بقلم: د. مظهر محمد صالح ..

لم يكن دخولنا إلى مدينة كنساس سيتي، في أحد أيام الربيع الهادئة من الغرب الأوسط الأميركي قبل عقد ونيف، مجرد مرورٍ عابر. فقد كانت الزيارة إلى فرع البنك الاحتياطي الفيدرالي هناك جزءاً من رحلة استكشافية لفريق تصميم مشروع البنك المركزي العراقي الجديد، برفقة مهندسي شركة زها حديد، للوقوف على أحدث الطرازات المعمارية والتقنية في البنوك المركزية العالمية.

كنساس سيتي، المدينة الهادئة الصاخبة، حضارة في قلب الريف الأميركي، تمتد على حدود ولايتي ميزوري وكنساس. إنها قلب موسيقى الجاز، وعاصمة الباربيكيو، ومفخرة الغرب الأوسط. لكن خلف هذا الوجه الثقافي النابض، تستقر واحدة من أقوى المؤسسات النقدية: البنك الاحتياطي الفيدرالي في كنساس سيتي، المرموق في تصميمه، والعالي في أمانه، والمتطور إلى حد الذهول في أنظمته الرقمية.

دخلنا المبنى المشيّد عام 2008، والذي يُعد من بين أحدث مباني البنوك المركزية في العالم من حيث التقنية والأمان. ففي قاعة مجلس الإدارة، لفتني يومها الخشب اللامع على طاولة الاجتماع، والأثاث المذهل في صمته الهادئ. كان لقاؤنا مع الفريق الإداري والهندسي للبنك حافلاً، حيث عرضوا لنا كيف أصبحت العمليات النقدية مؤتمتة بالكامل، من العدّ إلى التحقق إلى التخزين، بواسطة الروبوتات الذكية.

كنا شهودًا على كيفية عدّ وفرز وتدقيق العملة الورقية بالدولار، ورأينا كيف يُكتشف القليل النادر من النقد المزيف، وكيف يُتعامل معه بهدوء تقني يشبه الجراحة، دون إثارة أو ضجيج…!

يُعد بنك كنساس سيتي أحد البنوك الـ12 في نظام الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، ذلك النظام الذي تأسس عام 1914. وهو يغطي “المنطقة العاشرة” التي تشمل سبع ولايات من قلب أميركا. وقد عُرف تاريخيًا بميله إلى السياسة النقدية المتشددة (Hawkish)، مؤيدًا لرفع أسعار الفائدة لضبط التضخم، خاصة في فترات الأزمات الأخيرة (2021–2023).

لكن الاحتياطي هناك ليس مجرد مؤسسة مالية، بل هو أيضًا مركز للتفكير، والبحث، والتخطيط، وإحدى المؤسسات القليلة التي ما تزال تؤمن بدور “العقل الاقتصادي المستقل” في عصر الضغوط السياسية والرقمية.

عدنا إلى فندقنا بعد يوم طويل ومثير، محمّلين بالمعرفة والانبهار. وبينما كنا نستريح في بهو الفندق، إذا بمجموعة من الرجال يدخلون بأزياء رُعاة البقر التقليدية: القبعات العريضة، الأحذية الجلدية، والسترات القطنية… كانت تلك لحظة “صدمة رُعاة البقر”.

تذكرت حينها كل التدابير الأمنية الصارمة في البنك الفيدرالي، من ميدان الرمي التدريبي تحت الأرض إلى تقنيات الحماية الرقمية. قلت في نفسي: “هل يعقل أن يكون هؤلاء قادمين من فيلم قديم؟ هل يحملون مسدساتهم معهم؟”

اقترب أحدهم، فرأيت أن جُعبة سلاحه لم تعد تحمل مسدس كولت، بل هاتفًا ذكيًا من أحدث الطرازات. نظرت حولي، فوجدت الجميع مثلهم: رجال كاوبوي يحملون هواتف، لا مسدسات!

ضحكتُ في سري، وقلت: “لقد تحولت هذه البلاد من كاوبوي صغير إلى كاوبوي كبير، وأصبحت التكنولوجيا الرقمية هي سلاحها الجديد. من الخيول إلى الأقمار الصناعية، ومن البارود إلى الذكاء الاصطناعي.”

إنه مشهد يُلخّص ببراعة دورة القوة في حياة الأمم الإمبريالية. ولا أدري لماذا تذكرت، وأنا أكتب هذه السردية، خاطرة للمفكر الكبير حسين العادلي، يقول فيها:

“تُنصَب المصائد للغُفَّل، وكل محاذِر ناج.”

د.مظهر محمد صالح

المصدر: شبكة انباء العراق

كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات کنساس سیتی

إقرأ أيضاً:

تأملات قرآنية

#تأملات_قرآنية

د. #هاشم_غرايبه

يقول تعالى في الآية 6 من سورة القارعة: ” فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ”.
مما استوقفني في هذه الآية ثلاث مسائل، الأولى: لماذا جاء ثقل الموازين دلالة على زيادة الأعمال الصحيحة، مع أن الميزان واقعيا يوازن بين شيئين، فهو إما أن تضع الشيء في كفة وفي الكفة الأخرى ما يعادله من أثقال مقدرة، فتحسب قيمة الثقل الموازن لتعرف وزن الشيء الموزون، وإما أن تضع الشيئين فتنقص أو تزيد من أحدهما لكي يتعادلا فيصبحا بالوزن ذاته.
في الحالتين يلزم الميزان التوازن، فإن رجحت كفة فلا يعلم مقدار زيادة وزنها إن كان قليلا أو كثيرا إلا بالترجيح وهو إضافة أثقال معلومة وحساب قيمتها.
فإن كانت الحسنات في كفة والسيئات في الأخرى، فلماذ اعتبر الله تعالى ثقل الميزان لصالح الصالح، وأنّ خِفّتَها تعني رجحان السيئات؟، مع أن كفة السيئات من الممكن أن تكون الراجحة، فلم يقل من ثقلت (أي رجحت) كفة أعماله الصالحة، بالمقابل من ثقلت كفة أعماله السيئة؟.
معنى ذلك أنه تعالى لم يقم وزنا للأعمال السيئة!، أليس في ذلك بشارة وطمأنة للبشر؟
إذاً فالعمل الصالح هو المعتبر عنده تعالى، وهو الذي له قيمةٌ وحساب، وتقدير قيمته عائد لعدل الله وكرمه، وتقدير قيمة السيء من العمل عائد لرحمة الله وعفوه.
التساؤل الثاني يتعلق بدلالات استعمال الميزان في التقييم، وهو عنوان العدالة، إذاً فالأمر ليس تقديريا، بل يُحسب بدقة، فكل شيء فعله في الدنيا أحصاه الله، و”لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى” [طه:52]، و”وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا” [الإسراء:13]، لذا فلا يستصغر المرء أعماله التي قصد بها رضا الله تعالى مهما ضؤلت، لأنه لا يهمل الله أمرا كان بقصد نيل رضاه جل وعلا مهما قل، ولا أمرا أغضب الله فيه مهما صغر” فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ” [الزلزلة:7-8]، وإنه “لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً” [الحجرات:14].
من هنا يتعلم المرء حسن الأخلاق، فليس عمل الخير مقصورا على من يملك المال، بل الكلمة الطيبة والإبتسامة والود في التعامل وحتى في رفع الأذى عن الطريق، كل ذلك رصيد له يوم لا يتمنى المرء غير إثقال الميزان.
كما جاءت لفظة الموازين بصيغة الجمع لأن الصالحات كثيرة التنوع ومتفاوتة في الأثر، فلا تقاس بميزان واحد، فذكر الله يقاس بمقدار ما حققه من تقوى وبعد عن المعاصي وليس بعدد الأذكار، والصدقات بمقدار النفع المتحقق وليس القيمة، ونوافل العبادات بالإخلاص في أدائها وليس بعددها، والجهاد بمقدار صدق النية في التضحية وليس بعدد المعارك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمقدار الأثر المتحقق،..الخ.
وأما الثالثة فهي في دلالة استعمال (راضية) والتي هي إسم فاعل، ولم ترِدْ (مرضي عنها)، أي في مقام إسم المفعول، فالمفترض أنّ العبدَ هو الذي يرضى عن العيشة.
إن استعمال اسم الفاعل في مقام اسم المفعول أحد الإعجازات القرآنية الباهرة ، ومثلها قوله تعالى:”جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا” [الإسراء:45]، فالحجاب يكون ساترا أي إسم فاعل فكيف جاء مستورا(اسم مفعول)؟، قال العلماء في تفسير ذلك أنه يكون حجابا مضاعفا بطبقات عديدة تستر بعضها بعضا، وإذاً فتفسير العيشة الراضية أنها ليست مُرضِيةً فحسب، بل هي متعددة الإرضاء، وكأنها هي الراضية بذاتها عن العبد، لأنها محققة لجميع ضروب السعادة والكفاية.
كم من الكنوز النفيسة في قرآننا العظيم، والتي مهما نقب الإنسان سيجد منها الجديد في كل عصر، وبما وسعته مدارك كل زمان، لذلك حض الله على دوام التفكر في كتابه، ولم يقل بالاقتصار في فهمه على ما جاء به الأولون، وذلك لأجل استنباط فهم جديد ينفعهم في حل مشكلات استحدثت بفعل التطور والتغيير على مر الأزمنة.
فالحمد لله على هذه النعمة الدائمة الباقية أبد الدهر، قد تزول أية نعمة لكنها لا تزول.

مقالات ذات صلة كاريكاتير د. علاء اللقطة 2025/07/30

مقالات مشابهة

  • ماذا يمكن أن يفعل المرشح الذي عينه ترامب في بنك الاحتياطي الفيدرالي؟
  • مقارنة بين لحم البقر والدجاج تظهر نتائج مثيرة.. اعرف أيهما أفضل لصحتك
  • تأملات قرآنية
  • البنك المركزي يعلن البدء في تنفيذ المرحلة الأولى من إتلاف الأوراق النقدية من الإصدار الأول لفئة الـ(200) ريال
  • الاحتياطي الفيدرالي يثبت سعر الفائدة مجددًا رغم ضغوط ترامب
  • «الاحتياطي الفيدرالي» يثبت أسعار الفائدة للمرة الخامسة في 2025
  • ترامب يطالب الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة فورا
  • هل يبقي البنك الفيدرالي على سعر الفائدة للمرة الخامسة في 2025؟.. خبير يجيب
  • ثبات أسعار النفط.. الأسواق تترقب قرار سعر الفائدة من البنك الفيدرالي اليوم
  • قبل حسم الفائدة اليوم.. تفاصيل 4 قرارات لـ «البنك الفيدرالي» في 2025