في مدينة غزة التي تحوّلت منازلها إلى ركام، وتفاصيلها اليومية إلى مشاهد من فيلم طويل عن البقاء، يطفو شيءٌ غريب وسط كل هذا الدمار، هذا الشيء هو "الحنين".

والحنين هو ليس حنينًا رومانسيًا عابرًا، بل حاجة نفسية للبقاء، وركيزة لمواجهة واقع لا يُطاق بالنسبة لأكثر من اثنين مليون نسمة يعيشون في قطاع غزة تحت الحرب منذ السابع من أكتوبر 2023.

وبينما تتسابق الصواريخ لتمحو كل أثر، تتشبث الأرواح بتفاصيل صغيرة من زمن السلام؛ برائحة مفرش، أو طاولة خشبية، أو حتى لوحة نجت بمعجزة من تحت الركام.

ريهام خالد البطنيجي، فنانة تشكيلية من غزة تبلغ من العمر 27 عامًا، وجدت نفسها وسط الحرب لا تحمل سلاحًا، بل لوحات ورسومات، تقول: "في لحظة ما، شعرت أن الفن أقوى من القصف.. أن هناك دومًا شيء يستحق أن نتمسك به".

بدأت البطنيجي رحلتها في الرسم بعد حرب 2008، حين وجدت في الفن وسيلة للتعبير والهروب من واقع ثقيل، ومع توالي الحروب، تحوّلت لوحاتها إلى ملاذٍ نفسي، تُفرغ فيها ما يعجز لسانها عن قوله.

حينما قُصف منزلها خلال الحرب الحالية، هرعت ريهام إلى الركام، وانتشلت لوحاتها المحطمة: "لا أعرف شعوري في تلك اللحظة... كنت واقفة بين الحزن على بيتي والفرح لأن لوحاتي نجت، شعرت أنها رسالة بأن الفن يمكن أن ينجو، وأن الأمل لا يزال حيًا وسط هذا الظلام".

وتضيف: "الرسم هو المتنفس الوحيد في وسط الفوضى والدمار، أبحث عن قصة أو ضوء صغير يمكن تحويله إلى لوحة"، في سكتشاتها الأخيرة، تحضر مشاهد مثل النزوح، المجاعة، حياة الخيام، وحتى نظرات الأطفال الحافية الذين يركضون خلف سيارة طعام، هذه ليست مجرد خطوط على ورق؛ إنها سرديات بديلة، ترمم ذاكرة مهددة بالمحو.

ووسط عتمة خيمة بالية، أضاء هاتف السيدة غدير وهي أم لطفين، حنين الذكريات فبدأت تتصفح صور بيتها القديم. تنشر غدير الصور على مواقع التواصل رغم الألم، لأن "البيت مش بس حجار، البيت روح وتعب وضحكات عيلة"، كما تقول.

كانت هذه السيدة دائمًا توثق ديكورات بيتها، وتشاركها مع متابعيها الذين كانوا يتابعونها لأخذ أفكار، الآن، بعدما تحول بيتها إلى رماد، تعود لتلك الصور كأنها تشمّ عبرها رائحة القهوة أو تسمع ضحكة من كان يمر في الزاوية.

تروي غدير: "وقت أشارك الصور، في الأول بشعر بغصة، بس بعدين ببدأ أتذكر يوم الصورة، شو صار، وبنبسط"، شعور مزدوج من الخسارة والدفء، لكنه بالنسبة لها شكل من أشكال المقاومة، للحفاظ على ذاكرة المكان من أن تُبتلع في سيل النسيان".

ابنها سألها ذات مرة: "لو أخدنا سريري معنا يا ماما؟". ردّت عليه: "بكرا بتخلص الحرب بعملك أحلى غرفة نوم"، فبدأ يخطط ويتخيل، في خضم الركام، يُستدعى الأمل من الذاكرة، ويُزرع في خيال طفل لم يعرف غير الحرب.

غدير ترى أن الحنين هنا ليس مجرد عاطفة، بل أداة تربوية ونفسية، فهي تشرح لأطفالها معنى "البيت القديم" عبر الصور، ليعرفوا أن الحياة لم تكن دائمًا خيامًا وركامًا، بل كانت هناك ستائر، أطباق، وطاولة مفضلة تروي تفاصيل الأيام.

ورغم انقطاع الكهرباء والإنترنت، تصرّ على مواصلة التوثيق، وتقول: "مافي شي بنحكى قدام هالألم، غير إنو الله يرضينا، بس لو بقدر أسترجع شغلة من البيت؟ مفرش سريري الأبيض... جبتو يوم ولادة بنتي، كل شي بتعلق بالبيت بيحمل ذكرى".

وهنا، يتقاطع ما تفعله ريشة ريهام وصور غدير مع ما تسميه الأخصائية النفسية فاتن شلح بـ"حيل الدفاع النفسي". حيث ترى فاتن أن استعادة الماضي وتفاصيله، سواء من خلال الفن أو الصور أو حتى الحكاية، هو "أحد أشكال التعويض النفسي، حيث يحاول الإنسان سد فجوة النقص الحالية باللجوء لما كان يمنحه شعورًا بالاستقرار والأمان".

وتوضح شلح:"الأشخاص الذين يمرون بصدمات كبيرة مثل فقدان المنزل أو الأحبة، ينقسمون في تعاطيهم مع الماضي: منهم من يستخدم الذكريات لتهوين الواقع، ويتابع حياته بشكل طبيعي... ومنهم من يرفض الحاضر ويتمسك بالماضي كليًا، وهؤلاء أكثر عرضة للاضطرابات النفسية كالاكتئاب".

وتشدد على أن العودة للماضي ليست سلبية بحد ذاتها، بل تصبح أداة دعم نفسي قوية إذا لم تُعطل الحياة الحالية، قائلة: "الحنين في هذه الحالة يؤكد على الهوية، ويُبقي جذور الانتماء حيّة، شريطة ألا يتحوّل إلى عائق عن التكيّف مع الواقع الجديد".

في المدينة المدمرة، لا يُستخدم الحنين للهروب من الواقع، بل لمواجهته، إنه الجسر بين ما سُرق وبين ما لا يزال حيًا في الذاكرة، بين ركام المنازل ونبض الأرواح، فالصور، واللوحات، وحتى مفرش أبيض قديم، تتحول إلى أسلحة ناعمة في معركة الصمود، هنا، يُرمم الماضي القلب، ويزرع في الحاضر بذور أمل لا تنكسر.

ملاحظة : هذا النص مخرج تدريبي لدورة الكتابة الإبداعية للمنصات الرقمية ضمن مشروع " تدريب الصحفيين للعام 2025" المنفذ من بيت الصحافة والممول من منظمة اليونسكو.

المصدر : وكالة سوا - حنين الحرازين اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من آخر أخبار فلسطين بين القاهرة والأراضي الفلسطينية: شباب يربون الأمل قائمة جديدة بأسماء 20 معتقلا من غزة وأماكن احتجازهم وفاة رئيس هيئة الجدار والاستيطان السابق الوزير وليد عساف الأكثر قراءة الرئيس عباس يمنح الفنان محمد حسين عبد الرحيم وسام الثقافة حماس تعقب على استشهاد 5 صحفيين في غزة قناة عبرية تكشف: قوات الجيش العاملة في غزة تلقت تعليمات جديدة الجيش الإسرائيلي: بدأنا عملية برية في عدة مناطق داخل قطاع غزة عاجل

جميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025

المصدر: وكالة سوا الإخبارية

إقرأ أيضاً:

برج ترامب في دمشق .. استثمار أم محاولة لاستمالة قلب رجل البيت الأبيض؟

كشفت صحيفة الجارديان البريطانية عن تفاصيل مشروع عقاري ضخم يحمل اسم "برج ترامب دمشق"، وهو ناطحة سحاب مقترحة تتكون من 45 طابقًا، وتبلغ كلفتها التقديرية ما بين 100 و200 مليون دولار. 

الهدف من المشروع لا يقتصر على الاستثمار العقاري، بل يسعى، بحسب القائمين عليه، إلى إعادة سوريا إلى المشهد الدولي، وفتح الباب أمام تطبيع العلاقات مع أمريكا بعد سنوات من العزلة والعقوبات.

ووفقا للصحيفة، فقد تم طرح المشروع كوسيلة لجذب اهتمام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في وقت تسعى فيه الحكومة السورية الجديدة إلى رفع العقوبات الأمريكية واستعادة العلاقات مع واشنطن.

وقال وليد محمد الزعبي، رئيس مجموعة "تايجر" الإماراتية التي تتولى تطوير المشروع: "هذا المشروع هو رسالتنا، هذا البلد الذي عانى طويلا، خصوصا في السنوات الخمس عشرة الأخيرة من الحرب، يستحق أن يخطو نحو السلام".

وتخضع سوريا لعقوبات أمريكية منذ عام 1979، إلا أن هذه العقوبات تصاعدت بشكل حاد بعد عام 2011. وعلى الرغم من الإطاحة بالرئيس بشار الأسد في ديسمبر الماضي على يد فصائل معارضة، فإن أمريكا واصلت فرض العقوبات بحذر من الحكومة الجديدة التي تقودها تيارات دينية.

لكن، وبفضل وساطة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وتقديم الحكومة السورية لعدد من الحوافز السياسية والاقتصادية، أعلن ترامب الأسبوع الماضي عن رفع جميع العقوبات على سوريا، والتقى بالرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، واصفًا إياه بـ"الرجل الجذاب والقوي".

بحسب الزعبي، فإن المشروع ما زال في مرحلة التخطيط، وسيقوم خلال هذا الأسبوع بتقديم طلب رسمي للحصول على التصاريح من الحكومة السورية، إضافة إلى التفاوض مع مؤسسة ترامب للحصول على حقوق استخدام العلامة التجارية. وأكد أن تنفيذ البرج قد يستغرق ثلاث سنوات بعد الحصول على التراخيص اللازمة.

لكن تبقى هناك تحديات كبيرة، أبرزها الغموض حول تفاصيل رفع العقوبات، والوضع الاقتصادي المنهار في سوريا، حيث تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن 90% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، ويعانون من انقطاع الكهرباء والخدمات الطبية الأساسية.

بحسب التقرير، فإن فكرة برج ترامب في دمشق ولدت في ديسمبر الماضي بعد أن طرحها النائب الجمهوري جو ويلسون في الكونجرس. وقد تبناها لاحقًا الكاتب السوري رضوان زيادة المقرب من الشرع، وطرحها على الزعبي الذي بدأ بتطوير المخطط الأولي للمشروع.

وفي إطار حملة دبلوماسية متكاملة، استقبلت دمشق وفودًا من رجال الأعمال الأمريكيين وأعضاء في الكونجرس، كما نظمت زيارات إلى سجون ومناطق مسيحية في ريف العاصمة، فيما التقى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني بعدد من الزعماء الروحيين المقربين من إدارة ترامب في نيويورك.

وأشار زيادة إلى أن المشروع لاقى حماسا من السفارة السعودية في دمشق، وأن تصور البرج قد أرسل إلى الدوائر القريبة من ترامب عبر قنوات غير رسمية.

طباعة شارك ترامب دمشق الشرع

مقالات مشابهة

  • طريقة عمل الشاورما السوري في البيت
  • وزيرة البيئة تلتقى منسق المبادرة الأفريقية للتكيف لبحث آليات تعزيز التعاون المشترك
  • طارق الشناوي ينتقد فنانا شهيرا: فقد توازنه النفسي والعقلي
  • مسؤول بـ«الحج والعمرة»: مركز الرصد والتحكم يوظف التقنيات الحديثة لمتابعة رحلة الحجاج
  • السودان على بعد خطوة من العودة إلى البيت الأفريقي
  • مختص يكشف علامات تدل على الإصابة بالكبت النفسي .. فيديو
  • برج ترامب في دمشق .. استثمار أم محاولة لاستمالة قلب رجل البيت الأبيض؟
  • عاجل. ‌‏البيت الأبيض: ترامب أكد أن الاتفاق المحتمل مع إيران يسير في الاتجاه الصحيح
  • الحدث بواشنطن والتداعيات في إسرائيل.. هل يوظف نتنياهو مقتل الدبلوماسيين سياسيا؟