ثمة نسق حِجاجي مركزي للقرآن، استمدَّ منه -بدرجات متفاوتة- كافَّة المتكلمين والمجادلين عن الدين شتَّى أنساقهم في تقرير العقائد الإسلاميَّة. والقرآن يؤسس لنسقه الحجاجي هذا بلفظة: "قُل" المركزيَّة، التي وردت في التنزيل العزيز ما يَقرُب من 350 مرَّة.
وهو نسقٌ يختلفُ عن أنساق علم الكلام، وإن استمدَّت منه الأخيرة تقريراتها ومُسلَّماتها وأكثر أدواتها.
وحين تمد الآلة الكلامية الخط على امتداده؛ فإنها تعتسف استعمال المقررات القرآنية للاستدلال على أنساق عقديَّة نظرية، تمخَّضت عنها تأويلات المتكلم ووضع بنيانها في ذهنه -مستلهما القرآن كما يُفترض به!- وهذا إشكالي مُلبِس؛ لأن المتكلم يبني النسق أولا بناء على تصوره، ثم قد يعتسف استعمال النصوص في الاستدلال عليه. ولو أنه لم يَبنِ شيئا في الاعتقاد يَستَدِلُّ عليه، وقصر الاستدلال بالقرآن على ظاهر ما قرَّره التنزيل نفسه، وتوقَّف فيما وراء ذلك؛ لانتفى علم الكلام كله. فإن الحركة السوسيومعرفيَّة انطلاقا من قلب النسق القرآني نفسه وانسجاما مع أغراضه، شيء آخر غير الحركة الآتية من خارجه مُحاوِلَة الاستدلال على ما قد يجد المتكلم في نفسه بأثر السجال مع أنساق غيره من الإسلاميين أو من الكفار!
حين تمد الآلة الكلامية الخط على امتداده؛ فإنها تعتسف استعمال المقررات القرآنية للاستدلال على أنساق عقديَّة نظرية، تمخَّضت عنها تأويلات المتكلم ووضع بنيانها في ذهنه -مستلهما القرآن كما يُفترض به!- وهذا إشكالي مُلبِس؛ لأن المتكلم يبني النسق أولا بناء على تصوره، ثم قد يعتسف استعمال النصوص في الاستدلال عليه
وقد ولَّد نسق الحجاج القرآني هذا موقفين مُتناقضين بين علماء الإسلام على طول التاريخ؛ فإن منهم من اصطفَّ مؤيدا لعلم الكلام يحدوه إدراكه لهذا "العلم" بوصفه اطرادا لنسق الحجاج القرآني، الذي استُدِلَّ به على جواز استعمال الآلة والاطراد معها، ومنهم من نبذه وكرهه وأهدره لكثرة ما يعتري جمهرة أنساقه من تكلُّف ولغو، وخروج على نسق الحجاج القرآني وغاياته ومقاصده؛ وهؤلاء وجدوا في القرآن وحجَّته الكفاية لكل سائل.
إن أزمة علم الكلام -أو الحجاج البشري عموما- هي الإغراق السجالي في التأول، والتكلُّف فيه إثباتا ونفيا لتصورات عقدية نظرية غالبا لم يُصرح بها التنزيل العزيز -من قرآن وسنة- وإنما استنبطها المتكلم اعتسافا في كثيرٍ من الأحيان، ما أدى لبناء نماذج/ أنساق نظرية تخرج -بما تحويه من بقايا الأنساق التي تُخاصمها وتساجلها- خروجا شبه كامل على نسق الحجاج القرآني في كل ما اختطه هذا النسق الإلهي.
أنماط الحِجاج القرآني
وإذا كان مفتاح النسق الحجاجي القرآني وقلبه هو استفتاح القرآن الكريم كلامه بـ"قُل"، فإن مفتاح إدراك طبيعة استعمال هذه اللفظة هو تكرارها أربعا وأربعين مرَّة في سفر الحجاج الأعظم، والفصل العقدي الأشمل: سورة الأنعام الزكيَّة؛ أكثر السور التي وردت فيها هذه اللفظة المفتاحيَّة.
إذ يُلقن رب العزة حضرة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيها ما يُحاجج به قومه، أو ما يُحاجج به المؤمنين، أو حتى ما يُحاجج به نفسه الشريفة من ذكر ودعاء وإخبات في المواقف المختلفة، وهي الأنماط الثلاثة الأهم -على الإطلاق- للحجاج القرآني. ففي كل مرة تُتلى "قُل" في القرآن تقريرا لحقيقة كونيَّة/ عقديَّة أصيلة من الحقائق الكبرى التي تنزَّلت على الأنبياء كافَّة، وآمن بها المسلمون من لدن آدم -عليه السلام- كان في ذلك تقريرا لما يجب أن يُحاجج به حضرة النبي المجادلين والمنكرين من المشركين والكفار؛ تنبيها لهم إلى الحقائق الكبرى التي تُعيدهم إلى الله، وإقامة للحجة عليهم؛ ففيها تقرير إلهي أُمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإبلاغه صراحة كما هو، لأن الكافر لا يسعه التفلُّت من هذه الحجة الداحضة إلا بهوى. فجُعِلَت هذه المواطن عصب تأسيس "الدرس الكلامي" في سجال الإسلام مع الكفار. ثم نجد الشطر الثاني أو النمط الثاني هو ما يحتج به حضرة من لا ينطق عن الهوى على من اتبعه؛ ترسيخا لاعتقاد المسلمين، أو تقريرا لتشريع إلهي أو ناموس كوني مُنبثق من الحقائق العقديَّة أو الكونية الكبرى، بيد أن نفوس أهل الصدر الأول قد تكون غافلة عن اتصالهما لقُرب عهد بالجاهليَّة؛ فينزل القرآن مُنبها وموجها ومصوبا أحيانا في تلقين مباشر لحضرة سيدنا النبي، يُمثِّل استفتاحا للدرس الكلامي "الإسلامي-الإسلامي".
أما النمط الثالث فهو ما يحتج به القرآن على بشريته صلى الله عليه وآله وسلم -بوصفه نبيّا يوحى إليه- تعليما له وتربية لأمته. ويغلِب أن يكون دعاء أو ابتهالا يُحاجج به حضرته ما بقي من بشريته في نفسه الشريفة المطهَّرة؛ ليستكمل سوقها إلى الله بالقول والعمل، باللسان والجنان، بالقلب وبالجوارح؛ وهي لعمري أعظم هذه التقريرات الإلهيَّة أثرا في نفس أهل الطريق العارفين، لكونها تنزَّلت ابتداء تثبيتا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهداية له إلى القول الواجب لزومه؛ إذ عنه تنبثق حركة الجوارح النبويَّة الشريفة المقرَّرة في علم الله تعالى.
بيد أن ذروة هذا النسق "الحجاجي" لم ترِد في سورة الأنعام، ولا حتى في غيرها من القرآن المكي؛ وإنما تنزَّلت نفيا لحوله وقوته صلى الله عليه وآله وسلم وتسليما منه -وممن آمن به- في سورة مدنيَّة "حركيَّة" من آخر ما تنزَّل من القرآن تمكينا لشرع الله في المجتمع المدني المسلم! ففي الآية رقم 154 من سورة آل عمران؛ يُقرر القرآن ردّا على من "يظنون بالله غير الحق ظنَّ الجاهلية" حين يتساءلون: "هل لنا من الأمر شيء؟"؛ فيُجيب القرآن نافيا مُطلق الحول والقوة: "قُل إنَّ الأمرَ كله لله"، وكان قبلها قد نفى عنه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في السورة نفسها (اﻵية رقم 128): "ليس لك من الأمر شيء". فكأن سلامة الاحتجاج بالنسق القرآني هي نفي الحول والقوة البشرية، وإسقاط التدبير عن النفس، بل ونفي كل شيء من "الإرادة" في هذا الباب؛ نفي كل شيء عدا شهود الله مُدبرا وشهوده رقيبا، قبل شهوده مالكا ليوم الدين. وهذا لعمري مَعلَمٌ عظيم.
مؤشرات ابتعاد النسق عن القرآن الكريم
فإذا كان نسق الحجاج القرآني يبلغ ذروته بنفي كل حول وقوة عن البشر، وأولهم حضرة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن الأنساق الكلامية البشريَّة تُجاهد عبثا لإثبات هذا الحول والطول بالمقدرة التأويلية، كأن هذه الأنساق تنفصل أحيانا وتكتسب حياة مستقلة لا تعود فيها مستمدة من القرآن ولا عاكسة لتصوراته. ولعل العُجمة أعظم أسباب تفاقُم هذه الحال، وأهم مؤشرات ابتعاد النسق عن القرآن. إذ كلما اطردت العجمة، وارتفع مدها؛ ابتعدت الأنساق الكلامية عن ظاهر القرآن وبيانه المعجز، ولجأت إلى التأول لسد ثغرات الاستعجام بكلام بشري ركيك خفيف؛ يعكس بوضوح تشوه الأنساق الكلامية. فكان ثاني أسباب ابتعاد النسق عن القرآن ومؤشراته هو الإفراط في التأول. كأن التوقُّف مسبَّة، رغم أنه تأدُّب مع رب العزة خصوصا في المواطن التي لم يُفصل فيها القرآن واكتفى بالإشارة.
كلما زاد الغلو -بازدياد التأول- المُبعِد عن القرآن قَصُر عُمر النسق وتسارعت مراحل حياته حتى كأنه يحث المسير إلى موت عنيف، وكلما خفَّ غلوه بلزومه القرآن في كل ما يُمكنه؛ طال عمَّر النسق فكأنه تبلور لحياة طويلة تطول ببركة التصاقه بالكتاب الكريم
ويبدو لنا أنه كلما ذابت الفروق الأعجمية بين القرآن والسياقات السوسيومعرفية، المولِّدة للأنساق الكلاميَّة؛ قلَّ التأول المعتسف، واقتربت الأنساق الكلامية من النسق القرآني، امتثالا لأمر ربنا سبحانه مُخاطبا حضرة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم (سورة الأنبياء؛ اﻵية رقم 45): "قل إنما أنذركم بالوحي"؛ بالوحي وحده دون سواه. وأمر حضرته بالتزام النسق القرآني وحده أمرٌ مُلزِمٌ لأمَّته -التي تتأسَّى به- من بعده. وربما صار بوسعنا أن نستقي من هذا أن النص الكلامي/ الفكري الذي يطول عمره، ويُنتفع به انتفاعا حقيقيّا؛ يُجسد نسقا اقترب به صاحبه من نسق الحجاج القرآني، وتحرك في ظلاله فلم يخرج عن مراده.
وهذا ينسحب أول ما ينسحب على المذاهب الكلامية الكُبرى؛ إذ كلما زاد الغلو -بازدياد التأول- المُبعِد عن القرآن قَصُر عُمر النسق وتسارعت مراحل حياته حتى كأنه يحث المسير إلى موت عنيف، وكلما خفَّ غلوه بلزومه القرآن في كل ما يُمكنه؛ طال عمَّر النسق فكأنه تبلور لحياة طويلة تطول ببركة التصاقه بالكتاب الكريم. والغلو لا يعني بالضرورة كثافة النسق؛ فقد يكون النسق كثيفا حافلا بالتصورات والمشاعر التي لا تخرج به من دائرة القرآن، وإنما الغالب أن يكون الغلو ذاته خفَّة وتسطيحا وتجويفا، ولو بدا للجاهل غير ذلك.
أما ثالث هذه المؤشرات فهي تحول النسق تدريجيّا إلى حجاب للقرآن، يحجب صاحبه ومُعتنقه والموغل فيه عن الوحي، بل قد تنتقل إليه "قداسة" القرآن وعصمته في روع الدراويش؛ فيتلهَّوا به عن الوحي ليُحجبوا عنه والعياذ بالله، "وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا".
هذا النسق الكلامي المنبوذ -بمفارقته للقرآن- ربما يكون هو ما دفع سيد قطب رحمه الله تعالى إلى إهدار "مُنتج" علم الكلام ومدونته وثماره، رغم أنه هو نفسه كان -في الغالب الأعم!- تجسيدا للاعتقاد الأشعري، كما كان نتاجه تعبيرا عن نسقٍ كلامي جديد، وإن أفنى عمره مجاهدا في صياغته بالقرآن ووصله بغاياته. بل إنه تجاوز نفسه في ذلك أحيانا كثيرة، وسعى لالتزام نسق الحِجاج القرآني؛ فتجده يرص الآيات تباعا بأقل قدر من التعليق -ولا أقول التأويل- لأنها تُعبِّر بذاتها عن كل ما تُعبِّد به المسلم ولا حاجة له بمزيد بيان. بل إنه يتفانى في ذلك مؤكدا -في غير موطن- أنه يود لو رص الآيات دون تعليق مطلقا؛ إذ وجد فيها "مجردة" كل إجابة. بيد أنه يضطر إلى التعليق أحيانا خشية ألا يُبصر قارئه ما أبصره هو بنور الله تعالى؛ فيُقدِّم للقارئ بما يعرف من الكلام، آخذا بيده إلى ما قرره القرآن. وكم من مرة تجده قد توقَّف، وتود أنتَ لو يُطيل ويُسهب، لكنك تُدرك بعدها أنه كان يُجاهد نفسه للزوم حدود النسق القرآني؛ فيَمُنُّ الله سبحانه وتعالى عليه بالتوفيق، وهو بعباده أعلم.
x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الكلام القرآني الحجة قرآن حجة تفسير كلام تاويل قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء رياضة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة مقالات اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة صلى الله علیه وآله وسلم علم الکلام من القرآن عن القرآن ر النسق التی ت
إقرأ أيضاً:
مكروهات شهر صفر.. 3 أفعال حذر منها النبي فتجنبها حتى آخره
ينبغي على المسلم معرفة مكروهات شهر صفر وتجنبها ، والحذر حيث نشهد الآن مستهل يومه الثاني، ومن ثم ينبغي عدم الوقوع في مكروهات شهر صفر من لحظاته الأولى إلى آخر أيامه، حتى لا نتعادل مع الجاهلية الأولى، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم - دائمًا ما يرشدنا إلى كل ما فيه خير وفلاح لنا في الدنيا والآخرة، وكذلك ينهانا عن كل ما فيه شر أو عذاب ، من هنا ينبغي تجنب مكروهات شهر صفر وبالتالي معرفتها أولاً، حتى لا نقع في المحظور ونكن من الخاسرين.
عُرف شهر صفر عند العرب في الجاهلية أنه شهر "التشاؤم"، لأن روح القتيل كانت ترفرف على قبر القتيل وتقول لأهله خذوا بثأري، واختلف في سبب تسميته بهذا الاسم فقيل: لإصفار مكة من أهلها، أي: خلوها إذا سافروا فيه، وقيل: سموا الشهر صفرا لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفرا من المتاع أي: يسلبونه متاعه، فيصبح لا متاع له.
وجاء في الحديث النبوي بشأن مكروهات شهر صفر عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر"، فالمقصود بصفر شهر صفر، كانت العرب يتشاءمون به ولا سيما في النكاح، فقيل إنه داء في البطن يصيب الإبل وينتقل من بعير إلى اخر والأقرب أن صفر يعنى الشهر، وأن المراد نفي كونه مشؤوما ؛ أي: لا شؤم فيه، وهو كغيره من الأزمان يقدر فيه الخير ويقدر فيه الشر.
وجاء عن التشاؤم بشهر صفر -الذي هو أحد أشهر السنة الهجرية لزعم أنه شهر يكثر فيه الدواهي والفتن- هو من الأمور التي نهى عنها النص النبوي الشريف. فقد ورد النّهي النبوي عن التشاؤم من بعض الأزمنة والشهور خاصة؛ وذلك كما في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ». وفي رواية أخرى للبخاري: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَر».
ويقول الإمام ابن عبد البر القرطبي في "الاستذكار" (8/ 424، ط. دار الكتب العلمية-بيروت): [وأما قوله: "ولا صَفَرَ" فقال ابن وهب: هو من الصفار يكون بالإنسان حتى يقتله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقتل الصفار أحدًا. وقال آخرون: هو شهرُ صَفَرَ كانوا يُحلِّونه عامًا ويُحَرِّمونه عامًا، وذكر ابن القاسم عن مالك مثل ذلك] اهـ.
وقال الإمام الطيبي في "شرح المشكاة" (9/ 2980، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز): [«ولا صفر» قال أبو داود في "سننه": قال بقية: سألت محمد بن راشد عنه فقال: كانوا يتشاءمون بدخول صفر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا صفر". قال: وسمعت مَن يقول: هو وجعٌ يأخذ في البطن، يزعمون أنه يُعْدِي. قال أبو داود: قال مالك: كان أهل الجاهلية يحلون صفرًا عامًا ويحرمونه عامًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا صَفَرَ»] اهـ.
شهر صفريعد شهر صفر هو أحد الشهور الإثنى عشر الهجرية وهو الشهر الذي بعد المحرم ، قال بعضهم : سمِّي بذلك لإصفار مكَّة من أهلها ( أي خلّوها من أهلها ) إذا سافروا فيه ، وقيل : سَمَّوا الشهر صفراً لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صِفْراً من المتاع ( أي يسلبونه متاعه فيصبح لا متاع له ) .
يعد صفر هو الشهر الثاني وفق التقويم الهجري، وسُمِّي بهذا الاسم نحو عام 412 م في عهد كلاب بن مُرَّة الجد الخامس للرسول -صلى الله عليه وسلم -.
وورد في تسميته بهذا الاسم عدة آراء، منها ما يقول إنه اكتسب هذا الاسم لأن العرب كانوا يغيرون فيه على بلاد يُقال لها الصَّفَرِيَّة، بينما يقول آخرون: إن الاسم مأخوذ من اسم أسواق كانت في جنوبي الجزيرة العربية ببلاد اليمن تُسمى الصَّفَرِيَّة، كان العرب يرتحلون إليها ويبتاعون منها. ويُقال إنه سُمي صفرًا لأنه يعقب شهر الله المحرم ـ وهو من الأشهر الحرم ـ وكانت البلاد تخلو من أهلها لخروجهم إلى الحرب.
وجاء في اللغة صَفِرَ الإناءُ أي خلا، ومنه ¸صِفْر اليدين·، أي خالي اليدين، لا يملك شيئًا. وقال بعضهم إنما سُمي صفر صفرًا لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا عقب الأشهر الحرم فأخلوا مكة وارتحلوا إلى مضارب قبائلهم.
ويقول رؤبة إنهم أطلقوا عليه هذا الاسم لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل، فيتركون من أغاروا عليهم صِفْرًا من المتاع، وذلك لأن صفرًا يلي المحرم. وكان العرب يقولون: أعوذ بالله من صفر الإناء وقرع الفناء، ويعنون بذلك هلاك المواشي وخلوّ ربوعهم منها. وكان من عادة العرب قبل الإسلام، تأجيل حرمة المحرّم إلى صفر، ويسمى هذا التأجيل النّسيء، وكانوا يطلقون على الليلة التي بينه وبين آخر المحرم ـ إذا كانوا لا يدرون أهي من هذا أم ذاك ـ اسم الفلتة. وكانوا إذا جمعوا المحرم مع صفر قالوا: الصّفران.
ولم تكن العرب قبل الإسلام تعرف العُمْرة في أشهر الحج ولا صفر، بل كانت العمرة فيها عندهم من أفجر الفجور، وكانوا يقولون: إذا انسلخ صفر، ونَبَتَ الوبر، وعفا الأثر، وبرأ الدّبر حلّت العمرة لمن اعتمر.
أسماء شهر صفركانت العرب تطلق على الشهور الحالية أسماء غير المعروفة بها حاليًا، وقد أطلقوا عليها ثلاث سلاسل من الأسماء قبل أن تستقر على أسمائها الحالية في مطلع القرن الخامس الميلادي، من ذلك أنهم سموا رمضان: زاهر ونافِق ودَيْمَرَ، وسموا رجبًا: أَحْلَك والأصَمّ وهوْبَل. أما صفر فقد عرفته ثمود باسم مُوجِر، وكانت بقية العرب العاربة تطلق عليه اسم ثقيل، ومن أشهر الأسماء الأخرى التي عرف بها، اسم ناجِر، ويحتمل أن يكون ذلك مشتقًا من النَّجر، أي شدة الحر، إذ كان هذا الشهر يأتي أوان اشتداد الحرارة.