الشتات الفلسطيني والمقاومة ضد التحيزات الإعلامية في أميركا اللاتينية
تاريخ النشر: 22nd, May 2025 GMT
في كتابه “الشتات الفلسطيني في أميركا اللاتينية- دراسات في الإعلام والهوية”، يقدّم الباحث أحمد الزعبي دراسة معمقة تنطلق من أطروحة الدكتوراه التي ناقشها في برنامج الدراسات العليا في الاتصال الاجتماعي بجامعة الميثودية في ساو باولو.
ويعتمد الكتاب على مقاربة بحثية متعددة المستويات، تمزج بين الصرامة الأكاديمية والحس الأخلاقي، وتُوظّف أدوات الصحافة الإنسانية ونظريات الهوية الثقافية لتفكيك كيفية تناول الإعلام اللاتيني للقضية الفلسطينية في 5 دول: الأرجنتين، البرازيل، تشيلي، السلفادور، وهندوراس.
ويكشف هذا الكتاب عن تحيزات إعلامية بنيوية في ما يقدمه من تأريخ شفهي ورؤية داخلية لمجتمعات الشتات، من خلال 40 مقابلة معمقة مع شخصيات فلسطينية مؤثرة في أميركا اللاتينية. ويسلط الكتاب الضوء على إستراتيجيات المقاومة الثقافية والسياسية التي ابتكرها الفلسطينيون في المهجر، ضمن بيئة إعلامية تخضع لتأثيرات محلية ودولية، وتُعيد إنتاج الرواية الرسمية المنحازة.
ويمثل الكتاب أيضا شهادة تاريخية على لحظة مفصلية في نضال الشعب الفلسطيني، إذ كُتب في ظل إحدى أكثر الفترات مأساوية من حيث تصاعد المجازر، ولم يكتفِ بوصف الواقع الإعلامي والسياسي، بل يقترح سبلا بديلة للتفكير في دور وسائل الإعلام ضمن صراعات الهوية والانتماء والنسيان القسري.
إعلانوفي لقاء أجرته الجزيرة نت مع المؤلف -أستاذ الصحافة والإعلام الرقمي بجامعة لوسيل- نُوقشت أبرز ما ورد في الكتاب من محاور، مثل حضور فلسطين في الإعلام اللاتيني، وتحولات نظرة المجتمعات المضيفة، وأشكال التفاعل ما بين الشتات الفلسطيني وحركات التضامن، إلى جانب خصوصية كل مجتمع من مجتمعات الشتات، وارتباطه بالأصول، واللغة، والانتماء، والهوية الوطنية.
بداية، الكتاب هو نتاج أطروحة الدكتوراه التي أعددتها في تخصص الإعلام بجامعة الميثودية في مدينة ساو باولو البرازيلية. ويتكون الكتاب من 4 فصول:
الفصل الأول يتناول تاريخ القضية الفلسطينية، وهو تاريخ معروف بالنسبة لنا، لكنه جديد على القارئ البرازيلي، لذا رأيت من المهم أن أقدمه له بتسلسل موضوعي. تحدثتُ فيه عن مؤتمر بازل الأول، والكتاب الأبيض، ووعد بلفور، وثورة البراق، والانتفاضتين، وصولا إلى السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
أما الفصل الثاني، فيركّز على الجاليات الفلسطينية في 5 دول من أميركا اللاتينية: تشيلي، السلفادور، هندوراس، البرازيل، والأرجنتين. هذه الدول تمثل أبرز مراكز الشتات الفلسطيني في تلك المنطقة، سواء من حيث العدد أو من حيث التأثير السياسي والاجتماعي.
وتشيلي مثلا تضم أكبر جالية فلسطينية خارج الوطن، يقدّرها البعض بنحو 500 إلى 900 ألف فلسطيني. أما في البرازيل، حيث قُدّر عددهم بين 40 و60 ألفا، فلها أهمية سياسية خاصة كونها عاصمة أميركا اللاتينية سياسيا. وهناك أيضا السلفادور وهندوراس، وهما من دول أميركا الوسطى، وتحضنان جاليات نشطة. كذلك الأرجنتين، التي كانت ذات يوم مطروحة كموقع محتمل لإقامة وطن قومي لليهود، قبل أن يقع الاختيار على فلسطين.
إعلان كيف تشكّل الوجود الفلسطيني في هذه الدول؟ وهل كان وجودا لاحقا للنكبة فقط، أم أقدم من ذلك؟وجود الفلسطينيين في أميركا اللاتينية يعود إلى ما قبل النكبة، بل إلى أواخر القرن الـ19، وفقا لما وثّقه الباحث المغربي المتخصص في شؤون أميركا اللاتينية عبد الواحد أكمير.
فالهجرة الأولى كانت لأسباب اقتصادية، في ظل ضعف الدولة العثمانية وتدهور الأوضاع المعيشية وفرض الضرائب. وهاجر الناس جماعات، وكثير منهم خرج بجوازات عثمانية. وكان هناك أيضا ما يُعرف بـ”فلسطينوفوبيا” و”تركوفوبيا” في تلك المجتمعات، بسبب الصورة النمطية السلبية التي رُوّجت عن العرب والمسلمين.
View this post on InstagramA post shared by Monitor do Oriente (@monitordooriente)
هل تعرض الفلسطينيون في تلك الدول للتمييز أو التضييق بسبب هوياتهم؟نعم، بالفعل. كان هناك عنصرية مبكرة تجاه الفلسطينيين، لدرجة أن بعض الدول مثل تشيلي والأرجنتين سنت قوانين في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الـ20 تمنع دخولهم. واضطر كثيرون إلى تغيير أسمائهم وأزيائهم وحتى دياناتهم المعلنة لتسهيل دخولهم. كانوا يقولون مثلا إن دينهم “بلدين” حتى لا يُصنّفوا ضمن الأديان الرسمية المفروضة.
لكنهم، رغم كل التحديات، تمكنوا من التكيف، وحققوا نجاحا اقتصاديا كبيرا، وأسّسوا مجتمعات قوية ما زالت حاضرة وفاعلة.
هل يمكن القول إن هذه الجاليات حافظت على هويتها الفلسطينية؟نعم، بدرجات متفاوتة. هناك جاليات فلسطينية في أميركا اللاتينية حافظت على انتمائها القومي والديني والثقافي، وبعضها أذابته ثقافة البلد المُضيف. في تشيلي مثلا، نجد جاليات فلسطينية مسيحية، وأخرى مسلمة، وثالثة كردية أو أرمنية. هذا التنوع انعكاس طبيعي لتاريخ الشتات الطويل والمعقد، وكذلك نتيجة القوانين التي كانت سائدة حينها، والتي فرضت دينا رسميا للدولة، كما كان الحال في تشيلي حتى عام 1920.
View this post on Instagram
A post shared by Monitor do Oriente (@monitordooriente)
كيف تتابع النخب الثقافية والسياسية والإعلام في أميركا اللاتينية الواقع الفلسطيني، وما تأثير وجود الشتات الفلسطيني في تشكيل هذا التصوّر؟إعلان
بشكل عام، لا يمكن إنكار أن الإعلام في أميركا اللاتينية منحاز إلى السردية الاستعمارية الإسرائيلية، وهذا أمر مؤسف. ولا يوجد في المناطق الفلسطينية مثل غزة أو القدس أو رام الله أي مراسل دائم يتبع لوسائل إعلام رئيسية من أميركا اللاتينية. معظم ما يُنشر في الصحف والمجلات الكبرى هناك مثل فوليا دي ساو باولو أو لا برينسا أو إلغرافيكو، مصدره وكالات أنباء دولية، خاصة الغربية والأميركية منها.
لذلك فإن الجاليات الفلسطينية -سواء من ذوي التوجهات اليمينية أو اليسارية- تعتمد في متابعتها لما يحدث في فلسطين على أقاربها، أو على وسائل إعلام عربية مثل قناة الجزيرة، أو منصات إلكترونية مثل العربي الجديد وميدل إيست آي. وهناك اهتمام واضح بمتابعة ما يجري، ويصل أحيانا إلى إرسال أبنائهم لتعلم اللغة العربية، أو إبرام زيجات داخل فلسطين، أو الاستثمار الاقتصادي هناك، كما فعل بنك فلسطين بفتح فرع له في تشيلي، إلى جانب مشاريع تعليمية وصحية أخرى أقامها أبناء الشتات.
لكن ماذا عن الرأي العام في مجتمعات أميركا اللاتينية ذاتها؟ هل يتأثر هذا الرأي بوجود الجالية الفلسطينية الكبيرة؟بالتأكيد. أصبح الوجود الفلسطيني هناك مصدر اعتزاز، بعدما كان في الماضي يواجه نوعا من العنصرية و”الفلسطينوفوبيا”. فاليوم توجد شوارع ومؤسسات ومدارس ومطارات تحمل أسماء فلسطينية. في تشيلي مثلا، الجالية الفلسطينية أثّرت على السياسات الرسمية، وساهمت في سحب استثمارات من الاحتلال الإسرائيلي، والاعتراف بحدود الرابع من يونيو/حزيران وحل الدولتين، وبحق الشعب الفلسطيني.
الشعوب اللاتينية عموما مؤيدة للقضية الفلسطينية، لأنها عانت تاريخيا من الاستعمار، وبالتالي لديها حس تضامني كبير. لكن هذا التأييد يواجه تحديين: أولهما صعود الجماعات الإنجيلية، التي تتبنى الرواية الصهيونية، وثانيهما ضعف العلاقة بين العالم العربي وهذه المنطقة، بسبب حاجز اللغة وبعد المسافة.
نعم، إلى حد كبير. هناك مظاهر ثقافية واضحة للوجود الفلسطيني، مثل الدبكة والفلافل والحمص، والكوفية الفلسطينية التي تُرتدى في المناسبات التضامنية. في يوم النكبة أو يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني، تُنظم فعاليات في معظم دول القارة، ويحضر الفلسطينيون والعرب والسكان المحليون.
والكتاب الأخير بعنوان “الشتات الفلسطيني في أميركا اللاتينية: دراسات في الإعلام والهوية”، وهو أول عمل أكاديمي متخصص يتناول هذا الموضوع بعمق. يتناول الكتاب تأثير الإعلام على الجاليات الفلسطينية، ودور الفلسطينيين في الاقتصاد والسياسة والثقافة، ويُظهر كيف تحوّل الفلسطيني من مهاجر فقير إلى شخصية مؤثرة في المجتمعات المضيفة.
صدر الكتاب باللغتين البرتغالية والإسبانية، وهناك مشروع لترجمته إلى الإنجليزية. ومن المشاريع البحثية الأخرى التي أعمل عليها: رواية الهيكل في أميركا اللاتينية، حيث بُني هيكل ضخم شبيه بـ”هيكل سليمان” في البرازيل بالحجارة المستوردة من الخليل، والزيتون القادم من القدس. إنها محاولة واضحة لترويج الرواية الصهيونية دينيا وثقافيا، وهذا أحد محاور بحثي المستمر.
هل تحتفظ الجاليات الفلسطينية بلغتها وهويتها الثقافية؟نعم، ما زال كثير من أبناء الشتات يتحدثون باللهجات القروية الفلسطينية، وبعضهم يحافظ على مفردات فلاحية موروثة من أجدادهم. وهذا يُثبت أن الفلسطيني، رغم بعده الجغرافي، ما زال متمسكا بجذوره.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الجالیات الفلسطینیة فی أمیرکا اللاتینیة فی تشیلی
إقرأ أيضاً:
هل هناك موت ثقافي في القدس؟
القدس ليست مدينة عادية، فهي مدينة مركزية للديانات، وتمتد حضارتها لآلاف السنين، تعاقبت عليها حضارات وثقافات متعددة، تمتلك تراثا معماريا متنوعا وهائلا، كما أن كونها محتلة من قبل الصهاينة، هذا يمنحها قداسة وأهمية مضاعفة في عيون العرب والفلسطينيين وأحرار العالم، هذه الأيام بالذات تشتد الهجمات على القدس من قبل محتليها، وتتنوع الهجمات ما بين مداهمات للمكتبات ومصادرة كتب كما حصل مع مكتبة عماد منى، في شارع صلاح الدين، قبل أشهر، وما بين مداهمة حفلات إحياء التراث الفلسطيني كما حدث قبل أسبوعين مع مسرح الحكواتي، حيث منع المحتلون هذا الحفل وطردوا الأطفال والعائلات، وأغلقوا المسرح.
نحن نعرف أن هناك شبه موت اقتصادي في القدس بفعل إجراءات الاحتلال وإغلاق المدينة أمام المدن الفلسطينية الأخرى، لكن هل هناك موت ثقافي؟ ثمة نقاش دائم حول ذلك، هناك من ينفي هذا الموت كالفنان المسرحي حسام أبو عيشة الذي قال لنا: أعتقد حازما أن في ذلك تجن على الحالة الثقافية في القدس، هناك الكثير من الحالات الثقافية المستمرة والمتقدمة رغم ظرف القدس المعروف، قد يكون أنه بعد السابع من أكتوبر حصل سبات ما وليس موتا، إذ لا عودة بعد الموت، على سبيل المثال لا الحصر هناك خمس (إنتاجات مسرحية جديدة في المسرح الوطني الفلسطيني، هناك عملان موسيقيان للمعهد الوطني للموسيقا وفرقة بنات القدس، هناك عروض (سينما فلسطين) كل أول شهر لشباب مخرجين ومصورين من القدس، هناك مؤسسات ثقافية مهمة نفخر فيها جميعا أبرزها: مؤسسة يبوس ومسرح الحكواتي، وغيرها.
رغم تحديات الاحتلال وإجراءاته القمعية وحصاره للثقافة والحياة فإن مسرح الحكواتي استطاع تقديم خدمة ثقافية مهمة للمسرحيين الفلسطينيين ولمتذوقي المسرح وأيضا للكتاب والشعراء الذين يديرون منذ سنوات طويلة ندوة شهرية اسمها (ندوة اليوم السابع)، أما مؤسسة يبوس فتعمل على إحياء البنية التحتية الثقافية في القدس من خلال ترميم وإعادة بناء سينما القدس التاريخية وتحويلها إلى بؤرة ثقافية متكاملة تحوي قاعات للحفلات والعروض والورش.
وقد أطلقت المؤسسة مهرجانات مهمة: مهرجان القدس ومهرجان الحكايات ومهرجان الفنون الشعبية وليالي رمضان، وهي نشاطات تسحر الجمهور وتنهض بالفن الفلسطيني.
كما تنظّم يبوس أمسيات أدبية وحفلات توقيع كتب، وندوات ثقافية اجتماعية وسياسية، ومعارض فنية، مما يساهم في خلق مناخ ثقافي مضيء. وتقدّم ورشات مسرحية وقصصية وفعاليات ترفيهية تخدم الأجيال الصاعدة وتطور الإبداع لديها).
لكن القاص المعروف محمود شقير له رأي آخر: نعم، مقارنة بما كانت عليه أحوال الثقافة في سبعينيات وثمانينيات القرن (العشرين، فإن تجلّيات الثقافة في القدس هذه الأيام ليست على النحو المطلوب، وذلك بسبب عزل المدينة عن محيطها الفلسطيني في محاولات دائبة لتهويدها، وبسبب الحالة الأمنية المتردّية في المدينة، حيث تتضاءل حركة المواطنين عند الغروب أو قبله بقليل.
وثمة ضرائب باهظة تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على المواطنين، فتجعل أحوالهم الاقتصادية صعبة، ما ينعكس سلبًا على الحالة الثقافية. ثم إنّ وباء كورونا ترك أثرًا سلبيًّا على الأنشطة الثقافية واضطر بعض الهيئات الثقافية مثل ندوة اليوم السابع إلى ممارسة نشاطها الأسبوعي إلى يومنا هذا عبر منصّة زووم، فيما يمارس المسرح الوطني الفلسطيني ومركز يبوس ومعهد إدوارد سعيد للموسيقى أنشطة ثقافية لها حضورها النسبي إلى حدٍّ ما).
فجّر الفنان الفلسطيني المقدسي خالد الغول، فكرة الجفاف الثقافي في القدس، عبر اقتراحه الذي كرره أكثر من مرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بإنشاء مكتبة عامة، تخدم الناس والطلاب والباحثين والمثقفين، الفنان المقدسي العاطل عن العمل الآن (ليس عن الحلم والأمل)، بعد سنوات من خدمة الثقافة الفلسطينية عبر مؤسسة يبوس المقدسية الشهيرة، يجيب عن سؤال بداية لمعان الفكرة في قلبه: (لمعت شرارة المبادرة بالصدفة، وفي ظروف اجتماعية محضة.
ففي زيارة اجتماعية لجمعية أهلية تعنى بشؤون الناس الاجتماعية والثقافية في القدس. قال لي أحد العاملين فيها، إن مقر الجمعية المقامة سيتم هدمه ويتحول إلى بناية تجارية. وعرض عليّ أن آخذ الكتب والمخطوطات من المقر قبل هدمه. وبالفعل نقلت الكتب. وفي الأسبوع ذاته، طلب مني صديق بعض الروايات والدواوين الشعرية لابنه اليافع، الذي ما زال معنيًّا بقراءة الكتب المطبوعة ولم تسيطر عليه بعد عقلية التذوق للأعمال الأدبية من خلال التكنولوجيا الحديثة والرقمية.
وبعد أن زودت الفتى بالكتب التي طلبها، نشرت على صفحتي في "فيسبوك" طالبًا التبرّع بكتب تحت عنوان "نحو مكتبة أهلية عامة في القدس"، فلبّى الكثيرون من الأصدقاء الطلب، وانهالت عروض التبرع بالكتب والمساعدة، وما زلت منهمكًا في جمع الكتب والبحث عن مكان مناسب يلبّي الغرض).
القدس المقدسة تحتاج منا جميعا مثقفين ورجال أعمال وأكاديميين، ومؤسسات أهلية ومن السلطة الوطنية الفلسطينية ومن المؤسسات الثقافية العربية واتحادات الكتّاب العرب مزيدًا من الدعم والاهتمام لتعزيز هويتها، ووقف تهويدها.