عربي21:
2025-07-30@16:53:31 GMT

السياسي الحقيقي والسياسي الوهمي.. مشاتل التغيير (22)

تاريخ النشر: 11th, June 2025 GMT

في مدخل مبتكر، افتتح الشيخ الفيلسوف طه عبد الرحمن محاضرته حول السياسي الحقيقي والسياسي الوهمي، بمصطلح "ما بعد الحقيقة" وأقصى الأخلاق والدين كمصدر للقيم من العمل السياسي.. لفضح تلك المقولة (ما بعد الحقيقة) "التي افتتن بها بعض من ينتمون إلى مجال الأكاديميا بل جعلوا منها فلسفة"، ومنهم من أقرها "نظرية علمية".

إنه عصر منطق الغموض الذي يخرج عن معاني الحد والتحديد إلى منطق الغموض الذي سماه البعض الغموض البنّاء والخلّاق، في محاولة الهجوم على معاقل اليقين ومعاقد الصدق؛ إلى ما لا نهاية ينعي على التحديد وينعدم اليقين وتتربع على عرشه النسبية في حالة عدمية وربما فوضوية.

ولهذا قال الشيخ في محاضرته إن الأولى تسمية كل ذلك "ما بعد الصدق"؛ في هذا العصر الذي صار فيه الغرب مغرما في فتح باب "الما بعديات". ما بعد الصدق؛ يتضمن مدى الأذى للإنسانية بصدد المعرفة والأخلاق.. الذي يتحكم بعالم التصورات، وعالم التصرفات لا يأبه بالمضار ولا يعير التفاتا للصدق الائتماني؛ فهذا ما بعد الحقيقة ليس إلا، وهو أبدا ودائما الوهم والسياسي التوهمي؛ والذي يقابله بالضرورة السياسي التحققي الذي يسلم بالائتمان والأمانة والصدق والمصداقية في جوهر الحقيقة والحق (الحقيقة). إن تقعيدا قرآنيا مكثفا لهذه الحال يكمن في هذه الآية: "فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ" (يونس: 32).

"ما بعد الحقيقة" مفهوم احتُفي به في الغرب وجعلوه مصطلح العام، خاصة بعد تولي ترامب في رئاسته الأولى (2016) وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.. "post truth" كان يشير لدراسة ظاهرة مصنّعة تتسم بالخطورة في منطقها وفلسفتها ورؤيتها؛ يردها الشيخ إلى إنشاء الكيان الصهيوني في العام 1948، ولا تزال آثارها تتراكم بفعل التواطؤ العالمي على الحقيقة؛ والتعدي الدولي على المصداقية والحقيقة في غزة.

ما زال "صراع السرديات" قائما حول طبيعة هذا الصراع المصيري والحضاري والأخلاقي والقيمي والإنساني والكوني والتحليل الائتماني؛ صراع السرديات وصدام المفاهيم والإدراكات كشعبة من "صدام الحضارات"
وما زال "صراع السرديات" قائما حول طبيعة هذا الصراع المصيري والحضاري والأخلاقي والقيمي والإنساني والكوني والتحليل الائتماني؛ صراع السرديات وصدام المفاهيم والإدراكات كشعبة من "صدام الحضارات" الذي بشّر به "صمويل هنتنجتون" وما تبناه "فوكاياما" من "نهاية التاريخ" معلنا انتصار الحضارة الغربية انتصارا مؤزرا بلا معقب؛ لقد كتب التاريخ نهايته.

ورغم أننا نؤكد على قيمة هذا الأمر الملفت في الحضارة الإنسانية بالنشأة المصطنعة للكيان الصهيوني ودولته الوظيفية على حد تعبير "عبد الوهاب المسيري"، والذي شكل انعكاسا حقيقيا لما بعد الحقيقة؛ وعملا فاضحا لا يكتفي بطمس الحقائق ولكنه تفنن في الكذب والتزوير عليها ضمن سرديات الافتراء والتزييف، إلا أن ذلك كان يشير إلى ولادة جديدة لعلم السياسة وتصنيع مفهوم جديد للسياسة يفصل فصلا تاما بين الأخلاق والدين والسياسة بقيمها الخاصة وقاموسها المبتذل؛ الذي أنتج بحق ما أشار إليه الشيخ الفيلسوف بنموذج السياسي التوهمي في مواجهة السياسي التحققي والحقيقي.

التحليل الائتماني لما بعد الحقيقة يعني ضرورة تجاوز الظاهرة الأزمة التي لم تتوقف عن إطلاق العنان للكذب والافتراء.. وإطلاق العنان للهوى والغرائز من عقالها.. واستخدام مقولات مريبة من مثل شعب بلا أرض وأرض بلا شعب.. وأنه لا وجود لشعب فلسطيني الذي لم يوجد قط.. كما أوحت بذلك رئيسة الوزراء السابقة للكيان الصهيوني جولدا مائير، والتشكيك في الحقائق التاريخية ومحاولة طمسها؛ في مهزلة لا تستند لعلم وتصطنع مغالطات بحجج فكاهية من مثل أن حرف "P" لم يوجد في العربية، إشارة إلى منطوقها الغربي "Palestine" على ما أشارت عضوة في "الكينيست" الصهيوني. وشاهد ذلك إنكار المعرفة العلمية أو الموضوعية وكذا الخبرات العيانية والتاريخية، والتشكيك والدفع بتهم معاداة السامية والإرهاب كمسلك ابتزاز حتى على أجهزة الأمم المتحدة، واستغلال الشبكة العنكبوتية كوسائل لطمس الحقائق وعزل المجموعات بعضهم البعض، والفصل العنصري الرقمي حيث يتقصدون هؤلاء المؤثرين والرأي العام والتلاعب به.

إن نقض هذا المفهوم وكل ما يترتب عليه من مآلات هو القمين برفع الأذى المترتب على ما بعد الحقيقة والتجاوز إلى ما بعد الصدق الكاشف والفاضح.. والوقوف في مواجهة محاولة تمرير ما بعد الحقيقة كحقيقة.. والارتباط بعروة وثقى بين الحقيقة والحق.. وفضح التعدي علي تلك العلاقة.

وفي مدخلين آخرين يمكن استصحابهما في هذا المقام؛ مدخل الفلسفة السياسية، ومدخل السياسة في الرؤية الإسلامية. الأول منهما يشير إلى السياسي الميكيافللي الذي يستقي مصدره من كتاب "ميكيافللي" الأشهر "الأمير"؛ بل اشتُقت منه النظريات ليس في علم السياسة فحسب ولكن في علوم النفس والاجتماع؛ من مثل الذكاء الميكافيلي (بالإنجليزية: Machiavellian intelligence) الذي يعبر عن قدرة الكائن الحي على المشاركة السياسية الناجحة مع المجموعات الاجتماعية. جاءت المقدمة الأولى لهذا المفهوم من كتاب "سياسة الشمبانزي" (1982) لفرانس دي فال، والذي وصف المناورة الاجتماعية مع اقتباس مكيافيلي الواضح. تفترض هذه الفرضية أن تطور الأدمغة الكبيرة والقدرات المعرفية المميزة للإنسان حدثت بفعل المنافسة الاجتماعية الشديدة، حيث قام المتنافسون الاجتماعيون بتطوير استراتيجيات "مكيافيلية" متطورة كوسيلة لتحقيق نجاح أعلى في الحياة الاجتماعية. يشير المصطلح إلى الفرضية القائلة بأن التقنيات التي تؤدي إلى أنواع معينة من النجاح السياسي داخل مجموعات اجتماعية كبيرة قابلة للتطبيق أيضا داخل مجموعات أصغر، بما في ذلك وحدة الأسرة. قدّم مصطلح "السياسة اليومية" لاحقا في إشارة إلى هذه الأساليب المختلفة.

 في مجال علم نفس الشخصية، تعتبر المكيافيلية سمة نفسية ترتكز على التلاعب بالآخرين، والفتور العاطفي، واللامبالاة بالأخلاق. على الرغم من أن المكيافيلية لا علاقة لها بشخصية مكيافيلي التاريخية أو بأعماله، إلا أنها سميت بهذا الاسم نسبة لفلسفته السياسية.

تعتبر المكيافيلية واحدة من سمات ثالوث الظلام، إلى جانب النرجسية والسيكوباتية، وترتكز على منظومة من مفاهيم تواكب هذا المفهوم؛ اللاأخلاقية والاستهتار ولعبة الثقة وخداع الجماهير والخداع عامة والنزعة للهيمنة الاجتماعية والسياسية.

يقول ميكيافللي في صدر كتابه موجها كتابه ونصائحه للأمير: "فَسُموّكم يعرف أنّي لا أستطيع أن أهديكم أعظم من هذا الكتاب.. فهو سيمكّن سموّكم من التعرف في وقت قصير على كلّ ما اكتسبته طوال حياتي، وهو ما تحملت لأجله الكثير من الأخطار والفقر، طوال سنوات عمري الطويل".

يخلص الدكتور "عادل حدجامي" في مقاله المهم "نيكولا ماكيافيلي.. السياسة فيما وراء الخير والشر"؛ إلى القول: "لكل هذه الاعتبارات، فإنّ قراءة الكتاب ينبغي أن تكون مقلوبة، وهذه أهم المفاتيح الممكنة لقراءة هذا النص بحسب ما يبدو لنا، فعوض أن تكون السياسة فعلا وفق معيار هو الأخلاق، تصير الأخلاق ذاتها "وسيلة" سياسية، فلا يتم فهمها إلا في إطار اقتصاد الوسيلة، ثم عوض أن نبحث للسياسة عن نموذج متعالٍ، نطرحها كفعل محايث لا نموذج يرد إليه، لأنّ العالم نفسه خالٍ من النماذج الكليّة والأوثان المتعالية التي يمكن أن نفزع إليها".

أما المدخل الثاني فهو يرتبط بمفهوم السياسة وحقيقة الفعل السياسي وشيوع مفهوم السياسة مرتبطا بأوصاف سلبية؛ فصارت كما يراها البعض في جوهرها كذلك، حتى تسلل ذلك إلى المعاجم الغربية ذاتها والعربية خاصة المستحدث منها؛ واستدل بممارسات عدة كلها تشير إلى صفات المراوغة والخداع والكذب والنفاق والمداهنة، حتى أتى من يلعن السياسة في لفظها ومعناها "لعن الله ساس ويسوس وكل فعل يأتي من السياسة"؛ وارتكن البعض إلى فعل السياسة لا معناها ومغزاها الحقيقي المرتبط بالصلاح والإصلاح والمصلحة، وأهمل وأغفل متعمدا هذه المعاني؛ ضمن قانون اقتصادي غربي "العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة"، وبات مفهوم السياسة العربي والإسلامي مردودا مغفلا؛ متروكا مهملا، وهو ما حدا بنا إلى الكتابة حول مفهوم السياسة والسياسي ورد الاعتبار لهما؛ "القيام على الأمر بما يصلحه"، أو كما أثبت الإمام ابن القيم عن أستاذه؛ "السياسة ما كانت معه الأمور أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد". وبدا الأمر أننا أمام منظومتين منظومة تجعل السياسة جوهرا وأساسا صراعا من أجل السلطة؛ وأخرى تجعل من السياسة عملا إصلاحيا بالمفهوم الواسع للإصلاح.

نموذج السياسي التوهمي هو القائم بالعمل في معاقل الاستبداد والاستعمار؛ وأن السياسي الحقيقي هو العامل الفاعل في مشاتل التغيير والإصلاح. ولهذا بقية حول الوظيفة الكفاحية للعالم والتزامه الائتماني ومسئوليته السياسية في عمله التغييري والنهضوي
ولعل هذا الكتاب -كتاب الأمير- قد وضع إشكالية السياسة والأخلاق على المحك. لقد كان مالك بن نبي، فيلسوف الحضارة، وكذا الرئيس الفيلسوف علي عزت بيجوفيتش؛ على دراية تامة بهذه المعاني التي تربط بين السياسة والأخلاق. كان مالك موضحا الفارق الكبير والمناقضة الأساسية بين السياسة والبولوتيك، وقد أولى اهتماما بالغا لفاعلية "الدستور الخلقي في العمل السياسي" كما أشار البعض؛ وذلك بعد أن أهدر الانحراف السياسي في العالم العربي والإسلامي مسار نهضتها، وهذا ما استدعى ضرورة تفكيك العوامل الداخلية والخارجية التي أعاقت مساعي العمل السياسي النزيه والناجح، فحصر هذا الفشل في جملة من المعوقات اعتبرها أخلاقية بالأساس؛ حيث تفشت أمراض الدجل السياسي التي أهدرت المشاريع الجادة التي تخدم الصالح العام للمجتمع، وبناء على ذلك رصد منظومة من القيم الأخلاقية التي توجه العمل السياسي. وكما قال المفكر الجزائري مالك: "إذا كان العلم دون ضمير خراب الروح فإن السياسة بلا أخلاق خراب الأمة".

وفي 1984 نشر الرئيس بيجوفيتش كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب". وللكتاب قصة، فقد بدأ تحريره سنة 1946، ولكن أثناء ملاحقاته أخفته شقيقته ولم يُعثر عليه إلا في نهاية الستينات، فأعاد صياغته ثم أرسله إلى صديق في كندا. فنُشر وهو يقضي فترة سجنه. وميزة هذا الكتاب من وجهة نظر كاتبه؛ التركيز على القيم التي تشترك فيها الإنسانية جمعاء؛ فكان هذا الكتاب "هو دعوةٌ للغرب، على مستويَي الفِكر والممارسة، إلى فضاءٍ أرحبَ وَسَطٍ بين تناقضاتِه التي ما انفكّ يُطحَن بينها ويَطحنُ معه فيها سائر شعوب العالَم في هذا العصر، إنّها دعوةٌ إلى الانعتاق من مثاليّاتِه المنحطّة إلى واقعيّة الإسلام المتعالية، ومِن أحاديّته اللا إنسانية إلى ثنائية الإسلام التي لا اعتراف بحقيقة الإنسان إلا بها".

من رحم المصفوفتين يولد نموذج السياسي التوهمي والسياسي الحقيقي لدى الشيخ الفيلسوف، ويتحقق معنى الرؤية الائتمانية والميثاقية بين هذين النموذجين. ولعل نموذج السياسي التوهمي هو القائم بالعمل في معاقل الاستبداد والاستعمار؛ وأن السياسي الحقيقي هو العامل الفاعل في مشاتل التغيير والإصلاح. ولهذا بقية حول الوظيفة الكفاحية للعالم والتزامه الائتماني ومسئوليته السياسية في عمله التغييري والنهضوي؛ قال تعالى: "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقا حَسَنا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" (هود: 88).

x.com/Saif_abdelfatah

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الأخلاق قيمة السياسة السياسة أخلاق قيم سياسة رياضة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد صحافة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة السیاسی الحقیقی ما بعد الحقیقة العمل السیاسی مفهوم السیاسة هذا الکتاب

إقرأ أيضاً:

اتفاق كابل وإسلام آباد التجاري.. اقتصاد يتجاوز السياسة أم امتداد لها؟

كابل- في قرية نائية بمديرية كلكان شمالي العاصمة الأفغانية كابل، يقف حاجي رحيم الله راضي بين حقول العنب التي زرعها بكدّ يديه، يتأمل ثماره الناضجة تحت أشعة الشمس. "كنت أخشى أن يذهب تعب السنة هباءً بسبب إغلاق المعابر الحدودية"، يروي بحسرة، متذكرًا السنوات التي ضاعت فيها محاصيله بسبب القيود التجارية مع باكستان.

لكن اليوم، يحمل اتفاق تجاري تفضيلي جديد بين كابل وإسلام آباد شعاع أمل ليس فقط لحاجي رحيم الله، بل لآلاف المزارعين الأفغان الذين يعتمدون على الزراعة مصدرا أساسيا للرزق.

وهذا الاتفاق -الذي يفتح أبواب الأسواق الباكستانية أمام محاصيل الطماطم والعنب والتفاح والرمان برسوم جمركية مخفضة- يعد بإعادة إحياء القطاع الزراعي وخلق فرص عمل جديدة، ليصبح محركًا لتحويل الاقتصاد الأفغاني.

حجم التجارة الثنائية

بلغ حجم التجارة الثنائية بين أفغانستان وباكستان في السنة المالية 2024/2025 حوالي 1.998 مليار دولار أميركي، بزيادة قدرها 25% مقارنة بالعام السابق، وفقًا لإحصاءات رسمية.

الاتفاق التفضيلي بين البلدين خفّض الرسوم الجمركية على ثمانية منتجات زراعية (الأناضول)

وسجلت صادرات باكستان إلى أفغانستان 1.391 مليار دولار (بزيادة 31%) تشمل الآلات والمنتجات البترولية والمنسوجات والسلع الاستهلاكية مثل الأرز والسكر، بينما بلغت صادرات أفغانستان 607 ملايين دولار (بزيادة 13%)، معظمها من الفواكه الطازجة والفحم الخام والقطن الخام. وفي عام 2023، وصلت الصادرات الزراعية الأفغانية إلى 691 مليون دولار، لتشكل 55% من إجمالي الصادرات، مع تركيز على الفواكه مثل العنب والرمان والتفاح.

وفي النصف الأول من 2025، سجلت التجارة مليار دولار، مع 277 مليونا للصادرات الأفغانية و712 مليونا للواردات من باكستان. وفي أبريل 2025، ارتفع حجم التجارة بنسبة 23% مقارنة بالشهر السابق، ليصل إلى 119 مليون دولار.

الاتفاق التفضيلي الجديد

ويُخفض الاتفاق التفضيلي الجديد -الموقّع في 23 يوليو/تموز الجاري خلال زيارة وفد أفغاني بقيادة أحمد الله زاهد نائب وزير الصناعة والتجارة الأفغاني إلى العاصمة الباكستانية إسلام آباد- يُخفض الرسوم الجمركية من 60% إلى 27% على أربعة منتجات زراعية أفغانية (العنب والتفاح والرمان والطماطم) مقابل أربعة منتجات باكستانية (الموز والمانغا والبطاطس والبرتقال).

إعلان

ويتوقع الخبراء أن يرتفع حجم التجارة إلى 3.12 مليارات دولار بحلول 2026، بنمو متوقع يتراوح بين 15 و20%.

بوابة للتعاون الاقتصادي

وأكد المتحدث باسم وزارة الصناعة والتجارة الأفغانية عبد السلام جواد آخوندزاده، في تصريح للجزيرة نت أهمية الاتفاق قائلا: "اتفق الطرفان على تصدير أربعة أنواع من المنتجات الزراعية الأفغانية إلى باكستان برسوم تفضيلية، وفي المقابل تستورد أفغانستان أربعة أنواع من المنتجات الباكستانية أيضًا برسوم تفضيلية".

وأضاف جواد أن هذه الخطوة التي جاءت نتيجة مفاوضات مكثفة، تهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي، وتمكين المزارعين الأفغان من الوصول إلى أسواق إقليمية أوسع، مما يعزز مكانة أفغانستان كمركز زراعي في المنطقة.

مدة الاتفاقية ومرونتها

أوضح القائم بأعمال السفارة الأفغانية في العاصمة الباكستانية إسلام آباد سردار أحمد شكيب للجزيرة نت أن "الاتفاقية التفضيلية سارية لمدة عام واحد، ويمكن تمديدها إذا اتفقت الجهتان، مع إمكانية إضافة سلع جديدة إليها".

المزارع الأفغاني حاجي رحيم الله يتفقد حقول العنب في منطقته، معبرًا عن رضاه بجودة المحصول هذا الموسم (شينخوا)

وتتيح هذه المرونة فرصة لتوسيع نطاق التجارة ليشمل محاصيل أخرى مثل الفستق واللوز، مما يعزز الثقة في استدامة الاتفاق وتأثيره الاقتصادي.

ما هي التجارة التفضيلية؟

تُعرّف التجارة التفضيلية بأنها نوع من التبادل التجاري يُبنى على أساس تقديم امتيازات متبادلة بين بلدين، كخفض الرسوم الجمركية أو تخفيف قيود الاستيراد على بعض السلع، وذلك بهدف تعزيز العلاقات الاقتصادية وزيادة حجم التبادل التجاري بين الجانبين.

ففي مثل هذه الاتفاقات، قد تفرض دولة ما رسوما جمركية بنسبة 20% على وارداتها، لكنها تمنح دولة محددة رسوما مخفضة تصل إلى 5% فقط، مما يسهل نفاذ السلع إلى الأسواق ويخفض التكاليف.

ويفتح الاتفاق التفضيلي بين كابل وإسلام آباد الباب أمام تصدير الفواكه الأفغانية مثل العنب والرمان بأسعار منافسة، ويسمح في المقابل بدخول منتجات باكستانية كالمانجا والبطاطس إلى السوق الأفغانية برسوم منخفضة.

وهو ما قد يسهم في خلق توازن تجاري أكبر واستقرار اقتصادي مشترك في منطقة تعاني تاريخيًا من اضطرابات مستمرة.

الزراعة عصب الحياة الاقتصادية

يشكل القطاع الزراعي 25% من الناتج المحلي الإجمالي لأفغانستان، ويوظف 60% من القوى العاملة. وفي عام 2023، سجلت الصادرات الزراعية نموًا بنسبة 11% خلال الأشهر التسعة الأولى، وبلغ إنتاج الفواكه الطازجة 1.5 مليون طن سنويًا، بما في ذلك العنب والرمان والتفاح التي تُعد من أجود المنتجات في الأسواق الإقليمية.

ويتوقع الخبراء الاقتصاديون أن يحفز الاتفاق زيادة في الإنتاج بنسبة 10 إلى 15% خلال العامين المقبلين، مدعومًا بزيادة الطلب الباكستاني وتحسين تقنيات الزراعة مثل الدفيئات.

وستشهد محاصيل مثل الفستق في الشمال والجنوب، وجوز الصنوبر في الشرق، واللوز والجوز في الوسط، إلى جانب البطاطس في باميان (140 إلى 170 ألف طن سنويًا) طفرة إنتاجية. فعلى سبيل المثال، يُعتبر الرمان الأفغاني المعروف بجودته العالية، من أكثر المنتجات المطلوبة في باكستان، حيث يصل سعر الكيلوغرام الواحد إلى ما بين 3 و5 دولارات في الأسواق الرئيسية.

فرص وتحديات الاتفاق التجاري مع باكستان

في تعليق للمحلل الاقتصادي الأفغاني آصف أستانكزي للجزيرة نت رأى أن "القطاع الزراعي الأفغاني يواجه تحديات عديدة، ولكن هذا الاتفاق يمكن أن يكون نقطة تحول حقيقية. إلا أنه في الوقت نفسه يتطلب حل بعض المشكلات المزمنة مثل نقص التخزين البارد وضعف البنية التحتية للنقل".

شاحنات محمّلة بالبضائع تعبر معبر طورخم الحدودي في مشهد يعكس النشاط التجاري بين باكستان وأفغانستان (الفرنسية)

وأضاف أستكانكزي أنه "إذا تحسنت هذه العوامل، فإن الاتفاق قد يساعد في تعزيز التجارة بشكل كبير، مما يساهم في تقوية الاقتصاد الأفغاني وتوفير فرص عمل جديدة".

أمل جديد للشباب الريفي

يُتوقع أن يساهم الاتفاق في توفير فرص عمل إضافية في قطاعات الزراعة والنقل والتوزيع، وذلك في وقت يعاني فيه العديد من الشباب في المناطق الريفية من البطالة. مع زيادة الإنتاج الزراعي، وستظهر حاجة لعمالة إضافية في مراحل الحصاد والتعبئة والتغليف، كما ستساعد تحسينات البنية التحتية مثل تطوير الطرق والمخازن الباردة في خلق وظائف جديدة في البناء واللوجستيات.

إعلان

وبالنسبة لحاجي رحيم الله، فإن هذا يعني أن أبناءه قد يجدون فرص عمل محلية في قريتهم، مما يقلل من الحاجة للهجرة بحثًا عن فرص اقتصادية.

ومن جانبه أكد عضو مجلس إدارة غرفة التجارة والاستثمار الأفغانية خان جان الكوزي للجزيرة نت أن "هذا الاتفاق سيُحيي القطاع الزراعي ويوفر فرص عمل للشباب في المناطق الريفية، مما يساهم في تخفيف الفقر والبطالة".

وفي بلد يعاني من الفقر المدقع، يُعد هذا الاتفاق بمثابة جسر نحو استقرار اقتصادي أكبر.

تحديات التجار

ورغم التفاؤل الرسمي، يواجه التجار الأفغان عقبات مستمرة. وبينما اعتبر التاجر الأفغاني أوميد حيدري في حديثه مع الجزيرة نت أن "باكستان والهند من أكبر أسواقنا التصديرية، وأن هذه الاتفاقية تشكّل فرصة جيدة" استدرك بالقول إنه "يجب أولاً إعادة فتح الطرق التجارية القديمة وتوفير التسهيلات اللازمة. عندها ستكون حافزًا حقيقيًا للتجارة المحلية".

وتقف مشكلات من قبيل ارتفاع الرسوم الجمركية وتأخير التصدير عند المعابر ونقص البنية التحتية (18,800 كلم فقط من الطرق معبدة، ونقص التخزين البارد) عائقا أمام الكفاءة. فعلى سبيل المثال، يُفقد حوالي 30% من المحاصيل الطازجة بسبب ضعف التخزين والنقل، كما أن العجز التجاري -الذي بلغ 6.7 مليارات دولار في 2024 نتيجة انخفاض صادرات الفحم بنسبة 73% والقيود الباكستانية السابقة- يثير مخاوف بشأن استدامة النمو.

توترات سياسية وأمنية

وتأثرت التجارة بين البلدين خلال السنوات الأخيرة بالتوترات السياسية، خاصة على الحدود الممتدة لـ2600 كلم (خط دورند المتنازع عليه). فالاضطرابات الأمنية عند معابر مثل طورخم وتشمن حيث تتوقف الشاحنات أحيانًا لأيام بسبب الإغلاقات، تعوق تدفق البضائع.

لذا فإن المحلل الاقتصادي عبد القيوم حقيار قال للجزيرة نت: "الاتفاق خطوة إيجابية، لكن نجاحه مرهون بالاستقرار الأمني وتحسين البنية التحتية. وإذا نُفّذ بفعالية، فقد يصبح محركًا لتحويل الاقتصاد الأفغاني".

مقالات مشابهة

  • مشروع الانبعاث الحضاري وصناعة الوعي.. مشاتل التغيير (29)
  • هل تشهد السياسة التركية في ليبيا تحولا استراتيجيا جديدا؟
  • كاتب إسرائيلي: السياسة تجاه غزة انهارت والحرب عالقة
  • يديعوت أحرونوت: تأثير تركيا العسكري والسياسي المتزايد بات التهديد الأكبر لإسرائيل
  • اتفاق كابل وإسلام آباد التجاري.. اقتصاد يتجاوز السياسة أم امتداد لها؟
  • ضياء رشوان: الأصوات التي تهاجم مصر لا تبحث عن الحقيقة بل عن التحريض
  • رواندا وتنزانيا توقعان اتفاقيات لتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي
  • فضيحة مدوية.. شاهد ما الذي كانت تحمله شاحنات المساعدات الإماراتية التي دخلت غزة (فيديو+تفاصيل)
  • نجلاء العسيلي: مصر درع فلسطين الإنساني والسياسي.. والرئيس السيسي يقود ملحمة تاريخية لدعم غزة
  • سوريا تحدد موعد أول انتخابات برلمانية بعد التغيير.. الشرع يُقصي داعمي التقسيم