في زمنٍ اختلط فيه الترفيه بالإعلام، وتحول النقد إلى حفريات في مقابر الرموز، بات من المألوف أن نصحو على "فضيحة جديدة" من حياة راحلٍ عظيم، وكأن الأموات لم ينالوا ما يكفيهم من الإنهاك في حياتهم، حتى يأتي دورنا لنُكمِل عليهم بعد مماتهم.

من عبد الحليم حافظ إلى سعاد حسني، من أم كلثوم إلى جمال عبد الناصر، أصبحنا في زمن لا يبحث عن حقيقة، ولا عن تاريخ، بل عن شبهة، وصورة، و"بوست" قابل لإعادة التدوير في ساحة المحكمة الكبرى المسماة: وسائل التواصل الاجتماعي.

في هذا المقال الساخر - الجاد في مرآته - أكتب بمرارةٍ وغضب، وشيءٍ من السخرية النبيلة، عن هوايتنا القومية الجديدة: نبش القبور.. هوايتنا القومية الجديدة!

من عجائب هذا الزمان أن تتحوّل الكتابة إلى حفّار قبور، وأن يرتدي القارئ عباءة "النيابة العامة" في محكمة التاريخ، لا لشيء سوى محاكمة الموتى بتهمٍ لم تُسجَّل في دفاترهم ولا على شواهدهم. بات النقد عندنا أقرب إلى برنامج فضائحي لا يحتاج إلا إلى "بوست" مفبرك، أو فيديو مجتزأ، وتغريدة منسيّة يُعاد تدويرها تحت عناوين مثيرة: "السر الذي أخفاه عبد الحليم"، أو "صندوق أسرار أم كلثوم"، أو "من كان ناصر يخشاه؟".

في بلادنا، لا تكتمل مائدة الإفطار إلا بصحنٍ ممتلئٍ بفضائح قديمة، ومعلّبات من حياة الراحلين. أصبح لدينا طقسٌ جديد أشبه بمراسم عاشوراء، لكن بدلاً من اللطم، نحن "ننبش" ونحلل ونتساءل: هل تزوّج عبد الحليم حافظ من سعاد حسني؟ هل كان جمال عبد الناصر يعرف من كتب البيان الأول؟ هل كانت أم كلثوم ترتدي نظارتها الشمسية لتُخفي دمعة حب أم سخطاً سياسياً؟

جيلٌ بأكمله - بعضه لم يُولد بعد، أو كان لا يزال يرضع من ثدي الإعلام الرسمي - يتقمّص الآن دور المحقق كونان، لكن بمصادره الخاصة: "قرأت بوست"، "شاهدت فيديو على تيك توك"، "قال لي أحدهم في المقهى". تحوّل التاريخ إلى مساحةٍ للثرثرة، والأعراض إلى فقراتٍ للترفيه، والسيرة الذاتية إلى فقرةٍ مسلية قبل النوم.

نحن لا نقرأ، نحن نتلصص. لا نبحث عن الحقيقة، بل عن الإثارة، عن الشبهة، عن صورة تُستخدم كدليل إدانة في محكمة فيسبوك الكبرى.

ربما تكمن المشكلة في تعريفنا للبطولة والقدوة. حين يغيب المشروع الجماعي، يصبح كل فرد مشروع قاضٍ، أو بالأحرى مشروع مؤرخ حَشري، يحشّ في سيرة العظماء، ويشكك في كل شيء: هل كتب نزار قباني أشعاره وحده؟ هل ماتت أمينة رزق عذراء فعلاً؟ هل كان توفيق الحكيم مؤمناً بالله أم فقط بالريجيم؟

نعيش عصر "ما بعد القبر". مات عبد الناصر؟ لنفتّش في مراسلاته مع هيكل. ماتت سعاد؟ فلنبحث عن صورة لعقد الزواج.. ! غاب عبد الحليم؟ لنُكمل ما بدأته الصحف الصفراء: من دفن أسراره؟ ومن نكأ الجراح؟

الفلسفة هنا أن الحياة لم تعد تُرضينا، فنبحث عن الإثارة في الموتى. السياسة مملة، الاقتصاد موجع، والواقع شحيح.. فلا بأس من إثارة الغبار فوق رفات من رحلوا.

لكن مهلاً، أليس هذا إرثاً ثقافياً متجذّراً؟ ألم يبدأ كل شيء منذ جلسات النميمة الريفية تحت ضوء القمر، حين كان الناس يتحدثون عن من هربت مع من، ومن تزوّج سراً، ومن أكل "ورقة الطلاق"؟ الفرق الوحيد الآن أن القمر أصبح شاشة هاتف، والقرية تحوّلت إلى قريةٍ افتراضية.

في النهاية، قد نُصاب بشللٍ فكري. فمن يبحث عن فضيحة لا يصنع بطولة، ومن يُفتّش في أوراق الأمس لا يكتب سطور الغد.

فلندع عبد الحليم يغني، وسعاد تضحك، وناصر يحلم، ولتَنَم قبورهم في سلام، لأنهم - على الأقل - حاولوا أن يحيوا في زمنٍ كان يستحق الحياة.

أما نحن، فنحيا لنحاكم الأموات!

ولعل أصدق ما في هذه السخرية أنها كُتبت بمداد الغضب لا الهزل. ففي زمنٍ كهذا، وحدها الكتابة الساخرة تصلح مرآةً لعقلٍ مأزوم.. .أو وطنٍ يعيد تدوير ماضيه في سوق النميمة!

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية

[email protected]

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: عبد الحلیم فی زمن

إقرأ أيضاً:

شكراً

#شكراً

#رأفت_حداد

شكر الآخرين وتقدير الصنيع الطيب ورد الجميل، هي ثقافات شعوب..فمن حيث المبدأ ، قول شكراً  لا يختلف عليها أحد ولا أي شعب من الشعوب، وفي كثير من المواقف الإجتماعية تؤدي كلمة شكراً الغرض منها كتعبير عن احترام الشخص المقابل نظراً لتصرف لائق او سلوك مهذب ، وغير مطلوب طبعاً اكثر من ذلك ، فمن غير المعقول بعد أن تبقى ممسكاً بباب محل ما كي يعبر الذي خلفك ويقول لك شكراً ، أن تعزمه على الغداء مثلاً..ولكن من غير المقبول ابداً أن تجتهد في عمل خدمة لآخر ويمر دون حتى أن ينظر في عينيك أو يبتسم..! في الكثير من دول الغرب تتوه كلمة شكراً بين الكلام فليس لها أثر ، فمهما صنعت وقدمت ،فكلمة شكراً تكفي ..كشعوب براغماتية واضحة ،  الشكر له حدود وسقوف ينتهي عندها ..في منظومتنا الثقافية العربية تختلف الأمور بشكل واضح.. صحيح نتداول شكرا لتقدير المعروف ولكن يؤذينا بشدّة انكاره.. عندما نقدم شيئاً مهماً للآخرين ونضحي بأوقاتنا  وأموالنا وراحتنا نسعد كثيراً بشكر الآخرين الصادق  لنا وخصوصاً عندما تداهمك القشعريرة وانت تتلقى الشكر على صنيعك.. وكشعوب متدينة وتتصف بالتقوى عموماً لا ننتظر رد الجميل من أحد بل ننشد الحسنة والجزاء من عند الله..لذلك تجد في موسوعتنا اللغوية والأخلاقية مصطلحات كثيرة تعبر عن المعنى مثل اعمل لوجه الله تعالى أو خليها على الله أو عند الله مابضيع  تعب…الخ .

نعلم أطفالنا قول شكراً ولكن لا نعلمهم كيف يشكرون.. أحياناً  تداعب طفلاً أو تقدم له شيئاً فيتصدر أبوه المشهد ويقول..إحكي شكراً للعموه..أو أمه تقول إحكي شكراً 

مقالات ذات صلة من كلّ بستان زهرة – 106- 2025/07/10

للآنتي ..! صنع المعروف في ثقافتنا شيمة، وانكاره  عار.. في نهايات عصر الجاهلية كان عباقرة الشعر والحِكَم يتصدرون القول والإبداع ..أعتقد أن زهير  بن ابي سلمى قد لخص الحكاية في  بيت شعري عظيم عندما قال .. ومن يجعل المعروف في غير أهله يكن حمده ذماً عليه ويندمِ ..وبعد ثلاثمائة سنة جاء الحكيم العبقري المتنبي وأبدع في تجسيد المعنى الذي يبدو انه قد شغل الناس حينها فأضاف على قول زهير صيغة اكثر جمالاً ومعنى عندما قال..اذا انت اكرمت الكريم ملكته وإن أنت اكرمت اللئيم تمرّدا..! قد نغض الطرف عن  تلك الشكراً.. ونتجاوز انكار المعروف ونتناسى الألم والإنكسار ، ولكن عندما يأتيك إنكار المعروف من أقرب الناس إليك ..هو كمن يقبض على روحك ويقتلك

مقالات مشابهة

  • آمال رمزي تفجر مفاجأة حول زواج سعاد حسني وعبد الحليم حافظ «فيديو»
  • أحمد عبد الحليم يشيد بتجربة يانيك فيريرا مع الزمالك
  • آمال رمزي: "اتجوزت نور الشريف بعد ما خطفته من نجلاء فتحي.. وسعاد حسني كانت متجوزة عبد الحليم"
  • أوقاف غزة: الاحتلال نبش القبور في خان يونس وسرق الجثامين
  • عطر الأحباب يسلط الضوء على مسيرة خالد الصاوي الأدبية والنقدية
  • إلى القردة | سناء منصور تكشف عن رسالة طريفة من عبد الحليم حافظ
  • تفريط..
  • “أوقاف” غزة: العدو الصهيوني يرتكب جريمة باجتياح المقبرة التركية ونبش القبور وسرقة الجثامين
  • شكراً
  • فضائح الحرائق في لبنان: سمسرات وخطط خبيثة لسرقة الأموال!