سعيد بن سالم بن سعيد الكلباني **

 

تُعد المُناسبات الدينية في سلطنة عُمان، وعلى رأسها عيد الأضحى ليس فقط إجازات رسمية. فهي لحظات اجتماعية ذات عمق ثقافي وديني تعيد ترميم الروابط العائلية، وتمنح الناس فرصة لتجديد صلتهم بهويتهم الاجتماعية والروحية والثقافية. المُفاجأة هذا العام جاءت مع قرار وزارة التربية والتعليم تقسيم الامتحانات النهائية إلى مرحلتين: ما قبل وما بعد العيد؛ مما خلق حالة من الارتباك العائلي والتربوي والثقافي وأثار تساؤلات مشروعة حول مدى إدراك السياسات التعليمية للخصوصية الثقافية العُمانية المتجذرة في عُمق التاريخ المتراكم عبر العصور.

هذا القرار لم يكن تنظيميًا مرهقاً فقط، فقد مسّ جوهر تجربة العيد لدى الطالب وأسرته ومجتمعه؛ فعيد الأضحى ليس احتفالًا للمسلمين كطقوس عابرة، وإنما سلسلة من التقاليد المتجذّرة تشمل صلاة العيد، وصلة الرحم، والأضاحي، واللقاءات المجتمعية والعادات والتقاليد المتوارثة التي تمتد لأربعة أيام من الفرح والأهازيج والتجمعات العائلية في المجالس والحارات والتي لها دور عظيم في تعليم الأبناء روح المجتمع المتماسك والصلابة التي تجعل منه ذا مهارات سلوكية وقيادية في المستقبل.

لكن عندما يجد الطالب نفسه في وضع نفسي مزدوج (بين فرحة العيد وهمّ المذاكرة) تتفكك الحالة الذهنية وتضعف قدرة الطالب على الاستعداد والتركيز. وقد أظهرت دراسات حديثة، مثل تلك الصادرة عن Child Mind Institute (2023)، أن الضغط الدراسي خلال الأعياد يزيد من مستويات القلق، ويُؤثر على النوم، ويضعف العلاقات الأسرية وتختفي المهارات المكتسبة من المجتمع.

من الناحية الاجتماعية، فإنَّ المجتمع العُماني ما زال يحتفظ بوحدته العائلية الواسعة، خصوصًا في القرى والمناطق الداخلية. وغالبًا ما يُسافر الأبناء والأحفاد من المدن إلى القرى في هذه المناسبة. وعندما تُقسَّم الامتحانات حول العيد، تضطر العائلات إلى البقاء في المدن أو تقليص زياراتها وكم من العوائل عادت إلى المدن الرئيسية كمحافظة مسقط وتركت خلفها فرح العيد بين أهاليهم وعوائلهم، وهذا يُضعف تقاليد التلاقي العائلي ويؤثر على تماسك المجتمع في واحدة من أكثر لحظاته رمزية.

من الناحية المؤسسية، يُظهر هذا القرار أيضًا ضعف التنسيق بين الجهات الحكومية. فوزارة التربية لم تأخذ في الحسبان وزارات أخرى مثل الأوقاف والشؤون الدينية ووزارة التنمية الاجتماعية، التي تعلم أهمية العيد في النسق الثقافي والديني العُماني. كما لم تُراعِ تأثير ذلك على الأسر العاملة في القطاعات الحكومية والخاصة، والتي اضطرت إلى تعديل خططها العائلية والسفر ذهابا وإيابا بسبب هذا الجدول المجزأ.

اللافت أنَّ القرار لم يأتِ بناءً على دراسات أو مشاورات مجتمعية، رغم أن الدراسات الأكاديمية تؤكد أن السياسات العامة الناجحة هي تلك التي تُبنى بالتناغم مع القيم والعادات المجتمعية.  وهو ما طرحه Hofstede في نظريته الثقافية (2010)؛ حيث أشار إلى أن المجتمعات ذات التماسك العالي (مثل مجتمعنا العُماني) تتفاعل بقوة مع أي سياسات تتعارض مع بنيتها الثقافية فقد رأينا حراكا انتقاديا في عدد من قنوات التواصل المجتمعي والتي تعد اليوم منصات تقيس مدى رضا المجتمع من عدمه على مثل هذه القرارات التي تمس تماسكه وعرفه الديني والثقافي.

لهذا نقول ولسان حالنا يُردد: إن النجاح في التعليم لا يُقاس بعدد أيام الدراسة أو انتظام الامتحانات، وإنما بمدى احترام النظام التعليمي لمناسك المجتمع الدينية، ولنفسية الطالب، وسياق مجتمعه، وثقافته المتجذّرة. وعندما يُفصل الطالب عن محيطه العائلي في لحظة اجتماعية ودينية شديدة الخصوصية، فإنَّ أثر ذلك ينعكس مباشرة على أدائه وتفاعله الدراسي والأكاديمي.

لذلك، فإنَّ لحظات مثل الأعياد لا ينبغي أن تُعامل كفجوات زمنية في التقويم الرسمي، بل كمساحات حيوية تُعيد تشكيل الروح الجمعية للمجتمع. فالأعياد في ثقافة كالثقافة العُمانية تؤدي وظيفة اجتماعية تتجاوز الاحتفال، فهي ترمم العلاقات، وتُعيد بناء الثقة العائلية، وتمنح الأفراد شعورًا بالانتماء والاستمرارية.

إنَّ تجاهل هذه الوظيفة وتحجيمها من خلال قرارات إدارية صارمة، يُفضي إلى تجزئة الزمن الاجتماعي، وتحويل ما يفترض أن يكون لحظة تواصل إلى مساحة توتر وتشتت. ومن هنا، تأتي الدعوة إلى إعادة التفكير في السياسات العامة، ليس من منظور تنظيمي فقط، وإنما من منطلق اجتماعي وإنساني يحترم إيقاع الحياة الدينية والثقافية، ويعيد للمناسبات المجتمعية دورها في بناء التماسك الوطني.

** باحث دكتوراه في الفلسفة الإدارية والقيادية

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

بحث سبل تحسين الواقع الخدمي في اللاذقية

اللاذقية-سانا

بحث محافظ اللاذقية محمد عثمان، مع رئيس الوحدات الإدارية ومدير الكوارث والطوارئ في المحافظة عبد الكافي كيال، وممثلين عن مؤسسة البيئة النظيفة (E_Clean ) سبل تحسين الواقع الخدمي في اللاذقية.

وركز المشاركون في اللقاء الذي حضره عدد من المسؤولين في المؤسسات الخدمية، على ضرورة تحسين مستوى النظافة بشكل خاص، وتعزيز كفاءة الخدمات العامة المقدمة للمواطنين.

وأكد المحافظ خلال الاجتماع، أهمية التنسيق بين الجهات المعنية وتكثيف الجهود لضمان توفير بيئة نظيفة ومستدامة، لافتاً إلى أن هذه الجهود ستنعكس إيجاباً على الصحة العامة والمظهر الجمالي للمدينة، بما يسهم في تحسين جودة الحياة للمواطنين.

تابعوا أخبار سانا على

مقالات مشابهة

  • حزمة برامج ومبادرات.. تفاصيل استعداد "الشؤون الدينية" لموسم العمرة
  • مداد الفكر
  • الحريات في سوريا اليوم و الالتزامات الدينية و الأخلاقية
  • عاجل - 10 قرارات جديدة لرئيس الوزراء في الجريدة الرسمية (تفاصيل)
  • “حماس “تطالب المجتمع الدولي بوقف الآلية الدموية التي استحدثها العدو الصهيوني لتكريس التجويع والإبادة
  • سعر ومواصفات سيارة هيونداي العائلية 2026.. تجمع بين تكنولوجيا والأداء القوي
  • مواطنون من مختلف المحافظات:الظروف المعيشية التي خلفها العدوان والحصار زادتنا تراحماً وألفة في العيد
  • بحث سبل تحسين الواقع الخدمي في اللاذقية
  • الأحد المقبل.. الثانوية العامة 2025 تبدأ أول امتحاناتها بمادة التربية الدينية