أكّدت التجارب أنّ الظروف الصعبة هي الكفيلة بصنع رجال قادرين على بناء حياة أفضل لهم ولسواهم، وهناك مثل شائع يقول: «المحيطات الهادئة لا تصنع بحّارة ماهرين» ، فالعواصف الشديدة التي تهبّ من كلّ اتّجاه على مياه البحار، والمحيطات، ترفع الموج عاليا، فتتحوّل السفن الضخمة، إلى أوراق قلقة في مهبّ ريح عاتية، وهنا تبرز القدرات الذاتية التي تميّز فردا عن سواه، وتُظهر معادن الأشخاص، وتصقلهم، كما أنّ هذه العواصف تكسب البحّارة خبرة في التعاطي معها، عكس الرياح الهادئة التي تمرّ بهدوء، وسلام، و«الضربات القويّة إذا لم تكسر الظهر تقوّيه» كما يقال.
وتأسيسا على ما سبق، فإنّ الظروف الصعبة التي عاشها العمانيون قبل السبعينيات، وفي بداياتها، أكسبتهم مهارات، وأظهرت قدراتهم، ومنحتهم قوّة في مواجهة منعطفات الحياة، وصعوباتها، والسيد سالم بن ناصر البوسعيدي، الذي غادر عالمنا قبل أيام قليلة، واحد من هؤلاء الرجال الذين حفروا بالصخر، لينبجس ينبوع الماء العذب، لترتوي منه الأجيال الجديدة، فيصدق به الوصف كونه عصاميا، وفي ذلك استدعاء لقول الشاعر العربي:
نفسُ عصام سوّدت عصاما
وعلّمته الكرّ والإقداما
الذي صار مثلا سائرا، ويتضمّن إشارة تُحيل إلى عصام بن شهبر الجرمي الذي نجح بجهوده الشخصية وكفاحه واعتماده على نفسه، دون أن يتكئ على إرث عائلي، أن ينتقل من إنسان بسيط إلى شخصيّة مرموقة في المجتمع لها مكانتها، حتّى صار حاجبا للنعمان بن المنذر حاكم المناذرة، وأشهر ملوك العرب قبل الإسلام، ولم يكن يبلغ تلك المرتبة العالية لولا جدّه واجتهاده، وحرصه على تطوير الذات .
و(عصاميّة) السيّد سالم بن ناصر البوسعيدي، رحمه الله، ظهرت حين أجبرته ظروف أسريّة بعد فقد الوالد إلى ممارسة شتّى الأعمال في سنّ مبكّرة، ليعيل أسرته، ليس فقط بالعمل داخل سلطنة عمان، بل حتى في خارجها، ورغم قسوة تلك الظروف، إلّا أنّ الراحل لم يهمل الدراسة، إيمانا منه بأنّ العلم هو الذي يبني الإنسان، ويدفعه للأمام يقول شقيقه السيد قحطان بن ناصر البوسعيدي عن الراحل «كان يعمل صباحًا ويدرس مساءً، وكان تركيزه منصبًّا بشكل كبير على دراسة اللغة الإنجليزية في مدارس خاصة، كما كان يتابع ويراسل إذاعة تبثّ من هولندا تقدّم دروسًا في اللغة الإنجليزية لغير الناطقين بها، وبعد اكتشاف النفط في سلطنة عمان عمل في شركة النفط العُمانية، ووصل إلى درجة كبار موظفي الشركة وابتُعث من الشركة إلى بريطانيا لدراسة الكمبيوتر»، وكانت النقلة الأهمّ في حياته حدثتْ بعد تولّي السلطان قابوس بن سعيد – طيّب الله ثراه - مقاليد الحكم في البلاد، فقد «أُبتُعث إلى لبنان لدراسة إدارة المطارات في مطار بيروت، ثم إلى اسكتلندا في دورة لقيادة الطائرات، وشغل موقع مدير الطيران المدني تمت ترقيته إلى وكيل وزارة المواصلات، ثم عُيّن وزيرًا للمواصلات، وقد ناب عن السلطان قابوس – طيّب الله ثراه- في رئاسة مجلس حماية البيئة، ومثّل السلطنة في كثير من المؤتمرات، وكُلّف عدة مرات بإلقاء كلمة عُمان في الأمم المتحدة، ثم عُيّن رئيسًا للمجلس الاستشاري، ثم مستشارًا للدولة «هذه السيرة المرصّعة بنياشين الإنجازات المهنيّة والوطنية، تقدّم نموذجا للرجل العصامي، الذي صعد سلّم النجاح درجة درجة، ولم تتوقّف أنشطته، حتى بعد تقاعده عن العمل الوظيفي، فقد واصل جهوده الحثيثة في تقديم الخدمات المجتمعيّة، ساعيا في أعمال الخير، يلتقي بمحبّي الثقافة والأدب في مجلسه العامر، الذي كان يقيمه أسبوعيا مساء كلّ أربعاء، ثم صار كلّ شهر، ولم يتخلّ عن أهله وناسه، تشهد على ذلك جهوده في( صاد) و(الفتح) التابعتين لولاية (بوشر)، حيث بنى مسجد الفتح، ومسجد صاد وجامعًا كبيرًا في مرتفعات بوشر الغربية، أسماه باسم والده هو جامع (السيد ناصر بن خلفان البوسعيدي)، وبنى مجلسًا كبيرًا ملحقًا بالجامع، وقاعة كبيرة للمناسبات، إلى جانب جهود أخرى كثيرة، وهذه الخدمات تمثّل قاسما مشتركا بين الأشخاص العصاميين، كونهم عركوا الحياة، وذاقوا مرّها، قبل أن تبتسم لهم، ويتذوّقوا حلوها، مثلما يبتسم البحّار الماهر بعد أن تتكسّر موجة عنيدة على صدر مركبه الذي صرعها، وظلّ يسير بثقة وعزيمة في مياه محيط الحياة الصاخب.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
اعتراف إسرائيلي بمعاناة الأسرى الفلسطينيين من الجوع الحاد الظروف الصحية القاسية
أظهر تقرير رسمي لدى الاحتلال الإسرائيلي أن الأسرى الفلسطينيين في سجونه يعانون جوعا حادا واكتظاظا شديدا وظروفا صحية قاسية، وأن ظروف اعتقالهم تدهورت كثيرا منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
وكشف تقرير لمكتب الدفاع العام التابع لوزارة القضاء الإسرائيلية الخميس، ويستند إلى زيارات ممثلي المكتب لسجون عديدة، أنه "بعد اندلاع الحرب، وضعت الشرطة قائمة طعام ضئيلة للسجناء الأمنيين"، بحسب ما نقلت صحيفة "هآرتس".
وأوضح أن هذا الوضع "تسبب لهم في جوع حاد يظهر في فقدان الوزن الشديد وظواهر بينها ضعف جسدي شديد وإغماء، وزيادة عدد السجناء والمحتجزين زادت من الاكتظاظ في السجون"، بحسب مكتب الدفاع العام الإسرائيلي".
ويذكر أن الاحتلال يحتجز أكثر من 9 آلاف و300 أسير فلسطيني، بينهم أطفال ونساء، في سجونه، وفقا لتقارير حقوقية فلسطينية وإسرائيلية.
وأضاف المكتب "وبالتالي تم احتجاز 90 بالمئة منهم في مناطق معيشية تقل مساحتها عن ثلاثة أمتار مربعة.. وفي نهاية 2024، كان لدينا نحو 4500 سجين بدون سرير".
وأفاد مكتب الدفاع العام بأن ممثليه زاروا سجون رامون ومجيدو وأيالون وشاتا وإيشيل وكتسيعوت عامي 2023 و2024، مضيفا أن الأسرى "محتجزون لمدة 23 ساعة يوميا في ظروف مكتظة بشدة، والعديد منهم ينامون على مراتب على الأرض".
وأردف: "يتم احتجازهم بزنازين مظلمة بدون إضاءة وظروف صحية قاسية واختناق بدون تهوية.. وهذا وضع خطير.. وزنازينهم خالية من أي مستلزمات باستثناء القرآن".
وأفاد بأنهم "يجدون صعوبة في الحفاظ على النظافة لندرة مواد مثل ورق التواليت والصابون والمنشفة، وفي بعض الأقسام، تطور مرض الجرب أحيانا إلى حد الوباء، مما أثر على العديد من السجناء".
وتابع: "أبلغ سجناء عن عنف شديد ومنهجي من جانب الحراس.. وأحيانا تقييد الوصول لمياه الشرب. قالوا إن العنف لم يكن ناجما عن أحداث محددة، وليس ردا على حوادث تطلبت استخدام الحراس للقوة".
وفي هذه الظروف القاسية "لا يتلقى السجناء الذين يعانون من حالات نفسية معقدة العلاج اللازم"، بحسب مكتب الدفاع العام.
وعلى مدار عقود لم تحّسن "إسرائيل" ظروف اعتقال الفلسطينيين، رغم تقارير محلية ودولية عن تجويع وتعذيب وإهمال طبي.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أفادت جمعية "أطباء لحقوق الإنسان" في إسرائيل بمقتل ما لا يقل عن 98 فلسطينيا بالسجون الإسرائيلية في العامين الماضيين.
وتصاعدت جرائم "إسرائيل" بحق الأسرى منذ بدأت حرب الإبادة، التي خلّفت في غزة أكثر من 70 ألف شهيد ونحو 171 ألف جريح، معظمهم أطفال ونساء.