لم يكن هدف الرئيس تهدئة الشوارع في لوس أنجلوس، بل الاستفزاز المتعمّد لتحويل المدينة إلى ساحة معركة.
في يوم الجمعة، السادس من يونيو/ حزيران، نفذت وكالة الهجرة والجمارك الأميركية (ICE)، ووزارة الأمن الداخلي (DHS)، ومكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) سلسلةً من المداهمات عبر مدينة لوس أنجلوس.
كان الضباط الفدراليون مسلحين ببنادق على الطراز العسكري، يرتدون ملابس تكتيكية ويتنقلون في قوافل من العربات المصفحة والمركبات القتالية (Bearcats)، مما حول شوارع المدينة إلى ساحة عسكرية أثناء اعتقالهم عشرات المهاجرين العاملين بجد.
تم اعتقال أفراد من أمام متجر "هوم ديبوت"، حيث يصطف العمال يوميًا بحثًا عن عمل. وفي حي صناعة الألبسة وسط المدينة، تم اعتقال أكثر من 40 شخصًا في مستودع "أمبيانس أباريل" للموضة السريعة، من بينهم خوسيه أورتيز، الذي عمل فيه 18 عامًا حتى أصبح مديرًا للوردية.
عندما خرج أفراد المجتمع إلى الشوارع تضامنًا مع أصدقائهم وعائلاتهم وجيرانهم الذين تم اعتقالهم، استخدم العملاء الفدراليون القنابل الصوتية والغاز المسيل للدموع لتفريق الحشود، وسرعان ما تحوّلت الشوارع إلى بؤر اشتباك يتصاعد فيها التوتر. ما بدأ كقصة محلية في لوس أنجلوس سرعان ما تصدر عناوين الأخبار في الولايات المتحدة والعالم.
إعلانبعد اعتقال ديفيد هويرتا، رئيس اتحاد موظفي الخدمات الدولية (SEIU)، وتعرضه للعنف ووضعه في الأصفاد؛ بسبب تصويره المداهمات، بدأ أعضاء الاتحاد من أنحاء الولاية في التوافد إلى لوس أنجلوس للمشاركة في مظاهرة سلمية كبيرة في "غراند بارك" وسط المدينة يوم الأحد. انضم اتحاد عمال المزارع إلى الاحتجاجات، داعيًا الناس إلى الانضمام إليها، مع التأكيد على الطابع السلمي للتظاهرة.
تُعد لوس أنجلوس ثاني أكبر مدينة في الولايات المتحدة، حيث يشكل ذوو الأصول اللاتينية والهيسبانية حوالي نصف السكان، ويولد 35% من السكان خارج البلاد، ويُقدر عدد المهاجرين غير المسجلين فيها بمليون شخص، أي نحو 10% من السكان.
وباعتبارها "مدينة ملاذ" معلنة، لم تشارك شرطة المدينة في عمليات (ICE)، ورفضت الانخراط في أجندة ترامب السياسية لاستهداف غير المواطنين، وهي ممارسات اعتبرتها منظمة العفو الدولية انتهاكًا لحقوق الإنسان، وتنفيذًا لحملات ترحيل جماعي بلا محاكمة عادلة.
في مقطع فيديو نُشر على إنستغرام، يظهر شبان ملثمون يلقون الطوب على سيارات الشرطة. لم يكونوا يشبهون المتظاهرين الآخرين الذين ظهروا بلا أغطية رأس، وسمع أحدهم في المقطع يقول بخوف: "يا إلهي، إنهم يرمون الشرطة بالطوب!".
من غير الممكن معرفة إن كانوا متظاهرين حقيقيين أم من أنصار ترامب جاؤوا كعملاء محرضين- وهي حيلة قديمة تستخدم غالبًا لتشويه سمعة الاحتجاجات السلمية وتبرير العنف الرسمي ضد المواطنين الذين يمارسون حقهم في التظاهر. ينطبق الأمر ذاته على عمليات النهب التي طالت متجر "آبل" وغيرها من المحلات.
يُشار إلى أن تدمير الممتلكات يُعتبر دائمًا شكلًا من "العنف" غير المقبول، وغالبًا ما يُستخدم كمبرر لمهاجمة المتظاهرين العزّل. وقد أثير هذا الجدل على وسائل التواصل حين ظهر صف من الضباط يحمون محل دونات، مما أثار السخرية والتهكم على أولويات انتشار القوات.
إعلانأشارت عمدة المدينة، كارين باس، إلى "درجة الخوف والرعب" التي يشعر بها سكان لوس أنجلوس، متهمةً مداهمات ترامب بـ"تأجيج التوترات في المدينة" وزرع الفوضى.
الكشف عن القصة الحقيقيةتدريجيًا، بدأت تظهر القصة الحقيقية لبدء المداهمات.
أفاد موقع "ذا لاتن تايمز" بأن ستيفن ميلر، نائب رئيس موظفي البيت الأبيض، أعرب في اجتماع يوم 20 مايو/ أيار عن غضبه من وكالة (ICE) لعدم تحقيقها "حصص الترحيل"، وانتقد تركيزها على المهاجرين ذوي السوابق.
وقال غاضبًا: "ما معنى أنكم تلاحقون المجرمين؟ لماذا لا تذهبون إلى هوم ديبوت؟ إلى سفن-إليفن؟". كما صرّح لقناة فوكس نيوز بأنه يسعى إلى رفع عدد الاعتقالات إلى "3 آلاف يوميًا على الأقل"، مؤكدًا أن الرئيس ترامب "سيواصل الضغط لرفع هذا الرقم".
ليست المداهمات في لوس أنجلوس إذن من أجل "الأمن العام"، كما وعد ترامب خلال حملته الانتخابية لعام 2024. فقد قال الكوميدي جون ستيوارت إن وعود ترامب باعتقال "المجرمين والقتلة وتجار المخدرات" تناقضت مع الواقع حين نفذت المداهمات في موقف سيارات تابع لمتجر "هوم ديبوت". وسخر قائلًا: "من أسوأ الأسوأ إلى هوم ديبوت؟ يا إلهي، هؤلاء الأشخاص كانوا يبحثون عن عمل!".
إنها حملة ذات طابع سلطوي. وقد وصفها حاكم ولاية كاليفورنيا، غافن نيوسوم، بـ"الخطاب التحريضي"، وقالت عمدة المدينة إن المدينة "تُستخدم كمختبر تجارب" للسلطة الفدرالية. قانونيًا، لا يجوز للرئيس نشر الحرس الوطني، الذي يقع ضمن اختصاص الولايات. ولهذا السبب، رفعت كاليفورنيا دعوى قضائية ضد إدارة ترامب تطالب بإعلان أن هذا الإجراء غير دستوري.
ووفق تقارير، كان ترامب يتابع المشاهد على التلفاز، قبل أن يُعلن بحماسة: "حان وقت استدعاء الجنود". لقد كانت فعلًا مسرحية إعلامية تهدف إلى إثارة الذعر والفوضى، ومهدت لتحركاته السلطوية.
إعلان قمع الصحافةخلال المداهمات، تعرضت حرية الصحافة أيضًا للانتهاك. فقد أُطلقت رصاصة مطاطية على المراسلة "لورين توماسي" من قناة 9، ولم تكن الوحيدة. إذ أُصيب مراسل صحيفة "LA Daily News" وصحفي مستقل برصاص الفلفل والغاز المسيل للدموع.
كما خضع المصور الصحفي البريطاني "نيك ستيرن" لعملية جراحية طارئة لاستخراج رصاصة بلاستيكية من ساقه. وقد وثق نادي الصحافة في لوس أنجلوس أكثر من 30 حالة اعتداء على الصحفيين منذ بدء الاحتجاجات.
وبعد إرسال 700 جندي من مشاة البحرية إلى لوس أنجلوس، وتعزيز عدد أفراد الحرس الوطني، نجح ترامب في عسكرة شوارع المدينة.
احتجاج الفن والموسيقىفي مساء الاثنين، 9 يونيو/ حزيران، أُقيمت جوائز BET الخاصة بشبكة الترفيه السوداء، وبُثت مباشرة من لوس أنجلوس. وفي كلمتها، نددت المغنية "دوتشي" الفائزة بجائزة أفضل فنانة هيب هوب، بـ"الهجمات الوحشية" لترامب، قائلة: "ترامب يستخدم القوات العسكرية لقمع التظاهر، وأود منكم أن تفكروا: ما نوع الحكومة التي تستخدم الجيش كل مرة نمارس فيها حقنا الديمقراطي؟".
ثم ربطت ما يحدث في لوس أنجلوس بما يجري في غزة، قائلة: "الناس يُنتزعون من عائلاتهم… وبصفتي فنانة، أود أن أغتنم هذه اللحظة للحديث باسم كل المظلومين: السود، واللاتينيين، والمتحولين، وأهالي غزة".
وبحلول مساء الثلاثاء، تصدر عنوان صادم صحيفة "نيويورك تايمز": "علماء القانون: ترامب يعلن حالات طوارئ زائفة لجمع السلطة في يده". وبعد أن اعتبر الاحتجاجات "تمردًا"، وهو ما بدا مثيرًا للسخرية بالنظر إلى دعمه شخصيًا تمرد 6 يناير/ كانون الثاني، وعفوه عن 1500 من المشاركين فيه، لم تكن أفعاله سوى محاولة للاستيلاء على السلطة. وكما أكد بعض فقهاء القانون: "إجراءات الرئيس غير مصرح بها بموجب القوانين التي يستند إليها".
"حالات الطوارئ الزائفة" التي افتعلها ترامب تقوّض الدستور وتدمر الحريات المدنية.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات فی لوس أنجلوس
إقرأ أيضاً:
مراسلة الجزيرة نت.. قصة أم تطعم أبناءها من رماد المجاعة
غزة- في معركة الجوع يكون صراعك مع شبح وهمي، حتما يهزمك لأنه يوهن قوتك من الداخل، يرديك صريعا، أو يصنع منك جثة واهنة أشبه ما تكون برجل آلي، تجرُّ الخطى جرا.
تحتاج أن تكرر قراءة الخبر كي تفهمه، ويحتاج من يحدثك أن يعيد مرارا كي تدرك ما يقول، ستضطر للجلوس لالتقاط أنفاسك بعد عدة أمتار من المشي.
أنت كصائم منذ مدة، لكن صيامه مستمر لأجل غير معلوم، وليس في جسده وقود مخزّن أو زاد مشبّع إلا بألم الفقد وشحنات الخوف وبؤس النزوح.
وكل ذلك عاشته ولا تزال مراسلة الجزيرة نت في غزة يسرى العكلوك، وهي اليوم تروي تفاصيله كواحدة من أهالي القطاع الذين يواجهون التجويع الإسرائيلي بكل أشكاله، ويعيشون الحصار والحرب دون حول ولا قوة بتأمين حتى أبسط احتياجاتهم.
الصحفية الأم
صباح أمس، هرول طفلي الصغير نحوي حاملا حذاءه، يطلب مني أن أساعده في انتعاله، أسأله عن السبب، فيجيبني أنه يريد أن يصطف كما الأطفال الذين رآهم من النافذة حاملين أواني ليعبئوها طعاما أمام قدور التكية في المخيم المقابل أسفل المنزل، كان الطلب أشبه بصفعة على وجه أم لم تتخيل يوما أن تعجز عن "إشباع" أطفالها!
"لقيمات يقمن صلبه" قاعدة جديدة كلَّفني إقناع أطفالي بها جهدا، واستغرقت مني وقتا وجدالا مطولا حتى أُعوِّد أولادي عليها، فملء المعدة ترف نحن في غنى عنه حاليا، لكنني اليوم بتّ أتبعهم كي يأكلوا أو أن يزيدوا لكنهم يرفضون، لا أدري أهو انكماش المعدة، أم أن أنفسهم عافت الأصناف نفسها التي يتناولونها منذ أشهر.
يبدو طبق "البقلة" وجبة أساسية، وهي عشبة تنمو من تلقاء نفسها، كنّا قديما في بستاننا المُجرَّف نجمعها مع خشاش الأرض ونرميها، لكن أمي تراها ورقا يؤكل، تُجمّل طعمها مع قليل من الملح والخل، تجيب عن تساؤلات أحفادها عنها، حين تذوقوا اللقمة الأولى منها "كلها حديد يا تيتا (جدة) مفيدة كثيرا كسبانخ باباي (فلم كرتوني للأطفال)"، يبتلعونها، لكني أزدريها وأبتلع معها دمعي.
إعلانأما أنا فأخجل من الشكوى بين أهلي وصديقاتي، أو أن أعبّر عن حاجتي الملحة للقهوة التي تعد وقودا للتركيز عندي، بعدما صرنا نحتسي بذور الحمص المحمص والمطحون بدلا منها، شراب لا يشبه القهوة إلا في لونها ومراراتها، لا يعدل مزاجا ولا يبدد شتاتا ولا يصلب تركيزا.
لماذا أصبحت مدة إعدادي لقصة إنسانية تستغرق أكثر من أسبوع بعد أن كنت أتمها بيومين أو 3؟ تتساءل الصحفية يسرى ثم تواصل، كيف تمكنت الحرب مني فنهشت عافيتي حتى صرت أتمنى أن يمر يوم من دون أن أتناول فيه جرعات أدويتي المكثفة؟، والتي أتجرَّعُها معظم الأحيان على معدة فارغة، معدة تستقر فيها الجرثومة، وتتطفل عليها الأنتميبا، ويتفنن القولون العصبي بإيلامي، وترتبك فيه أمعائي المتلبكة من الماء المسموم الذي نملؤه من صهاريج جوالة لا نعرف مصدرها.
في شوارع غزة جلها كل الآباء نكسوا رؤوسهم، يُرتِّقون عِفَّتهم بالصمت، كخاسر عائد من حرب ضارية مع معركة الظفر بلقمة، مع التجار الذين يتخذون من الجوع صفقات للبيع والشراء.
والناس هائمة على وجوهها، صامتة بملامح يفضحها البؤس، سيدات عفيفات كريمات بشفاه متشققة ووجوه شاحبة يحملن أواني وقدورا في أكياس سوداء لئلا يراها الناس، ويسابقن الخطى قبل أن تنفض التكايا.
يُصرُّ المجوَّعون أن سلاح الجوع بات أشد فتكا من صاروخ يقتلك أو يفتك بك أو يُذيبك مرة واحدة، فالجوع يقتلك ببطء وبرود، ويميت فيك خلاياك، وتتصارع فيه أنفاسك فتسمعها وهي تختفي منك شيئا فشيئا.
صار مشهد فتح أكياس القمامة والتجمع حول الحاويات اعتياديا، أطفال يترصدون حبات حمص تساقطت تحت أقدام الباعة، يلعقون بقايا المكمل الغذائي من قلب سلال القمامة، أو يمدون أصابعهم في داخل المعلبات الفارغة للملمة العوالق في الحواف.
وأطفال آخرون ينتظرون أن يفرغ بائع الفلافل من عمله حتى يلتقطوا فتات ما تناثر ويأكلوها بِنَهم، ورضُع جياع تختلط أصواتهم المنبعثة طيلة الليل جوعا، تسقيهم أمهاتهن ماء أو يغلون لهم الحلبة بدلا من الحليب الصناعي الذي يصل سعره إلى 100 دولار نقدا، غير أن تاريخ صلاحيته منته أصلا.
قرصة الجوع وقرقرتها هو صوت أنين النفس المنكسرة، لأعزة قوم أذلتهم الحرب وأهانهم الجوع، بعد أن كانوا أهل الرفاه وأصحاب الوفرة، حين فاضت أطباقهم بما لذ وطاب.
حتى سياقات محادثاتنا ورسائلنا بين الأصدقاء تغيرت، فقد كنا عن قريب نستقبل رسائل من الصديقات يستعرضن فيها إنجازاتهن، "لقد عجنت العدس خبزا"، و "صنعت كعكة من المُكمِّل الغذائي"، لكننا اليوم صرنا نتبادل طرق النجاة من الموت جوعا، وتحولت الرسائل كيف تحمي أمعاءك من التعفن؟ من يقايضنا حفاضات أطفال بكيلو طحين؟
محاربة النفسالناس في غزة سواسية في الجوع، إلا التاجر الفاجر واللص والمتسلقين على ظهر جوعنا إلى رغد العيش، فالفقير والغني هنا سيان، ورغم أنني أملك رصيدا في حسابي البنكي كنت أجمعه لأطفالي إلى حين يكبرون أو هكذا كنت أظن، خاصة أن عبء توفير الحياة الكريمة غير مقسوم على اثنين، فهم أبناء لرجل شهيد، وأتحمل وحدي عناء أن يعيشوا كراما.
إعلانلكنني وجدت أني ألجأ لقرشي الأبيض لاتقاء اليوم الأسود، ولا شيء أشد سوادا من هذه الأيام، فأضطر لكل ما ادخرته يوما كي يأكلوا الحد الأدنى من الطعام الذي يبقيهم "أحياء"، أحياء فقط.
ومع هذا فلا أقبل على نفسي أن أقوم بالبذخ الذي يدفعني لشراء شوكلاتة واحدة بـ20 دولارا بعد أن كان ثمنها ربع دولار، أو شراء كيلو من المانجو بـ100 دولار بدلا من 5 دولارات.
المانجو "فاكهتي الأثيرة" التي رأيتها أول مرة منذ عامين على بسطة يتيمة، حيث مررت من أمامها، وتوقفت أمام جلالتها، خفق قلبي وأنا أقلّبها بكفي كأني أمسك كنزا أتحرّق شوقا لالتهامه، شممتها وعبأت رئتيّ من رائحتها، وبينما أنا في سكرة تذكري لمذاقها، سألت امرأة بجواري البائع كم ثمنها فرد من دون أن يلتفت 80 شيكلا (حوالي 25 دولارا).
تمعَّنتُ تلك الثمرة الجوهرة ووضعتها برفق في مكانها ثم انصرفت، فاشتعل فيّ الصراع بين أن أكون أمّا مثالية بعيون أطفالي، أو متلونة أدّعي المأساة في العلن وأخونها في الخفاء، أو أن أكون مُعينة للتاجر الذي قال للسيدة التي عاتبته من صدمتها بالسعر "ما بدك تشتري غيرك بيشتري"!
تجار ولصوص ينفّذون دورهم باقتدار، يتوحَّدون مع جيش الاحتلال علينا، ويؤدون دورا أساسيا في ملهاة سوداء متكاملة الأركان، تتالت مشاهدها: أن نُقتل ثم نحاصر ثم نجوّع ثم يصير غاية أهدافنا ليس النجاة بأنفسنا من الموت قصفا بل النجاة بأجسادنا منه جوعا.
ويتبع ذلك كله مشاهد إدخال المساعدات يدفعون بذلك أدواتهم من إعلاميين ونشطاء يُروِّجون لانتهاء التجويع، ثم يقتلون من ينوي تأمينها أو توزيعها بالعدل، ويُسهّلون في المقابل الأمر للصوص يسرقونها، فلا التجويع انتهى ولا المساعدات وصلت.
يسألني طفلي (10 سنوات) كيف يتركنا العالم جوعى؟ وبينما أهمّ بالإجابة، تقمّصت ابنتي الكبرى (13 عاما) دوري، وردت "نحن ننزف دما منذ عامين وقد تركونا كذلك هل سيقهرهم أن نموت جياعا؟".
لقد فهما بلا جهد مني وأصابا بلا تعب منهما، واقعٌ يشكل وعي أطفالنا، يبدو بمثابة منهاج أسقطت مدينتهم معظم المسلمات منه حين مات فيها الناس جوعا، وصار دمهم ماء، وحين وجدوا أنهم وحدهم دون نصر من عربي، أو سند من مسلم.