في عالم تتسارع فيه التغيرات الجيوسياسية وتتشابك فيه الأزمات الإقليمية والدولية، تبرز بعض اللحظات كعلامات فارقة في تشكيل التوازنات الجديدة. 

ومن بين هذه اللحظات، تأتي الزيارة الثانية لـ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية في مستهل جولته الخارجية، لتشكل دلالة رمزية واستراتيجية عميقة تتجاوز الأبعاد البروتوكولية المعتادة.

ففي ظل حرب أوكرانيا، وتداعيات حرب غزة، والتوتر الإيراني الإسرائيلي، اختار ترامب أن يفتتح جولته من الرياض، في خطوة تؤكد أن التحالف الأميركي السعودي يدخل مرحلة جديدة من "الشراكة على قدم المساواة"، وتعيد رسم خارطة النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط.

إعادة تموضع الولايات المتحدة في المنطقة

يرى الدبلوماسي الأميركي السابق ألبرتو فرنانديز أن زيارة ترامب تعكس "اعترافا أميركيا صريحا بالدور القيادي الجديد للمملكة في المنطقة والعالم"، مؤكدًا في حديثه لقناة "سكاي نيوز عربية" أن السعودية لم تعد مجرد شريك إقليمي، بل أصبحت دولة ذات ثقل عالمي في ملفات حيوية تشمل الطاقة، والأمن، والتكنولوجيا، والتسويات الدولية.

ويشير فرنانديز إلى المفارقة اللافتة بين سياسة إدارة الرئيس جو بايدن التي بدأت بحملة تشكيك تجاه المملكة، وانتهت بإعادة تطبيع العلاقات، وبين نهج ترامب القائم على توطيد مباشر للشراكة مع الرياض استنادًا إلى الثقة والتفاهم العميق.

ويضيف: "بالنسبة لترامب، السعودية شريك ثابت في منطقة تشهد اضطرابات غير مسبوقة، في وقت تبقى فيه كل من إسرائيل وإيران في موقع التذبذب وعدم اليقين".

هذه الرؤية تعكس تحولًا كبيرًا في التفكير الأميركي تجاه المنطقة، حيث تخلّت واشنطن عن نهج الإملاءات المباشرة، وانتقلت إلى استراتيجية الاعتماد على شركاء إقليميين يتمتعون بالقدرة والحكمة لإدارة الملفات المعقدة.

رؤية سعودية لعمق التحول الأميركي

الصحفي السعودي جميل الذيابي، رئيس تحرير صحيفة "عكاظ"، يقدم قراءة دقيقة من الداخل السعودي، مؤكدًا أن زيارة ترامب "ليست فقط تاريخية، بل تمثل نقطة انعطاف كبرى في مسار العلاقات السعودية الأميركية".

وأشار إلى أن اختيار الرياض كمحطة أولى للرئيس الأميركي في ولايته الأولى، ثم إعادة انتخابه، وتكرار نفس المسار، يعكس شراكة استراتيجية متجذرة تمتد لأكثر من 80 عامًا، لكنها اليوم تدخل مرحلة جديدة من التكافؤ والنضج.

ويشدد الذيابي على أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية التي تقودها السعودية، إلى جانب سياسة "صفر مشاكل" والانفتاح على الملفات الشائكة مثل إيران وغزة، عززت من موقع المملكة كقوة صاعدة إقليميًا ودوليًا.

ويرى أن بعض الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة باتوا يشكلون عبئًا استراتيجيًا عليها، في إشارة واضحة إلى إسرائيل، مؤكدًا أن السعودية تضع شروطًا صريحة لأي اتفاق تطبيع، وفي مقدمتها حل الدولتين وضمان الحقوق الفلسطينية.

ملفات استراتيجية ساخنة على طاولة الرياض وواشنطن

زيارة ترامب إلى المملكة لا تأتي في إطار بروتوكولي بل تتضمن حزمة من الملفات الحيوية، أبرزها:

1- الملف النووي الإيراني: تلعب السعودية اليوم دورًا مزدوجًا في هذا الملف، بين الضغط السياسي على طهران، والانخراط في مسارات دبلوماسية. وقد أشار الذيابي إلى زيارة وزير الدفاع السعودي إلى طهران، باعتبارها مؤشرا على قدرة المملكة على الجمع بين الحزم والانفتاح.

2- حرب غزة وملف التطبيع: ترامب يسعى، بحسب محللين، إلى إعادة إحياء رؤيته للسلام في الشرق الأوسط القائم على "السلام الاقتصادي"، لكن السعودية ترفض القفز على الحقوق الفلسطينية، وتربط أي تقدم في ملف التطبيع بوقف العدوان والاعتراف بحدود 1967.

3- التحول الاقتصادي والتكنولوجي: بحسب فرنانديز، أصبحت السعودية محورًا اقتصاديًا واستثماريًا عالميًا، وتستعد لاستضافة اتفاقيات كبرى خلال المنتدى الاستثماري في الرياض، مما يعكس دخول العلاقة الثنائية مرحلة جديدة تقوم على الاقتصاد والتكنولوجيا كركيزتين رئيسيتين.

من الدفاع إلى المبادرة

أحد أبرز ملامح التحول الذي تشير إليه هذه الزيارة هو انتقال السعودية من موقع الدفاع إلى دور القيادة والمبادرة.

فولي العهد الأمير محمد بن سلمان أعلن سابقًا أن "الشرق الأوسط سيصبح أوروبا جديدة"، ويبدو أن هذا الطموح بدأ يلقى صدى في مراكز صناعة القرار الأميركية، كما يلاحظ فرنانديز، الذي يؤكد أن "هناك جاذبية متزايدة للنموذج السعودي في واشنطن".

في السياق ذاته، يشير الذيابي إلى أن المملكة لم تعد تتحدث بمنطق المطالب، بل بلغة الشروط، خصوصًا في ملف التطبيع والقضية الفلسطينية، وهو ما يمنحها ثقلاً تفاوضيًا غير مسبوق، ويؤكد مكانتها كقوة إقليمية مستقلة لها مشروعها ورؤيتها.

واختيار الرئيس دونالد ترامب للمملكة العربية السعودية كنقطة انطلاق لجولته الخارجية الثانية لم يكن مجرد خطوة رمزية، بل يعكس توجهًا استراتيجيًا أميركيًا نحو إعادة رسم خريطة التحالفات في الشرق الأوسط.

الرياض، التي كانت تاريخيًا شريكًا استراتيجيًا لواشنطن، تثبت اليوم أنها أصبحت شريكًا عالميًا قادرًا على التأثير في التوازنات الدولية من بوابة الطاقة والأمن والاقتصاد والسياسة.

في عالم يعاد تشكيله من جديد، وفي منطقة تعيش لحظة تحول استثنائية، تأتي زيارة ترامب كعنوان لمرحلة جديدة في العلاقات السعودية الأميركية، تقوم على الثقة المتبادلة، والمصالح المشتركة، والشراكة المتوازنة.

إنها لحظة فارقة، قد تشكل نواة "شرق أوسط جديد" تقوده الرياض بثقة، ويعيد فيه ترامب التموضع الأميركي من قلب التحالف مع أقوى حلفائه في المنطقة.

وفي سياق التفاعلات المتسارعة التي يشهدها المشهد الإقليمي والدولي، وما يصدر من مواقف وتصريحات عن الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس دونالد ترامب، لا سيما تلك المتعلقة بقضايا تمس مصالح الشرق الأوسط ، أكد الدكتور طارق فهمي، على أهمية زيارة الرئيس ترامب إلى منطقة الخليج، والتي بأت اليوم بوصوله للسعودية، وتليها قطر والإمارات، مشيرًا إلى أن "دول الخليج تمتلك أوراق ضغط حقيقية يمكن توظيفها في التعامل مع الإدارة الأميركية، إذا ما أُحسن استغلالها".

وأضاف في تصريحات لـ "صدى البلد"، أن مصر لها مكانة في الاستراتيجية الأمريكية، مشددًا على أن مصر ليست فقط حليفًا إقليميًا، بل دولة محورية في ملفات الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب والتوازنات الجيوسياسية.

وأوضح أن "الرئيس ترامب لم يكتب حتى الآن استراتيجية متكاملة للسياسة الخارجية، ومع ذلك فهو يملك بصفته رئيسًا أدوات تنفيذية وصلاحيات فيدرالية مهمة، ويعلم تمامًا طبيعة الشراكة القائمة مع مصر، ويُدرك جيدًا مع من يتعامل".

ويرى فهمي أن لهذه الزيارة أهمية بالغة من منظور استراتيجي، إذ إنها تُعد فرصة حقيقية لإعادة صياغة التفاهمات السياسية والاقتصادية بين الجانبين، وفتح آفاق جديدة للتعاون في ملفات تتراوح بين الأمن الإقليمي والطاقة والاستثمار.

وأكد فهمي أن هذه الزيارة قد تتيح بناء شراكات قائمة على التوازن والمصالح المتبادلة، بما يعزز من استقرار المنطقة ويعيد رسم معادلات النفوذ فيها بطريقة أكثر عقلانية وتشاركية.

طباعة شارك دونالد ترامب الولايات المتحدة الرئيس الأمريكي السعودية ألبرتو فرنانديز

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: دونالد ترامب الولايات المتحدة الرئيس الأمريكي السعودية الشرق الأوسط دونالد ترامب زیارة ترامب

إقرأ أيضاً:

الملاذ الآمن : من Lipstick Effect إلى الاستثمار في الفضة… كيف تحمي أموالك بزمن التضخم؟

رغم تراجع سعر الأوقية عالميًا بنحو 1% خلال تعاملات الأسبوع الماضي، حافظت أسعار الفضة في السوق المحلية على استقرارها، بحسب تقرير صادر عن مركز «الملاذ الآمن» للأبحاث.


استقرار محلي وتراجع عالمي

في تعاملات السبت، سجل جرام الفضة عيار 800 نحو 51.25 جنيهًا، وعيار 999 حوالي 64 جنيهًا، بينما بلغ عيار 925 نحو 59.25 جنيهًا، أما الجنيه الفضة (عيار 925) فقد وصل إلى 474 جنيهًا.

الملاذ الآمن.. الفضة تحافظ على بريقها خلال 2025 وتزاحم الذهب في المكاسبالفضة تستقر قرب أعلى مستوياتها منذ 2011 وسط ترقب قرارات الفيدرالي الأمريكيالفضة تستعيد بريقها وسط رهانات على خفض الفائدة وتنامي الطلب الصناعي

وعلى الصعيد العالمي، هبطت الفضة إلى 37.93 دولارًا للأوقية، مسجلة انخفاضًا أسبوعيًا بنسبة 0.9%.

من «Lipstick Effect» إلى خيارات استثمارية أذكى


أوضح التقرير أن فترات الركود أو تباطؤ النمو الاقتصادي تكشف عن ظاهرة سلوكية تُعرف اقتصاديًا باسم «Lipstick Effect»، أي ميل المستهلكين إلى إنفاق أموالهم على رفاهيات صغيرة ولحظية – مثل مستحضرات التجميل، الوجبات السريعة، الأزياء الرخيصة أو أحدث الهواتف – بدلًا من الاستثمار طويل الأجل.


ويعود ذلك إلى شعور الأفراد بأن الأصول الكبرى مثل الذهب والعقارات والسيارات أصبحت بعيدة المنال مع ارتفاع الأسعار وتراجع القوة الشرائية، فيلجأ المستهلك إلى ما يمنحه شعورًا لحظيًا بالسعادة، حتى وإن كان هذا السلوك يفاقم من أزماته المالية لاحقًا.


وخلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، ارتفعت مبيعات مستحضرات التجميل بأكثر من 60%، كما زاد الإقبال على الأطعمة السريعة والموضة الرخيصة، في وقت كانت فيه الأسهم والعقارات تحت ضغوط حادة.


الفضة: من ملاذ آمن إلى أداة تحوّط


بينما تمنح النفقات الاستهلاكية الفورية شعورًا لحظيًا بالإشباع، فإنها لا تترك أي أثر مالي إيجابي، على العكس، الاستثمار في الفضة يمثل وسيلة حقيقية للحفاظ على قيمة المال وتنميته، خاصة في فترات التضخم وعدم اليقين.


فالفضة، إلى جانب الذهب، تعد ملاذًا آمنًا وأداة تحوّط فعالة ضد تراجع قيمة العملة، وعلى عكس السلع الاستهلاكية التي تفقد قيمتها فور شرائها، يظل المعدنان النفيسان محتفظين بجزء كبير من قيمتهما على المدى الطويل، مع سهولة تسييلهما وبيعهما في مختلف الأسواق العالمية.


حماية الأموال من التبخر


يحذر التقرير من أن غياب هدف مالي واضح أو خطة استثمارية قد يؤدي إلى تبخر الأموال في كماليات مؤقتة، وفي المقابل، فإن تخصيص جزء من الدخل للاستثمار في الذهب أو الفضة قد يكون الخطوة الأذكى لبناء أمان مالي حقيقي، وتجنب الوقوع في فخ "Lipstick Effect" الذي يحول الإنفاق اللحظي إلى بديل لتراكم الثروة.

طباعة شارك سعر الأوقية عالميًا أسعار الفضة مركز الملاذ الآمن للأبحاث سعر أوقية الفضة اخبار مصر مال واعمال جرام الفضة عيار 800

مقالات مشابهة

  • السعودية.. مجلس الوزراء يوافق على قرار حول تملك الأجانب غير المقيمين لعقارات داخل المملكة
  • الملاذ الآمن : من Lipstick Effect إلى الاستثمار في الفضة… كيف تحمي أموالك بزمن التضخم؟
  • قمة حاسمة في واشنطن.. ترامب يدعو زعماء أوروبيين وزيلينسكي لاجتماع بشأن أوكرانيا
  • السعودية تسمح بتملك الأجانب غير المقيمين لعقارات داخل المملكة
  • مصر وسنغافورة تبحثان تعزيز التعاون ودعم غزة قبل زيارة الرئيس السنغافوري
  • قمة ألاسكا تكلل الجهود السعودية.. المملكة ترسخ دورها في صناعة السلام العالمي
  • "قمة مفصلية".. ترامب يستقبل بوتين في ألاسكا مع ترقب للنتائج
  • قرارات رئاسية حاسمة وتكليفات جديدة من الرئيس السيسي للحكومة .. تفاصيل
  • السعودية.. تركي آل الشيخ بسجال حول نسبة الأمية في المملكة وبعثات الطلاب
  • السعودية.. إعدام مهرب مخدرات في الرياض والداخلية تكشف تفاصيل