د.محمد عسكر يكتب: الذكاء الاصطناعي في التعليم.. ضرورة وطنية وليس خيارا تقنيا
تاريخ النشر: 17th, May 2025 GMT
في عالم يتغيّر بوتيرة متسارعة بفعل الثورة التكنولوجية، لم يعد الذكاء الإصطناعي (AI) مجرد رفاهية أو مجالاً خاصاً بالمبرمجين والمهندسين فقط، بل أصبح جزءاً لا يتجزأ من تفاصيل حياتنا اليومية: من الهواتف الذكية، إلى محركات البحث، إلى أنظمة الرعاية الصحية والمرور والسيارات ذاتية القيادة، ومن تطبيقات الترفيه إلى أنظمة الصحة والتعليم، الذكاء الإصطناعي موجود في كل مكان.
لقد بات من الضروري تهيئة الأجيال القادمة لفهم هذه التكنولوجيا والتعامل معها بوعي وفعالية.
ويبدأ ذلك قطعاً من المدرسة. إن دمج الذكاء الإصطناعي في التعليم لم يعد ترفاً تقنياً، بل ضرورة إستراتيجية تفتح آفاقاً واسعة لتطوير العملية التعليمية وتحقيق العدالة في الوصول إلى المعرفة.
إدخال الذكاء الإصطناعي إلى المناهج الدراسية لا يعني إستبدال المعلمين بالروبوتات، بل يعني تحويل التعليم إلى بيئة ذكية، تفاعلية وشخصية، تعزز قدرات الطالب وتعدّه لمستقبل تتغير فيه المهارات المطلوبة بشكل دائم، والدول التي ستبدأ اليوم في تأهيل أجيالها للتعامل مع هذه التقنية، هي التي ستحجز موقعها في خريطة المستقبل الإقتصادي والمعرفي.
لقد أصبح الذكاء الإصطناعي هو حجر الزاوية في تشكيل إقتصاد المستقبل، وهو القوة المحركة وراء تطور المجتمعات وإبتكار أساليب التعليم الحديثة، ليعزز بذلك التقدم في جميع المجالات ويعيد تعريف طريقة تعلمنا وعملنا في المستقبل. واليوم، لم يعد السؤال هو هل يجب أن ندمج الذكاء الإصطناعي في التعليم؟، بل متى نبدأ؟ وكيف نضمن أن يتم ذلك بفعالية وشمولية؟
تدريس الذكاء الإصطناعي لا يعني بالضرورة تدريب الأطفال على البرمجة المعقدة أو تعليمهم تصميم الروبوتات منذ الصغر. الفكرة الأساسية تكمن في تمكين الطلاب من فهم كيف تعمل الأنظمة الذكية التي يتعاملون معها يومياً، وتعزيز وعيهم الرقمي والتكنولوجى. فعلى سبيل المثال، عندما يتعلم الطالب كيف تحدد منصات مثل "تيك توك" أو "يوتيوب" الفيديوهات المقترحة، يصبح أكثر وعياً بكيفية تشكيل الرأي العام والتأثير على القرارات الفردية. وعندما يناقش كيفية إتخاذ الذكاء الإصطناعي للقرارات في المجال الطبي أو الأمني، يبدأ في تطوير حس نقدي أخلاقي ضروري في هذا العصر.
الأمر لا يتطلب أن يصبح جميع الطلاب مبرمجين، بل أن يمتلكوا فهماً أساسياً لكيفية عمل الأنظمة الذكية، وقدرة على التفكير النقدي، والتفاعل الواعي مع التكنولوجيا. وهو ما يفتح الباب لتنشئة جيل مسؤول، قادر على إتخاذ قرارات مستنيرة في بيئة مشبعة بالخوارزميات والمعلومات. ينبغي أن يبدأ تعليم مفاهيم الذكاء الإصطناعي من المرحلة الابتدائية، بأساليب مبسطة تعتمد على الأنشطة التفاعلية والألعاب التعليمية. ويتدرج هذا التعليم ليشمل في المراحل الإعدادية والثانوية مفاهيم أكثر تعقيداً، مثل تحليل البيانات، وتعلّم الآلة، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي. وفي المرحلة الجامعية، يمكن التخصص بعمق في هذا المجال الحيوي، الذي بات يشكل العمود الفقري للثورة الصناعية الرابعة.
في كثير من الدول المتقدمة، بدأت وزارات التعليم بدمج مفاهيم الذكاء الإصطناعي في المناهج المدرسية، ليس فقط كمادة مستقلة، بل كأداة تعليمية تساعد في تطوير مهارات التفكير النقدي، وحل المشكلات، وفهم العالم الرقمي المحيط بالطالب. وتشير التقارير إلى أن دولاً مثل الصين وسنغافورة وألمانيا بدأت بتطبيق برامج تعليمية مرتبطة بالذكاء الإصطناعي بدءاً من المرحلة الإبتدائية، عبر مفاهيم مبسطة تعتمد على اللعب والملاحظة، وتتدرج تدريجياً لتصل في المرحلة الثانوية إلى مشاريع تطبيقية في التعلم الآلي ومعالجة البيانات.
الوظائف المستقبلية تتطلب مهارات جديدة، والذكاء الإصطناعي يتربع على رأسها. تقرير المنتدى الإقتصادي العالمي لعام 2023 أشار إلى أن الذكاء الإصطناعي سيكون من أكثر المهارات طلباً في سوق العمل خلال العقد القادم. ما يعني أن تأخير دمجة في التعليم قد يؤدي إلى فجوة معرفية ومهارية يصعب سدّها لاحقاً.
صحيح أن هناك تحديات حقيقية: من نقص فى المعلمين المؤهلين والمتخصصين، إلى ضعف البنية التحتية التكنولوجية في بعض المدارس ، إلى جانب الحاجة لتطوير مناهج متكاملة ومحتوى تعليمى يناسب مختلف المراحل العمرية، لكنها ليست مستحيلة الحل. هذه التحديات لا تعني أبداً التراجع، بل تُحث على ضرورة بناء رؤية وطنية شاملة لتعليم الذكاء الإصطناعي، تبدأ من تدريب المعلمين، وتطوير المناهج، وتوفير الأدوات التقنية اللازمة، وصولاً إلى شراكات فاعلة بين قطاع التعليم والقطاعين الخاص والتقني. فالتجارب الدولية الناجحة أثبتت أن التعاون بين القطاع الحكومي، والخاص، والمؤسسات الأكاديمية، قادره على تجاوز هذه العقبات بسرعة وكفاءة. كما أن تأجيل هذا التحديث يعني ببساطة تأخير دخولنا إلى المستقبل، وترك أجيالنا القادمة بلا معرفه تمكنها من التفاعل مع عالمها ودون الأدوات اللازمة للتفاعل الفعال مع عالم سريع التغير يتطلب مهارات وتقنيات متقدمة.
إن مستقبل التعليم لا يُنتظر، بل يُصنع اليوم. ودمج الذكاء الإصطناعي في المناهج ليس رفاهية ولا خياراً تقنياً، بل قراراً وطنياً إستراتيجياً يجب أن يُؤخذ بجرأة وإرادة، لأنه يتعلق بمستقبل أبنائنا، وقدرتهم على الإبداع، والتأثير، والقيادة في عالم يحكمه الذكاء الإصطناعي. فإذا أردنا لأبنائنا أن يكونوا منتجين في المستقبل لا مجرد مستهلكين، علينا أن نزرع فيهم اليوم فهماً عميقاً للتكنولوجيا التي سترسم ملامح عالمهم غداً. تدريس الذكاء الاصطناعي لم يعد خياراً، بل ضرورة تربوية وإقتصادية وثقافية.
فهل نحن مستعدون لصناعة هذا التحول؟ أم سنكتفي بمشاهدة قطار التقدم يمر من أمام مدارسنا دون أن نصعد إليه؟
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الذكاء الاصطناعي التعليم التكنولوجيا الذکاء الإصطناعی فی الذکاء الاصطناعی فی التعلیم لم یعد إلى أن
إقرأ أيضاً:
موتى يعملون بعد رحيلهم.. إلى أين يأخذنا الذكاء الاصطناعي؟
لم يعد الموت نهاية حتمية للصوت، أو المشاعر، أو حتى النصيحة، ففي عالم يتطور بسرعة مذهلة بفضل الذكاء الاصطناعي، قد يعود الجد المتوفى ليحكي لحفيدته كيف يُصلَح صنبور الماء، أو ينصحها بشأن اختيار شريك الحياة.
ويعد ذلك ليس خيالًا علميًا، بل واقع قيد التشكّل تسعى إليه شركات تقنية كبرى وناشئة، بدعم من أبحاث أكاديمية ومبادرات تجارية، في ما يُعرف اليوم بـ"الورثة الرقميين" أو "الأشباح التوليدية".
وتناولت دراسة حديثة صدرت في نيسان/ أبريل 2025 عن جامعة كولورادو بولدر بالتعاون مع "Google DeepMind"، بعنوان "حوار مع الراحلين"، استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في إنشاء روبوتات محادثة تُحاكي شخصيات الأموات، بناءً على سجلهم الرقمي.
وتعتمد هذه التكنولوجيا على أرشفة بيانات الشخص: الرسائل، التسجيلات الصوتية، منشورات مواقع التواصل، وحتى مقاطع الفيديو، لتكوين نموذج تفاعلي يُجري محادثات واقعية تحاكي شخصية المتوفى بدقة مذهلة.
وتتيح شركات مثل “HereAfter AI” و“StoryFile” و“Re;memory” دخلت هذا المجال بقوة.
وعلى سبيل المثال، يستطيع الأشخاص قبل وفاته تسجيل ردود مفصلة على أسئلة متنوعة، ليتم تحويلها بعد وفاته إلى مساعد صوتي يمكن للأقارب التحدث معه عبر الهاتف أو التطبيقات.
وفي كوريا الجنوبية، أطلقت شركة “DeepBrain AI” خدمة تعيد بناء الشخص كاملًا في هيئة مجسّم ثلاثي الأبعاد يتفاعل بالصوت والصورة.
ولا يقتصر التفاعل مع "أشباح رقمية" على الحنين، بل يتعداه إلى وظائف عملية، مثل شرح إجراءات قانونية، تقديم وصفات طعام عائلية، أو حتى إعطاء نصائح مالية، وفي بعض الحالات، يُتوقع أن تصبح هذه النماذج الرقمية مصادر دخل لأسر المتوفين، عبر بيع كتب أو محتوى تم إنتاجه باستخدام شخصياتهم الرقمية.
ويقابل الحماس التقني قلق أخلاقي متزايد، حيث حذر باحثون من جامعة كامبريدج من "العلاقة العاطفية القهرية" التي قد تنشأ بين الأحياء وهذه النماذج، مما يُعقّد عملية الحزن الطبيعي. كما نبّهوا إلى احتمال أن تُستخدم هذه النماذج في إيذاء الآخرين، أو نشر معلومات خاطئة تُنسب زورًا إلى المتوفى.
ويزيد القلق من إمكانيات إساءة الاستخدام التجاري، مثل بث إعلانات موجهة عبر صوت المتوفى، أو اختراق خصوصية العائلات. كما حذّرت تقارير من أن بعض النماذج قد تُنتج "هلوسات ذكائية" – أي معلومات ملفقة لا تستند إلى وقائع، مما قد يشوه إرث الراحل أو يكشف أسرارًا لم يكن يرغب في الإفصاح عنها.
أمام هذه الطفرة التكنولوجية، يبرز سؤال جوهري: من يمتلك حق التحكم في النسخة الرقمية من الشخص بعد وفاته؟ ومن يضمن ألا يُعاد استخدامه ضد إرادته؟ تدعو مؤسسات حقوقية وخبراء قانون إلى وضع أطر تشريعية صارمة لضمان الموافقة المسبقة، والحق في المحو، وعدم استخدام هذه النماذج في الإعلانات أو التلاعب العاطفي.
ومع اتساع انتشار هذه الظاهرة، يبدو أن الموت، كما عرفناه، لم يعد خط النهاية. بل أصبح فصلًا جديدًا تُكتبه خوارزميات، وتعيشه نسخ رقمية قد تنصح، تبتسم، وتشارك… من عالم ما بعد الحياة.