رحلتي من تلميذ إلى مُتعلّم
تاريخ النشر: 25th, May 2025 GMT
أحمد السعدي
لم أكن أَعرِفُ أنَّ ثَمَّةَ فَرْقًا بين أن أكونَ "تلميذًا" أو "طالبًا"، وأن أكونَ "مُتعلِّمًا". كانتِ الكلمتانِ، في ذهني، مُترادفتينِ تمامًا. أن تَدخُلَ إلى قاعةِ الدرس، تَجلِسَ في المَقعدِ المُخصَّصِ لك، تُخرِجَ دَفترَك وقَلَمَك، تُصغيَ لِما يُقال، تُدوِّنَ ما يُكتَب، تَحفَظَه لاحقًا، وتَسترجِعَه ليلةَ الامتحان.
ولفَترةٍ ليستْ بالقَصيرة، كُنتُ مِثالًا جيدًا على هذا النَّموذج. كُنتُ أُنفِّذُ التَّعليماتِ بِدِقَّة، أَحصُلُ على دَرَجاتٍ جيِّدة، أَلتزِمُ الصَّمتِ داخِلَ الحصص، أُسجِّلُ حُضوري، وأُغادِرُ في الوقتِ المُحدَّد. لا أحدَ كان يَشتكي من سُلوكي، ولا أحدَ كان يَتوقَّعُ منّي أكثرَ مِمّا كُنتُ أُقدِّمُه. وكُنتُ أنا، في قَرارةِ نَفسي، راضيًا تمامًا، ظانًّا أنَّني أَقومُ بدَوري على أَكمَلِ وجه.
لكنِّي لم أكن أَشعُرُ بِشيء.
لم أكن أفرَحُ حين أنجَح، ولا أَحزنُ حين أُخطئ، ولا أَتأمَّلُ فيما بينَ السُّطور. كُنتُ حاضرًا بجَسَدي، وربما غائبًا بعَقلي، مُؤدِّيًا بِبُرود، لا عَلاقةَ لي فِعلًا بما أَتعلَّمُه. لم أكن أَطرَحُ الأسئِلة، ولا أَتجرَّأُ على التَّفكيرِ خارِجَ ما هو مَكتوب ومَنصوص عليه. كُنتُ تلميذًا جيِّدًا... فقط، لا أكثر.
ثمَّ جاءَت تِلكَ اللَّحظةُ الفارِقة. لم تكن صاخبة، بل جاءَت بهُدوءٍ يُشبِهُ النُّورَ حينَ يَتَسلَّلُ من نافِذةٍ ضَيِّقة. دَخَلتُ إلى أحدِ المُقرَّراتِ الجامعيَّة، كعادتي، بِقَلَمي ودَفترِ مُلاحظاتي. لكنَّ المُعلِّمَ لم يَفتَح كِتابًا، ولم يَستَخدِم شَريحةَ عَرض، ولم يَبدأ بشرحٍ تقليديّ. نَظَرَ إلينا وقال: "لا أُريدُ مِنكم أن تُحضِّروا الدرس... أُريدُ أن نَستكشِفَه معًا."
في البداية، لم أَفهَم. كَيف نَتعلَّم من غيرِ شَرح؟ كَيف نَصلُ إلى المعلومةِ دون أن تُقالَ لنا؟
لكن، مع مَرورِ الوقت، فَهِمتُ اللُّعبةَ الجميلةَ التي كانَ يَقودُنا إليها: كانَ يَطرَحُ سُؤالًا، ويَترُكُنا نُخطئُ عَمدًا، ثمَّ يَنسُجُ من أَخطائِنا خُيوطًا تَقودُنا شيئًا فشيئًا نحوَ الإجابة الصحيحة، الإجابة التي اعْتدتُ أن أتلقّاها بكل سهولة، وأنساها بكُلِّ سهولةٍ أيضًا. لم يَكن يَستهزئُ بأيِّ إجابة، بل كانَ يَلتقِطُ منها ما يَشاء، ويُعيدُ تَشكيلَها، ويُقرِّبُنا خُطوةً بعد أُخرى من المَفهومِ الذي نَبحثُ عنه. لم يكن يُعلِّمُني، بل كانَ يَجعلُني أُعلِّمُ نَفسي.
في تِلكَ اللَّحظة، بدأَ التَّحوُّل.
بدأتُ أَشعُرُ بِشيءٍ مُختلِف، وجَديد. شَعرتُ بأنَّ لي يَدًا في بِناءِ ما سأعرِفُه، لا أنَّني فقط أتلقّاه، بأنَّ رَأيي لهُ وَزنٌ، حتى لو كانَ ناقصًا، بأنَّ الخَطأ لا يَعني أنَّني فاشِل، بل أنَّني تَجَرَّأتُ على التَّجرِبة.
وبَينَ دَرسٍ وآخَر، وبينَ حِوارٍ وسُؤال، بدأتُ أَبتَعِد، دون أن أَشعُر، عن كَوني مُجرَّدَ "تلميذ". بدأتُ أَتَحوَّلُ إلى "مُتعلِّم".
صِرتُ أَقرَأ لا لأنَّ هُناكَ امتحانًا، بل لأنَّ فِكرةً ما أَثارت فُضولي. صِرتُ أَبحَثُ عن المَعنَى قبلَ أن أَبحَثَ عن الإجابة. صِرتُ أُدوِّنُ مُلاحظاتيَ الخاصَّة، لا فقط ما يُملَى عليّ. صِرتُ أَسأل، لا لأُظهِرَ ذَكائي، بل لأنَّ هُناكَ فَجوةً في الفَهم تُقلِقُني، وأُريدُ أن أَملأها.
بدأتُ أَعيشُ التعلُّم، لا أُمارسُه فقط.
كانَ التَّحوُّلُ بَطيئًا، لكنَّه كانَ فِعلِيًّا.
كُنتُ أُواجِهُ تساؤُلًا داخليًّا: هل ما أَفعَلُه صحيح؟ هل يُسمَح لي أَصلًا أن أفعلَ هذا؟
لكنَّ شيئًا ما بداخلي كانَ قدِ استَيقَظ فعلًا. شيءٌ لا يُريدُ العَودةَ إلى الصَّمت.
معَ الوقت، أَدرَكتُ الفَرقَ العَميقَ بينَ التلميذِ الذي يُجيدُ تنفيذ ما يُملى عليهِ، والمُتعلِّمِ الذي يُتقنُ التَّساؤل.
الأوَّل يَنجَحُ غالبًا، لكنَّه لا يَتغيَّر.
أمَّا الثَّاني، فقد يُخطئ، لكنَّه يَنضُج، ويتطوَّر، ويتعلَّم.
التلميذُ يَنتظِرُ المعلومة، أمَّا المُتعلِّمُ فيذهَبُ ليَبحثَ عنها.
التلميذُ يَتعاملُ معَ التَّعليمِ كَفرضٍ، أمَّا المُتعلِّمُ فيراهُ حَقًّا وفُرصَة.
التلميذُ يَحفَظ، والمُتعلِّمُ يَفهَم ويطبق ويحلل وينتقد.
التلميذُ يتخرَّج، وغالبًا ما يَكتفي بذلك، والمُتعلِّمُ يُواصِلُ التعلُّمَ مدى الحياة.
في لَحظاتٍ كثيرة، ما زِلتُ أَعودُ إلى عَقلي القَديم. أحيانًا أَتعامَلُ معَ الدَّرسِ كَواجِب، وأَبحَثُ عن الإجابةِ الأسرَع، وأُسكِتُ السُّؤالَ الداخليَّ كَي لا أَتأخَّر.
لكنَّني، على الأقل، صِرتُ أُدرِكُ هذا الفَرق.
صِرتُ أَلتقِطُ نَفسي حينَ أَسلُكُ طَريقَ الحِفظ فقط.
صِرتُ أقولُ لنَفسي: "تَمهَّل... لا تَكُن تلميذًا فقط، تَذكَّر أنَّك مُتعلِّم".
أنا اليومَ أَسيرُ في هذه الرِّحلة، وما زالَت أمامي مَسافاتٌ طويلة.
لكنَّها لم تَعُد طريقًا مَفروضةً عليَّ، بل طريقًا اخترتُها.
لستُ فيها أَركُضُ خلفَ العَلامة، بل أَسيرُ نحو الفَهم، نحو التَّغيير، نحو إنسانٍ أَوسَعَ أُفُقًا، وأَعمقَ فِكرًا.
وهذه، في رأيي، هي أَسمى غاياتِ التَّعليم:
أن يتحوَّلَ التلميذُ من مُتلقٍّ إلى شَريك،
ومن حافِظٍ فقط إلى باحِث،
ومن مُنفِّذٍ إلى متسائِل،
ومن تلميذٍ إلى مُتعلِّم.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
على طريقة “الباشا تلميذ”.. عامل مصري يفض مشادة طلابية بالمياه
أشعل عامل في مدرسة مصرية مواقع التواصل الاجتماعي بعدما فضّ شجاراً بين الطالبات بطريقة خارجة عن المألوف، حيث استل خرطوم مياه وبدأ في رشّهن لإنهاء المشادات التي نشبت بينهن، في تصرف أعاد اسم فيلم “الباشا تلميذ” للواجهة مجدداً.
وبحسب الفيديو الذي التقطه أحد سكّان البنايات المجاورة للمدرسة بهاتفه المحمول، ظهر العامل وهو يستخدم أسلوباً طريفاً وغير تقليدي لفضّ تدافع واشتباك الطالبات، ملوّحاً بالخرطوم تارة، وموجهاً المياه نحوهن تارة أخرى.
المثير في الأمر أنه ذكّر الجميع بمشهد شهير من فيلم “الباشا تلميذ”، حين قام النجم كريم عبد العزيز بنفس الحركة خلال مشاجرة داخل حفل زفاف، إذ استعان بخرطوم مياه لرشّ المعازيم، في محاولة منه للسيطرة على الوضع.
الفيلم الذي عُرض في عام 2004، شارك في بطولته باقة من النجوم منهم كريم عبد العزيز، وغادة عادل، وحسن حسني، ومحمد رجب، ورامز جلال، وغيرهم، ومن إخراج وائل إحسان وتأليف بلال فضل.