آمنة بنت عبدالملك البلوشية
في كل مرة نسمع فيها عن اضطراب طيف التَوَحُّد، يتبادر إلى أذهاننا ذلك التحدي الذي يعيشه الطفل أو المراهق المصاب به في بيئته، وكيف يبدو العالم من حوله معقّدًا ومربكًا أحيانًا. إلا أن الأمر لا يتعلق فقط بحالة طبية أو تشخيص عصبي، بل يتعلق بإنسان يرى الأشياء بطريقة مختلفة، يشعر بها على نحو أعمق، ويحتاج إلى من يفهمه لا من يشفق عليه، ويحتويه لا من يفرض عليه نمطًا لا يشبهه.
وإذا كان التعليم حقًا للجميع، فإن البيئة الدراسية ينبغي أن تكون المكان الأول الذي يحتوي هؤلاء الأطفال، لا أن ينفرهم. فهي ليست فقط مساحة لتلقّي المعلومات، بل بيئة اجتماعية وثقافية وسلوكية تُسهم في تشكيل شخصية الطفل وبناء ثقته بنفسه. من هنا، فإن تهيئة المدرسة لتناسب الأطفال المصابين بالتَوَحُّد، هو واجب تربوي وأخلاقي وإنساني، يبدأ من الاعتراف باختلافهم لا التنصل منه، ويمتد ليصل إلى كل تفصيله داخل الصف أو خارجه.
حين نهيئ بيئة دراسية تتفهم طبيعة التَوَحُّد، فنحن نخفف الكثير من المعاناة اليومية التي يعيشها الطفل، خاصة في التفاعل الاجتماعي، وهو الجانب الذي يعاني فيه المصابون بالتَوَحُّد صعوبة بالغة. فالإشارات غير اللفظية، ولغة الجسد، ونظرات العيون، كلها تفاصيل قد تربكهم أو تمر دون أن يلتقطوها، مما يجعل التواصل مع أقرانهم أمرًا مربكًا أحيانًا. ولذلك فإن تقديم أنشطة تفاعلية موجهة تساعدهم على التعبير والتواصل، يفتح لهم أبوابًا لفهم الآخر، وتعلم مهارات جديدة بثقة وطمأنينة.
ومع التفاعل، تبرز تحديات التحفيز الحسي، التي تختلف من طفل لآخر. فبعضهم قد يعاني من حساسية مفرطة تجاه الأصوات العالية أو الأضواء الساطعة، وقد يشعر بالتوتر أو القلق من لمسة غير متوقعة. لذا فإن ضبط المحيط المدرسي ليكون هادئًا ومنظمًا، واستخدام ألوان مريحة وإضاءة معتدلة، كلها عوامل تخلق بيئة أكثر أمانًا لهؤلاء الأطفال وتساعدهم على التركيز والراحة.
كما أن وضوح البيئة من حيث التنظيم ينعكس مباشرة على شعور الطفل بالأمان. فعندما تكون الأمور مرتبة، والجداول مرئية، والأنشطة متوقعة، تقل نسبة القلق لدى الطفل المصاب بالتَوَحُّد. بل إن استخدام الوسائل البصرية مثل الجداول المصورة أو التعليمات المكتوبة يساهم في جعل الروتين مفهوماً وسهل التوقع، وهو ما يمنحهم الشعور بالسيطرة على مجريات يومهم.
ولأن التعليم لا يتوقف عند المحتوى؛ بل يشمل الطريقة التي يُقدّم بها، فإن وجود خطط تعليمية فردية تناسب كل حالة يعتبر ضرورة وليس ترفًا. فطفل التَوَحُّد قد يحتاج إلى وسائل بصرية أكثر، أو أنشطة حسية، أو تكرار وتدرج في المعلومات. وكلما تنوعت الوسائل وتعددت الطرق، كلما زادت فرص الفهم والتأهيل بشكل أعمق وأكثر فاعلية.
وفي المقابل، لا يكتمل كل ذلك دون دعم اجتماعي وعاطفي حقيقي. وهذا لا يعني فقط وجود متخصصين في المدرسة؛ بل الأهم هو وجود وعي عام بين المعلمين والطلبة حول ما هو التَوَحُّد، وكيفية التعامل مع من يعيشونه. فعندما يعرف الزملاء أن زميلهم يختلف في التعبير أو الفهم، ويتقبلونه، فإنهم يخلقون له بيئة احتواء لا عزلة، وإن تعرّف المعلم على طبيعة التحديات السلوكية والتواصلية، واستعمل الاستراتيجيات المناسبة، فإنه يصبح حليفًا لا مجرد ناقل للمعرفة.
ومن خلال بعض الخطوات البسيطة، يمكن للمدرسة أن تُحدث فارقًا حقيقيًا في حياة هذا الطفل. كأن تكون الفصول هادئة ومنظمة، تُستخدم فيها ألوان مريحة، وتُقسّم المساحات لتشمل أنشطة فردية وجماعية، وتُقدّم فيها بطاقات بصرية مساعدة. إضافة إلى ذلك، يجب أن يكون هناك تواصل مستمر مع ولي الأمر، لأن الشراكة مع الأسرة تسهم في بناء صورة أشمل عن الطفل، وتسمح بمتابعة دقيقة لتطوره وتقدّمه.
أما أهم ما يمكن تقديمه للطفل المصاب بالتَوَحُّد، فهو منحه الفرصة للتعبير عن نفسه. أن يُشجّع على أن يقول ما يشعر به، ولو بوسائل غير لفظية. أن يُمنح الوقت، والمكان، والإصغاء، حتى يكتشف ذاته ويثق في قدراته. ومع الوقت، وبالاحتواء، يمكن أن يتحول الطفل الصامت إلى متحدث، والخجول إلى مشارك، والمتحفّظ إلى مبدع.
ولعل أجمل ما يمكن أن نختتم به، هو أن نقول إن الطفل المصاب بالتَوَحُّد لا يحتاج للشفقة؛ بل للفهم، ولا يريد التغيير؛ بل الاحترام، ولا يطلب التكيّف مع المجتمع؛ بل أن يتكيّف المجتمع معه. وإن البيئة الدراسية، حين تُبنى على الفهم والرحمة والعدل، فإنها تُخرج من الطفل أفضل ما فيه، وتمنحه الأمل في غدٍ مشرق يشبهه، لا يُفرض عليه.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الدوحة تحتضن قرعة كأس العرب وكأس العالم للناشئين 2025
ماجد محمد
أعلنت اللجنة المحلية المنظمة لبطولتي كأس العرب 2025 وكأس العالم للناشئين تحت 17 عاماً، عن إقامة مراسم القرعة النهائية للبطولتين يوم الأحد الموافق 25 مايو الجاري، وذلك في فندق رافلز بالعاصمة القطرية الدوحة.
وتُعد هذه القرعة محطة محورية ضمن الاستعدادات الجارية لاستضافة الحدثين المرتقبين، حيث من المنتظر أن يحضر الحفل عدد من نجوم كرة القدم من قطر والمنطقة والعالم، في أجواء احتفالية تمهد لانطلاق المنافسات.
وتستضيف قطر بطولة كأس العرب في الفترة من 1 إلى 18 ديسمبر المقبل، بمشاركة 16 منتخباً عربياً، وقد ضمنت 9 منتخبات التأهل مباشرة إلى النهائيات استنادًا إلى تصنيف الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، من بينها منتخب الجزائر حامل اللقب، ومنتخب قطر المستضيف، بينما تُحسم المقاعد السبعة المتبقية عبر التصفيات التي تُقام في نوفمبر المقبل.
أما بطولة كأس العالم للناشئين تحت 17 عاماً، فتشهد نقلة نوعية بمشاركة 48 منتخباً لأول مرة في تاريخها، حيث ستُقام 104 مباريات على مدار 25 يوماً، وتُعد نسخة 2025 الأولى من خمس نسخ متتالية تستضيفها قطر حتى عام 2029.
إقرأ أيضًا:
الكويت يفوز على العربي ويتوج بلقب كأس ولي العهد