ريم الحامدية
reem@alroya.info
من بين كل الأسئلة التي تعبر خواطرنا وتستقر في أروقة القلب، يظل سؤال "ماذا لو؟" هو الأكثر خفوتًا في صوته، والأكثر صخبًا في صداه، إنِّه سؤال لا يُقال؛ بل يُحس. لا يُوجَّه لغيرنا، بل يهمس في أعماقنا حين يسكن الليل، وتغيب الوجوه، ونبقى وحدنا مع أفكار تتسلل كضوء خافت من نافذة الذاكرة.
"ماذا لو؟" ليس مجرد سؤال عابر؛ بل مرآة نطل بها على لحظات لم نعشها، وخيارات لم نجرؤ عليها، ورسائل لم تُكتب، وقلوبٍ لم تُمسك بأيدينا في الوقت المناسب.. هو الحنين لما لم يحدث، والخوف مما قد يحدث، والتوق لكل ما فات.
"ماذا لو؟" هو صوت الطفلة التي كتمت بكاءها، والمرأة التي أخفت حنينها، والإنسان الذي واصل الطريق وهو يلتفت خلفه ألف مرة.
وفي زحام الحياة، لا نملك دومًا شجاعة المواجهة، فنلوذ بـ"ماذا لو؟" كملجأ، كحلمٍ مُؤجل، كحقيقة نحب أن نصدقها ولو كانت على هيئة خيال. فـ"ماذا لو؟" ليست مجرد جملة، بل حياةٌ موازية تنبض فينا بصمت.
عن تلك الأسئلة التي لا نجد لها إجابة لكنها تأبى أن تموت. ماذا لو أنَّ الحياة منحتنا فرصة أخرى؟ فرصة لنُعيد ترتيب الكلمات التي قُلناها في لحظات الغضب، لنعتذر قبل أن يُصبح الاعتذار بلا جدوى.
هل كنَّا سنكون أكثر لطفًا؟ أكثر هدوءًا؟ أقل قسوة؟ نعيش العمر وكأنَّ كل شيء قابل للتأجيل، ثم نفاجأ أنَّ الغد لم يأتِ، وأن الفرص ليست دائمة.
ماذا لو لم نتعود؟ لو بقينا نندهش من ضوء الصباح كما في طفولتنا؟
لو استمر فينا حب الأشياء الصغيرة: رائحة الخبز، ضحكة أم، نسمة تهب وقت الغروب؟ التعود سرق من أرواحنا لذة البدايات، حتى صرنا نمر على الحياة وكأننا نراجع جدول أعمال، لا أيام تُعاش.
ماذا لو اعتنينا بأرواحنا كما نعتني بصورنا؟ كم مرة وقفنا أمام المرآة لنرتب أشكالنا؟ وكم مرة التفتنا للغبار المتراكم على نوافذ قلوبنا؟
أصبحنا نحذف الصور السيئة، لكن نُبقي الأفكار المؤذية. نساير العلاقات المكسورة، ونتصنع الضحك لننجو من السؤال.
ماذا لو تعلمنا أن ننصت لا أن نُجيب؟
أن نُطيل النظر في عيون أمهاتنا بدل أن نُسرع بتقبيل رؤوسهن في زحمة الزيارات؟ ماذا لو أحببناهن بوعي، لا بعادة؟ ماذا لو تعلمنا أن نُصغي لقلوب أمهاتنا، لا فقط لأحاديثهن؟ أن نبطئ الخطى حين نقترب منهن، كأننا ندرك أنَّ العمر يسرقنا بسرعات لا ننتبه لها؟ أن نمكث قليلًا عند أبوابهن، لا لشيء… فقط لنستنشق طمأنينة لا نجدها في مكان آخر؟ أن نُطيل النظر في تجاعيد وجوههن، لا لنعدّ السنين، بل لنحفظ تفاصيل الحنان المحفور في كل خط؟
ماذا لو جربنا من جديد، ولو متأخرين؟
أن نبدأ. أن نتعلم. أن نفتح نافذة صغيرة للحياة كي تدخل وتُنير الركن المعتم منَّا؟ كم من حلم دفناه بأيدينا؟ كم من طريق أغلقناه لأننا لم نكن نملك الشجاعة الكافية للمجازفة؟ الحياة لا تمهل دائمًا، ولا تكرر الفرص كثيرًا… فماذا لو لم نتخلَّ عن الحلم؟
ماذا لو كان للوقت قلب؟
هل كان ليسرع حين ننام عن أعمارنا، ويتوقف حين نبكي من فواتها؟
هل كان سيحضن لحظاتنا الجميلة لتدوم، ويؤجل كل تلك اللحظات التي تمنينا لو لم تكن؟
ماذا لو تكلمت الشوارع؟ ألن تفضح وجع العابرين؟ تلك الزوايا التي يقف عندها البائع، والمقعد الذي ظل وحيدًا بعد أن غاب عنه العاشقون؟
لو نطقت الجدران، لربما أخبرتنا كم من القصص عبرت… وانتهت بصمت، دون نهاية لائقة.
ماذا لو لم نُخلق على عجل؟ لربما كنَّا أكثر صدقًا، أكثر حبًا، أقل توترًا، وأكثر حياة. ماذا لو تعلمنا أن ننتظر؟ أن نحب دون استعجال؟ أن ننجح دون أن نقارن، أن نحزن دون أن نخجل من دموعنا؟ أن نعيش ببساطة، دون أن نُثبت لأحد أي شيء؟ نحن أبناء اللحظات المسرعة، نركض خلف كل شيء كأنَّ الحياة ستُغلق أبوابها غدًا. نحب بسرعة، نترك بسرعة، نهاجم قبل أن نفهم، ونبرر قبل أن نصغي.
حتى الكلمات لم تعد تُقال بصدق، بل تُنسخ وتُلصق… وتُرسل في منتصف الانشغال.
ألسنا في أمسّ الحاجة إلى التمهّل؟ إلى الإصغاء؟
ماذا لو عرفنا أننا نعيش اللحظة الأخيرة دون أن نعلم؟
هل كنَّا سنقول شيئًا مختلفًا؟ هل كنَّا سنعتذر؟ نعانق؟ نبكي؟ نُغني؟
هل كنَّا سنُحب بشكل أصدق؟
ماذا لو اتخذنا القرار الذي ترددنا فيه؟
ماذا لو كسرنا حاجز الخوف؟ وماذا لو كان الحب كافيًا؟
ماذا لو بقيت الأماكن دافئة كما عهدناها؟
ماذا لو لم نطفئ الشغف؟
ماذا لو كانت لحظة واحدة كافية لتغيّر كل شيء؟
ماذا لو كان الفشل بداية الطريق، لا نهايته؟
ماذا لو رأينا المشاعر تحت المجهر؟
ماذا لو لم يكن الوطن خريطة… بل حضناً؟
"ماذا لو؟"
سؤال لا يفارقنا.
هو بداية لكل الاحتمالات، وذروة كل الأمنيات المؤجلة. هو السؤال الذي يُولد في كل لحظة، ويكبر مع كل قرار نتجاوزه.
"ماذا لو؟" سؤال لا يبحث عن إجابة، بل عن راحة… عن تفسير لكل ما لم نفهمه، ولم نُفصح به. ربما لا نملك تغيير الماضي، ولا ضمان المستقبل، لكننا نملك هذه اللحظة.
فـ… ماذا لو بدأنا الآن؟!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
كتاب الحياة يُخالف الجغرافيا والتاريخ!
في كتاب الجغرافيا -ومنذ سنوات ليست بالقليلة- طالعنا خريطةَ عُمان بغبطةٍ عارمة، فقد علّمونا في المدرسة أنّها بوابة لوجستية تنفتح على مسطحات مائية تربطها بخطوط الملاحة الدولية في آسيا وأفريقيا وأوروبا، ولم تكن السواحل الممتدة طريقها الوحيد، بل إنّ العمق البري أخذ بيدها إلى فضاءات أخرى من العلاقات، كما هو شأن فضاء سماواتها الحرة اليوم.
لقد حكت لنا كتب التاريخ أيضًا عن حركة التجارة التي تجرأت على الوصول إلى سواحل شرق أفريقيا والهند والصين، وكان خيالنا الخصب يُدخلنا إلى عالمٍ سينمائي أسطوري: سفن راسخة مُحملة باللبان والنحاس والبخور، وأخرى عائدة بالتوابل والمنسوجات والأحجار الكريمة والأخشاب!
وفي الحقيقة، لم أكن لأتطرق إلى موضوعٍ شديد الحساسية كهذا، لولا أنّ الأكاديمية السلطانية للإدارة أتاحت لفريقنا العمل على هذا المشروع، فوجدنا أنفسنا أمام مؤشرات الأداء اللوجستي التي خيّبت آمالنا!
فرغم ما تحوزه عُمان من إمكانيات، كموقعٍ متفرد ومستقر سياسيًا في منطقة عربية مضطربة، ورغم بنيتها التحتية المُتنامية التي تؤهلها لأن تغدو مركزًا إقليميًا لافتًا، إلا أنّ كُتب الحياة قالت لنا شيئًا آخر يُخالف ما قرأناه في الجغرافيا والتاريخ. فترتيب عُمان في مؤشر الأداء اللوجستي العالمي لا يتجاوز المركز 43، وعلى مستوى دول الخليج تحتل المرتبة الخامسة! وهذا أمر مثير للتساؤل حقا، لا سيما حين علمنا أنّ نسبة مساهمة القطاع اللوجستي في الناتج المحلي لا تتجاوز 5.9%، بينما تطمح رؤية عُمان إلى رفع إسهام القطاع اللوجستي من 2.25 مليار ريال إلى 36 مليار بحلول عام 2040.
ولعل ما لمسناه نحن الفرق الستّة المنضوية بمشاريعها تحت راية الأكاديمية السلطانية للإدارة، ومن خلال النقاش الحيوي الذي يجمعنا على اختلاف مشاربنا، أنّ ثمة إشكالين مُتكرّرين يمكن استقراؤهما بوصفهما من أسباب التباطؤ في عديد القطاعات. يتمثّل الأول: في غياب البيانات أو عدم دقتها أو صعوبة الحصول عليها وتحليلها للوصول إلى رؤية أكثر شفافية، في زمن لم تعد تُبنى فيه الأفكار الناضجة بغير بيانات واضحة. أمّا الثاني: فيكمنُ في تشرذم الجهود بين مؤسسات الدولة، ولا سيّما في الملفات التي تتطلب تعاونًا مؤسّسيًا متكاملًا تتداخل فيه أكثر من جهة معنية.
فالجهات ذات الصلة وأصحاب المصلحة -كما بدا لنا- يضعون أياديهم على مواطن جراحهم، كلٌ ضمن حدود جزيرته النائية عن الأخرى. أو كما يُقال: «لو اجتمع القوم على أمر واحد لانتظمت لهم الأمور، ولكن كل ذي هوى يهوى وجهة غير صاحبه»!
وعودةً إلى القطاع اللوجستي، ذلك الجسد الذي تتنازعه الأيادي، فتُصاغ سياساته بين عقول متباينة المنزع، نجدُ أنّ البطء الزمني المُستغرق في إنجاز عمليات الشحن، والتكاليف التشغيلية، وتعدد الأنظمة الإلكترونية، وصعوبة متابعة الشحنات، كلّها أسباب رئيسية تحسم تفضيل وجهة لوجستية على أخرى، مما يُبعدنا أكثر عن حيز المنافسة مع الموانئ المجاورة! والمفاجئ حقًا أنّ ما أحدثته الرقمنة الحديثة من تحولات مذهلة في العالم لم تنجح عندنا بعد في رأب الصدع!
في طريق بحثنا الشاق، وجدنا أنّ بعض العقول اليقظة أنجزت دراسات مستفيضة ولامست قشّة النجاة فعلًا، غير أنّ مشاريعهم ظلّت حبيسة الأدراج أعوامًا عديدة، دون أن نعلم إن كان يشوبها نقص أو تعثر، أم ثمّة مصلحة ما في إخفائها!
من يدري، فقد تكون هذه الملفات المُعطلة في دواليبها القديمة، معالجة أصيلة لأهم ملف يؤرّق البلاد، وهو ملف الباحثين عن عمل. فَلِمَ لا تُؤهَّل الكفاءات الوطنية لسوق حيوي كهذا؟ ولماذا لا تُفتح لهم آفاق تعليمية في عالم التحليل ورقمنة سلاسل الإمداد والتخزين؟
فإن كانت هناك رؤية جادّة لرفع الناتج المحلي من مصادر غير نفطية، فلا بدّ أن يحتل القطاع اللوجستي مساحة الأولوية، لما يتسم به من تنوع وتشعب في البر والبحر والجو، وما يختزنه من فرص حقيقية للنمو الاقتصادي. وعلى أصحاب المصلحة أن يجلسوا على طاولة واحدة ضمن إطار وطني موحد، ليغدو كتاب الحياة اليوم مُتسقًا مع جذور أجدادنا في كتب الجغرافيا والتاريخ.
هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»