخدم هذه الأداة لتفكيك الحركات المعارضة واستباق اندلاع التوترات، غير أن كلفتها الاقتصادية والسياسية قد تكون باهظة، كما أنها قد تفضي إلى إضعاف قبضة النظام على المدى البعيد.

وفيما يتعلق بالمشكلة الثانية "مشكلة التقاسم التسلطي السلطة"، يركز سفوليك على أن النُّظم التسلطية لا تواجه فقط تهديدات من المجتمع، بل من داخلها أيضا، خاصة من النخب التي يتقاسم معها الحاكم السلطة، وفي ظل غياب سلطة محايدة تضمن الالتزام بالاتفاقات الداخلية، تصبح الانقلابات والعنف وسيلتين حاكمتين لحل النزاعات داخل النخبة. وللتحكم في هذه المعضلة، تتبع الأنظمة التسلطية 3 إستراتيجيات رئيسة:

أولا: مراكمة السلطة الشخصية، وهي محاولة الزعيم المركزي تقليص نفوذ شركائه تدريجيا، واحتكار أدوات القمع والقرار السياسي، وتعزز هذه الصيغة استقرار النظام على المدى القصير، غير أنها تجعله هشا ومفرط الاعتماد على شخصية الحاكم، ومن أبرز الأمثلة على هذه الإستراتيجية: حافظ الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق. ثانيا: إرساء مؤسسات حاكمة شكلية أو جزئية تسمح بدرجات من التمثيل المؤسسي للنخبة دون تهديد لهيمنة الحاكم، وهي إستراتيجية تتيح توزيعا محدودا للسلطة يقي من تفجر الصراعات، كما في تجربة الحزب الشيوعي الصيني أو الحزب الثوري المؤسساتي في المكسيك. ثالثا: إدارة العلاقة مع النخب من خلال التهديد المتبادل، أي عن طريق التوازن الدقيق بين قدرة الزعيم على قمع النخب، وقدرة النخب على الإطاحة به، وهذا ما يفرض حالة من الردع المتبادل تحفظ استقرار النظام. إعلان

ما يميز رؤية الكاتب للنظم التسلطية رفضه للتصنيفات السائدة التي تعتمد على نماذج مثالية للنظم التسلطية، من مثل النظام العسكري، أو نظام الحزب الواحد، أو النظام الشخصاني، حيث يرى سفوليك أن مثل هذه التصنيفات البسيطة تتجاهل الطبيعة المتداخلة المعقدة للأنظمة السلطوية، إذ قد يجمع النظام الواحد في الغالب بين سمات متعددة، فمثلا، النظام السوري في عهد حافظ الأسد وابنه بشار، هو نظام عسكري، ونظام حزب واحد، ونظام شخصاني في آن معا.

ما بواعث السياسة في الدكتاتوريات؟ يحاج ميلان دبليو سفوليك بأن جل النظم التسلطية عليها أن تحلّ صراعين أساسيين
أولهما أنّ الدكتاتوريين يواجهون تهديدات من الجماهير التي يحكمون وتلك مشكلة السيطرة التسلطية. وثانيهما منفصل عن الأول وينشأ من النخب التي يحكم معها الدكتاتوريون#صدر_حديثا pic.twitter.com/luh3PlF5vt

— الشبكة العربية (@NetworkArab) May 5, 2025

مقاربة تحليلية

وسعيا من سفوليك للتغلب على محدودية النماذج النمطية، يقترح مقاربة تحليلية تعتمد على 4 معايير يمكن قياسها كميا:

درجة تدخل الجيش في السياسة. طبيعة القيود المفروضة على الأحزاب السياسية. طريقة اختيار السلطة التشريعية. طريقة اختيار السلطة التنفيذية.

ومن القضايا اللافتة التي ناقشها سفوليك في هذا السياق العلاقة بين السلطوية والديمقراطية، حيث يرفض النظر إليهما على أنهما طرفا نقيض على سلسلة أو طيف واحد، فهو يؤكد أن الفرق بين النظامين ليس فرق درجة، بل فرقا نوعيا، يتمثل أساسا في غياب سلطة محايدة تفرض احترام القواعد المتفق عليها، وتكريس مبدأ العنف بوصفه أداة سياسية مشروعة في السلطوية.

ويرى سفوليك أنه يمكن -من خلال هذه المعايير الأربعة- تصنيف النُّظم السلطوية بدقة أكبر، حيث يتم وضع كل نظام على سلسلة متصلة أو طيف تحليلي يتراوح بين درجة أدنى وأعلى في كل معيار من هذه المعايير. ويستند هذا التحليل إلى قاعدة بيانات واسعة شملت كل نظام سلطوي استمر ليوم واحد على الأقل بين عامي 1946 و2008.

إعلان

ويبين سفوليك من خلال استخدامه نظرية الألعاب أو نظرية اللعبة -وهي فرع في التحليل الرياضي، له تطبيقات في العلوم الاجتماعية وعلم السياسة والاقتصاد، يدرس طريقة اتخاذ القرارات في المواقف التي يكون فيها عدد من الأطراف يتفاعلون معا ويحاول كل منهم تعظيم مكاسبه مع توقع تصرفات الآخرين، كيف يتخذ الفاعلون السياسيون في النظم السلطوية قراراتهم بناء على توقعاتهم لسلوك الآخرين، في ظل غياب سلطة محايدة تضمن تنفيذ الاتفاقات، ويصبح العنف في هذه الحالة الحكم النهائي والمرجع لحسم النزاعات، الأمر الذي يضفي على السياسة السلطوية طابعا هشا وعنيفا.

يعتمد سفوليك في تحليله على أدوات نظرية الألعاب لفهم الخيارات الإستراتيجية للحاكم والنخبة والمعارضة في بيئة لا يحكمها قانون مستقل أو قواعد مؤسسية راسخة، بل تهديد دائم باستخدام العنف، وتظهر تحليلاته أن الطريقة التي يعالج بها النظام هاتين المعضلتين، السيطرة والتقاسم، تحدد شكل الحكم السلطوي، ودرجة استقراره، وإمكانية تحوله أو انهياره.

في ضوء الثورات التي اجتاحت العالم العربي يعتبر المؤلف أن سقوط رأس النظام لا يعني بالضرورة انهيار النظام السلطوي بأكمله (رويترز) النُّظم السلطوية ومآلاتها

ويستعرض سفوليك عدة سيناريوهات لتفاعل هذه التوترات:

في حين ينجح الزعيم في مراكمة سلطاته إلى الحد الذي لا تملك فيه النخب القدرة على مقاومته، يتحول النظام إلى أوتوقراطية شخصوية، كما حدث في حالة صدام حسين بالعراق، أو حافظ الأسد في سوريا.

وفي حال الوصول إلى تسوية مؤسسية بين الزعيم والنخب، فإن النظام يصبح أكثر استقرارا، كما في الصين المعاصرة أو المكسيك في عهد الحزب الثوري المؤسسي.

وقد أسهم هذا الإطار النظري في تفسير تنوع النُّظم السلطوية ومآلاتها، كما وفر أدوات تحليلية لفهم طرائق انهيار بعضها وأسباب ذلك، وطرائق وأسباب بقاء بعضها الآخر، ويؤكد سفوليك أن بناء مؤسسات داخل النظام السلطوي لا يعكس بالضرورة نية للتحول الديمقراطي، بل قد يكون آلية لإدارة الصراعات الداخلية وتحقيق الاستقرار دون التنازل عن احتكار السلطة.

إعلان

وفي ضوء الثورات التي اجتاحت العالم العربي عام 2011، يسلط المؤلف الضوء على مسألة في غاية من الأهمية، ينبغي التنبه لها وهي تأثير الماضي السلطوي الطويل على فرص التحول الديمقراطي، ويوضح أن مؤسسات الحكم السلطوي تخلف إرثا ثقيلا من الممارسات والقيود والهياكل التي لا تزول بزوال الحاكم فقط، لذا فإن سقوط رأس النظام لا يعني بالضرورة انهيار النظام السلطوي بأكمله، وهو ما تجسد في تجارب مثل مصر وتونس بعد الربيع العربي، حيث أعاقت القوى المتجذرة في الدولة إمكانية الانتقال السلس إلى الديمقراطية.

ويرى سفوليك أن ثورات الربيع العربي لا يمكن فهمها فقط بوصفها تعبيرا عن إرادة شعبية تسعى للتغيير، بل ينبغي تحليلها أيضا بعدّها اختبارا حاسما لبنية الأنظمة الداخلية السلطوية ذاتها، فكل نظام سلطوي واجه هذه الانتفاضات كشف عن مدى قدرته المؤسسية على مقاومة الصدمات السياسية، وعلى هذا يعلل سفوليك تباين نتائج الثورات بين الدول -من انهيار سريع للأنظمة كما في تونس، إلى صمود دام طويلا كما في سوريا– بناء على مدى تماسك المؤسسات السلطوية داخل كل نظام، وليس فقط بمدى حدة المعارضة أو مطالب الجماهير، فالتحول أو الثبات، في هذا المنظور، يعتمد على الترتيبات الداخلية للنظام أكثر من أنه نتيجة مباشرة لغضب شعبي.

وعلى إحكام البنية النظرية التي يقدمها سفوليك في أطروحته، فإن بعض الباحثين في مجال السياسة يشيرون إلى محدودية الكتاب لقصوره عن التفاعل مع العوامل الاقتصادية والاجتماعية، من مثل دور الطبقات، والدين، والاقتصاد السياسي، والحركات الاجتماعية، فضلا عن أن التركيز على النخب ودوائر السلطة قد يغفل ديناميات المقاومة المجتمعية من أسفل.

لكن تبقى مساهمة سفوليك بالغة الأهمية، إذ إنها قدمت نموذجا علميا دقيقا لتحليل السلطوية، مدعوما ببيانات تجريبية وشواهد تاريخية، الأمر الذي يجعل هذا العمل مرجعا لا غنى عنه للباحثين في العلوم السياسية والدراسات المقارنة.

إعلان

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات فكر الشبکة العربیة کل نظام من خلال فی الن کما فی

إقرأ أيضاً:

برلمانية: السياسة المصرية الخارجية متوازنة مع كل القوى العالمية

ثمنت النائبة الدكتورة نيفين حمدي، عضو لجنة الشؤون الإفريقية بمجلس النواب، عضو الهيئة البرلمانية لحزب حماة الوطن، الزيارة الرسمية التي أجراها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى العاصمة الروسية موسكو؛  تلبيه لدعوة نظيره الروسي فلاديمير بوتين، مؤكدة أن توقيت الزيارة بالغ الأهمية على المستوى السياسي والاقتصادي والتجاري بين البلدين.

وقالت عضو لجنة الشؤون الإفريقية بمجلس النواب، في بيان لها اليوم، إن حرص الرئيس الروسي على توجيه الدعوة للرئيس السيسي، للمشاركة في الاحتفالات بالذكرى الثمانين لعيد النصر، بحضور عدد من القادة والرؤساء؛ تجسد عمق ومتانة العلاقات المصرية ـ الروسية التاريخية والصديقة، وتؤكد مكانة مصر على الصعيدين الإقليمي والدولي.

الرئيس السيسي لـ بوتين: الشعب المصري يهنئكم بعيد النصر.. وأشكركم على حفاوة الاستقبالمستقبل وطن: مشاركة الرئيس السيسي في احتفالات عيد النصر تأكيد على مكانة مصر الدوليةالرئيس السيسي يتبادل الأحاديث الودية مع عدد من قادة الدول المشاركة باحتفالات عيد النصرالريادة: مشاركة الرئيس السيسي باحتفالات عيد النصر في روسيا يعكس مكانة مصر الدولية

وأكدت عضو الهيئة البرلمانية العليا لحزب حماة الوطن، أن العلاقات المصرية ـ الروسية تاريخية، تتميز بالصداقة والتعاون المثمر على أساس مشترك من الاحترام والتفاهم المتبادلين.

وأشارت إلى توافق الرؤي بين الرئيسين السيسي وبوتين، وحرصهما على دفع التعاون المشترك على المستوى السياسي والاقتصادي والتجاري، وذلك عبر الاستفادة من الإمكانات المتاحة لكليهما، لا سيما في قطاعات “الطاقة، والنقل، والدفاع، والاتصالات”، فضلاً عن وجود العديد من فرص التعاون في المجالات ذات الاهتمام المشترك.

ولفتت النائبة نيفين حمدي، إلى أن زيارة الرئيس السيسي إلى روسيا، بمثابة رسالة قوية تؤكد أن مصر دولة ذات سيادة، تتبنى سياسة خارجية متوازنة مع كل القوى العالمية دون انحياز، وتعمل من أجل تعزيز الاستقرار الدولي، وتحقيق المصالح الوطنية، القائمة على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، لتحقيق السلام العادل للدول.

طباعة شارك الرئيس عبد الفتاح السيسى النائبة الدكتورة نيفين حمدي لجنة الشؤون الإفريقية بمجلس النواب العاصمة الروسية

مقالات مشابهة

  • برلمانية: السياسة المصرية الخارجية متوازنة مع كل القوى العالمية
  • تجربة المجتمعات المحلية في السودان مع التطرف العرقي والصراع الاجتماعي
  • علي جمعة: لا نقرأ السيرة النبوية للبركة فقط.. بل لنحيا بها
  • علي جمعة: السيرة النبوية التطبيق العملي المعصوم للقرآن ومرآة لفهم الواقع
  • بايدن يصف مقاربة ترامب تجاه روسيا بـ"الاسترضاء" في أول مقابلة بعد مغادرته البيت الأبيض
  • ما هي الدول الأوروبية التي تُقدّم أفضل الامتيازات الضريبية للأثرياء؟
  • ستة أسئلة لفهم ما يحدث بين باكستان والهند في كشمير
  • علماء يتوصلون لمعطيات جديدة لفهم أمراض القلب والأوعية الدموية
  • مدرب برشلونة: فخور بفريقي رغم وداع دوري الأبطال والحكم انحاز لـ إنتر ميلان