بدر بن خميس الظفري

@waladjameel

 

تُثار مسألة صلاحية الدين في حكم الدول الحديثة كلما طُرحت مسألة علاقة الدين بالسياسة، وكلما ظهرت توترات بين القوانين المدنية وأحكام الشريعة، أو بين مبادئ حقوق الإنسان وبعض التفسيرات الدينية. هذه القضية العميقة ترتبط بتساؤلات أعمق: من يملك حق الحكم؟ وما مصدر شرعيته؟ وهل يمكن الجمع بين ثوابت الدين ومتغيرات السياسة في دولة عصرية تحترم التعددية والحرية؟

تظهر التجارب التاريخية أن السُلطة الدينية حين تتحول إلى سلطة حاكمة، تتغير وظيفتها من التوجيه إلى السيطرة، ومن الوعظ إلى التشريع والإكراه؛ ففي الخلافة الراشدة مثلًا، ساد مبدأ الشورى والعدل والالتزام بالشريعة، لكنها ما لبثت أن انهارت تحت وطأة الصراع على السلطة، وتحول الحكم إلى وراثة في الدولة الأموية.

هذا ما أشارت إليه دراسة الباحث السوداني الدكتور صبري محمد خليل بعنوان: "مفهوم السلطة الدينية في الفكر السياسي المقارن"، التي تتبعت مسار تحول الاستخلاف في الإسلام وعند العرب من مشروع جماعي إلى سلطة فردية.

أما في التجربة الأوروبية، فقد حكمت الكنيسة طويلًا باسم "الحق الإلهي"، حتى جاء عصر التنوير ليقلب المعادلة، ويفصل الدين عن الدولة فصلًا حاسمًا. وقد أسهمت تطورات كثيرة في هذا التحول، منها صعود الحركات الإصلاحية، والرفض الشعبي لهيمنة الكهنوت.

وفي سياقٍ معاصر، قدم اللاهوتيّ السويسريّ هانس كونغ مشروعًا مهمًا تحت عنوان "مشروع أخلاق عالمية"، دعا فيه إلى بناء توافق أخلاقي عالمي بين الأديان على أسس مشتركة مثل العدالة، والصدق، واحترام الإنسان. في هذا المشروع لا ينتقد كونغ مباشرة السلطة الدينية، ولكنه يركز على إمكانات التلاقي الأخلاقي بين الأديان من أجل السلام العالمي، وهو ما يعكس تصورًا مختلفًا لوظيفة الدين في المجال العام، وهو أن يكون مصدرًا للقيم لا سلطة للحكم.

وفي العصر الحديث، عادت النماذج الدينية إلى الواجهة، لا سيما مع نموذج ولاية الفقيه في إيران؛ حيث يحتكر الفقيه الأعلى القرارين السياسي والديني نيابة عن "الإمام الغائب". الباحث الإيراني محسن كديفر، في كتابه "نظريات الدولة في الفقه الشيعي"، يرى أن هذه السلطة تستند إلى شرعية فوق شعبية، مما يجعلها صلبة في مواجهة الخارج، لكنها تواجه تحديات داخليًا عند الحديث عن الحريات والمواطنة والتعدد.

المملكة العربية السعودية من جهة أخرى، بنت شرعيتها على تطبيق الشريعة، لكنها اليوم تواجه تحدياً للتوفيق بين التراث الديني ومتطلبات الرؤية الاقتصادية والانفتاح الاجتماعي.

والمفكر المصري نصر حامد أبو زيد، في كتابه "نقد الخطاب الديني"، يؤكد أن الأزمة ليست في النصوص بحد ذاتها؛ بل في "تسييس التأويل"، أي حين يستعمل الدين لإدامة بُنى تقليدية تحت غطاء الشرعية الإلهية.

وهنا لا يمكن تجاهل تجربة دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ حيث الدولة يهودية دينية وتزعم في الوقت نفسه أنها ديمقراطية. وفي كتابه "اختراع أرض إسرائيل"، يرى شلومو ساند أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، أن الجمع بين الطابع الديني للدولة والطابع المدني للمواطنة يُوجِد توترات دائمة، ويُهدد التماسك الوطني على المدى الطويل، لا سيما في ظل وجود أقلية عربية كبيرة تعامَل كمواطنة منقوصة الحقوق.

نستخلص مما سبق أن السُلطة الدينية لا يُمكن أن تنجح في حكم الدول الحديثة إلّا إذا استوفت شروطًا واضحة. أولها المرونة في تفسير النصوص. وهذا ما دعا إليه المفكر المصري محمد سليم العوا في كتابه "في النظام السياسي للدولة الإسلامية"؛ إذ شدد على أن "الاجتهاد المستمر هو صمام الأمان لحيوية الشريعة". وثانيها التوازن بين السلطات، وهو ما نبه إليه المفكر الإيراني عبد الكريم سروش في كتاب "القبض والبسط في الشريعة" حين حذَّر من أن "تركُّز السلطتين الدينية والسياسية في يدٍ واحدة هو أصل الاستبداد باسم الدين". وثالثها الانفتاح على الآخر، كما دعا إلى ذلك راشد الغنوشي في كتابه "من تجربة الحركة الإسلامية في تونس"، حيث أكد أن "الحوار مع المختلف لا ينقض الثوابت؛ بل يختبرها ويقويها".

أما حين تغيب هذه الشروط، فإن السلطة الدينية تتحول إلى عبء على الدولة والمجتمع معًا. وتظهر الإخفاقات في صور عدة منها: قمع الأقليات، وتقييد الحريات، وعزل الشعوب عن العالم وتجميد حركة الفكر والاجتهاد. وهذا ما أشار إليه المفكر السوري محمد شحرور، في كتابه "نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي"؛ إذ رأى أن الجمود الفكري هو العائق الأكبر أمام التقدم، لأنه يحول الدين إلى أداة مقاومة للتجديد بدل أن يكون دافعًا إليه.

ورغم التحديات التي تحيط بعلاقة الدين بالدولة، تظل هناك فرصة لبناء نموذج يوفق بين مرجعية دينية قائمة على الفهم المقاصدي، ومؤسسات سياسية مدنية تتسم بالحداثة والمرونة. وهذا النموذج يمنح القيم الدينية دورًا في توجيه السياسات العامة من خلال منظور أخلاقي وإنساني، مع الحفاظ على استقلال القرار السياسي وتوازن السلطات.

وهذا ما أكد عليه الفقيه المغربي أحمد الريسوني، في كتابه "فقه الثورة"؛ حيث دعا إلى العودة إلى مقاصد الشريعة كمرتكز لفهم النصوص وتنزيلها في الواقع؛ فمقاصد مثل: العدل، وحفظ الكرامة، وصيانة الحقوق، تمنح الشريعة مرونة في التفاعل مع تحديات العصر. وعبر هذا المنهج، يتحول الاجتهاد إلى أداة لتطوير الحياة السياسية والحقوقية، انطلاقًا من منطق المصلحة العامة لا منطق الجمود على النصوص الظاهرة.

وفي المحصلة، يرتبط نجاح السُلطة الدينية في إدارة الدول الحديثة بقدرتها على فهم الواقع، والتفاعل مع متغيراته، والانفتاح على التنوع الإنساني والفكري. وحين تُستعمل المرجعية الدينية كوسيلة للهيمنة السياسية، تبتعد عن جوهر رسالتها وتفقد تأثيرها الأخلاقي. أما إذا تجلَّت في صورة منظومة قِيَم عُليا تُسهم في توجيه السياسات وصون العدالة وتعزيز الكرامة، فإنها تحتل موقعها الطبيعي في وجدان المجتمع، كمصدر إلهام وضمير حي، لا كأداة قسر وسُلطة مُطلقة.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

مصر تُصدّر شحنة تقاوي بطاطس ميني تيوبر إلى أوزبكستان بالتكنولوجيا الحديثة

كتب-عمرو صالح:

أعلنت وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، ممثلة في الإدارة المركزية للحجر الزراعي، عن تصدير أول شحنة من تقاوي البطاطس "ميني تيوبر" المنتجة بالتكنولوجيا الحديثة من مصر إلى دولة أوزبكستان، وذلك عقب نجاح جهود فتح السوق الأوزبكي أمام التقاوي المصرية.

وأكد الدكتور محمد المنسي، رئيس الإدارة المركزية للحجر الزراعي، أن هذا الإنجاز يأتي تنفيذًا لتكليفات السيد علاء فاروق، وزير الزراعة واستصلاح الأراضي، وبمتابعة مستمرة من الدكتور أحمد العطار، رئيس قطاع الخدمات الزراعية والمتابعة، في إطار خطة الدولة لتعزيز قدرة مصر على إنتاج التقاوي ووضعها على خريطة التصدير العالمية.

وأشار المنسي إلى أنه تم تشكيل غرفة عمليات بوحدة الصحة النباتية لإعداد الملف الفني الخاص بالشحنة المصدّرة، بالتعاون مع الجهات المعنية، حيث جرى عقد لقاء عبر الفيديو كونفرانس مع الجانب الأوزبكي، بحضور السفير الأوزبكي بالقاهرة، بالإضافة إلى تواصل يومي مكثف بين الجانبين لضمان إنهاء الإجراءات في الوقت المناسب للحاق بموسم الزراعة في أوزبكستان.

وأوضح أنه بالفعل تم تصدير أول شحنة من تقاوي البطاطس ميني تيوبر، وجارٍ اتخاذ الإجراءات اللازمة لتصدير باقي الشحنات بالتنسيق مع الشركاء المحليين والدوليين.

وكان وزير الزراعة، علاء فاروق، قد استقبل في نهاية مايو الماضي وفدًا رفيع المستوى من جمهورية أوزبكستان، ضم مسؤولين في مجالات الاستثمار والصادرات والتجارة والزراعة، لبحث سبل تعزيز التعاون الثنائي، وذلك في إطار التوجيهات الرئاسية بدعم العلاقات الزراعية مع أوزبكستان.

وشملت الزيارة جولات ميدانية مكثفة للوفد الأوزبكي إلى عدد من المشروعات الزراعية الكبرى والمعاهد والمراكز البحثية، فضلًا عن التعاون مع الحجر الزراعي المصري والمزارع المتميزة في إنتاج المحاصيل، بهدف تبادل ونقل الخبرات والتجارب الناجحة بين الجانبين.

اقرأ أيضاً:

اليوم.. رئيس الوزراء يرأس اجتماع الحكومة الأسبوعي بالعلمين الجديدة

انخفاض درجات الحرارة.. تعرف على طقس الأيام المقبلة

رفع الحراسة عن "الصيادلة".. تفاصيل الجمعية العمومية لاتحاد المهن الطبية الجمعة

لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا

لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا

شحنة تقاوي بطاطس أوزبكستان التكنولوجيا الحديثة

تابع صفحتنا على أخبار جوجل

تابع صفحتنا على فيسبوك

تابع صفحتنا على يوتيوب

فيديو قد يعجبك:

الأخبار المتعلقة وزير الزراعة يستقبل وفدًا رفيع المستوى من مجلس الوزراء بجمهورية أوزبكستان أخبار

إعلان

أخبار

المزيد شئون عربية و دولية ماليزيا: لا تهديد بحدوث تسونامي بعد زلزال روسيا أخبار مصر مصر تُصدّر شحنة تقاوي بطاطس "ميني تيوبر" إلى أوزبكستان بالتكنولوجيا الحديثة شئون عربية و دولية بريطانيا ترد على نتنياهو بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية: ليس مكافأة لحماس أخبار مصر وزير الري يتابع موقف "مشروع تأهيل المنظومة المائية" الممول من بنك التعمير حوادث وقضايا هروب غامض لطالبة بالقاهرة.. والشرطة تعثر عليها بالمرج

الثانوية العامة

المزيد التنسيق تنسيق المرحلة الأولى 2025.. 3 خطوات للحصول على بطاقة الترشيح ورابط تحميلها مدارس امتحانات تمهيدية.. تعليمات هامة من "التعليم" بشأن طلاب رياض أطفال المصريين التنسيق لليوم الثاني.. معامل التنسيق بجامعة سوهاج تستقبل طلاب المرحلة الأولى- صور تنسيق الثانوية 2025.. كل ما تريد معرفته عن برنامج الوسائط المطبوعة بـ"فنون جامعات ومعاهد تنسيق الثانوية 2025.. ماذا تعرف عن دراسة "الأوتوترونكس" بجامعة حلوان التكنولوجية؟

إعلان

أخبار

مصر تُصدّر شحنة تقاوي بطاطس "ميني تيوبر" إلى أوزبكستان بالتكنولوجيا الحديثة

روابط سريعة

أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلاميات

عن مصراوي

اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصية

مواقعنا الأخرى

©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا

وفاة الفنان لطفي لبيب عن عمر يناهز 77 عامًا زلزال كامتشاتكا يهز الأرض: تحذيرات من تسونامي عالمي يمتد لساعات وعمليات إجلاء عاجلة للإعلان كامل للإعلان كامل 37

القاهرة - مصر

37 26 الرطوبة: 25% الرياح: شمال غرب المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب الثانوية العامة فيديوهات تعليمية رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك خدمة الإشعارات تلقى آخر الأخبار والمستجدات من موقع مصراوي لاحقا اشترك

مقالات مشابهة

  • أمين الفتوى يوضح ضوابط بيع المحرمات والسلع ذات الاستخدام المزدوج في الشريعة
  • مشاركة 30 مؤسسة في البرنامج التدريبي حول "النظم الجمركية الحديثة"
  • مصر تُصدّر شحنة تقاوي بطاطس ميني تيوبر إلى أوزبكستان بالتكنولوجيا الحديثة
  • مي سليم تنعى لطفي لبيب: إنا لله وإنا إليه راجعون
  • هدا الطائف.. التاريخ العريق والتجارب الترفيهية الحديثة
  • المرجعية الدينية صمام الأمان في الأزمات
  • ربنا يستر.. خالد الجندي: الذكاء الاصطناعي بيجاوب بفهلوة في المسائل الدينية
  • كنيسة السيدة العذراء بشبرا تنظم فعاليات المؤتمر السنوي الصيفي لخدمة التربية الدينية
  • مصر تواصل دعمها الأمني للفلسطينيين: تدريب قوات السلطة لتمهيد إقامة الدولة المستقلة
  • لا وقت للشعارات الزائفة.. أبو العينين في مؤتمر الجبهة الوطنية بالجيزة: الحزب ولد عملاقًا ليقف خلف الدولة ويبني مصر الحديثة