السلطة والخطاب.. نايف بن نهار وإعادة إنتاج المعنى في العقل العربي (3)
تاريخ النشر: 19th, June 2025 GMT
"من يسيطر على الخطاب، يسيطر على العقل"ـ نايف بن نهار
من مغرب الوطن العربي، حيث للفكر صرامته، وللعقل منطقه، وللبراهين سلطانها، وحيث كانت مدرسة الجابري مثالًا على هذا التوجه الذي يشدّ التفكير إلى أرضية صلبة من التحليل والنقد، ننتقل اليوم إلى جهة أخرى من العالم العربي، لا تقل إشراقًا ولا عمقًا: إلى الجزيرة العربية، حيث أشرقت أول أنوار الهداية، ومنها انطلقت حضارة العرب والمسلمين، جامعةً بين العقل والوحي، بين الفكر والروح، بين الفلسفة والشريعة.
هناك، حيث تشكّلت أولى بذور المعنى في اللغة والوجود، تتفتح أمامنا مقاربة جديدة لمسألة النهضة، تتجاوز تحليل البنية العقلية (كما فعل الجابري)، وتنقلب من داخلها على فكرة التزكية (كما نادى بها طه عبد الرحمن)، لتضع إصبعها على الجرح الثالث: الخطاب بوصفه سلطة.
إنه انتقال لا في الجغرافيا فحسب، بل في المنهج والنظر. فبينما كان مغرب الفكر يمارس التحليل والنقد في مواجهة التراث أو الحداثة، فإن مشرقه اليوم ـ ممثلاً في تجربة المفكر القطري الدكتور نايف بن نهار ـ يضعنا أمام سؤال آخر أكثر دقة: من يملك حق إنتاج المعنى في المجال العربي؟ ومن يتحكم في طبيعة الخطاب الذي يصوغ وعينا الجماعي ويعيد تشكيلنا؟
في مشروع نايف، لا تكون أزمة العقل العربي أزمة مفاهيم مجردة، بل أزمة سلطة مقيمة في بنية الخطاب، في اللغة، في الإعلام، في الدين، بل حتى في الوعي اليومي الذي يتشكل تحت تأثير هذه المنظومات. إن السلطة في نظره لا تحكم فقط بقوة المؤسسات، بل بقوة المعنى الذي تصوغه، وتفرضه، وتحتكره.
في المجتمعات العربية، تحولت أدوات السلطة التقليدية إلى أدوات هيمنة معرفية، حيث يُحتكر الخطاب الديني والسياسي والاجتماعي من قبل مجموعات وأفراد يتحكمون في وسائل التعبير، ويعيدون إنتاج سرديات تثبت سلطتهم.وهكذا، تتسلسل أمامنا ثلاث لحظات فكرية متكاملة: من الجابري الذي فكّك العقل العربي في علاقته بالتراث، إلى طه عبد الرحمن الذي دعا إلى تزكية العقل بالأخلاق، إلى نايف بن نهار الذي يُعيدنا إلى نقطة الانطلاق: من يُحدد شروط التفكير أصلًا؟ ومن يُرخص للعقل أن يطرح الأسئلة؟
في هذا المقال، نواصل هذه الرحلة، بعيون مفتوحة على مشرق التجربة، ومن خلال قراءة جريئة لعلاقة الدين بالسلطة، والخطاب بالهيمنة، والمعرفة بالتحرر. فهل آن أوان تحرير العقل من احتكار الخطاب، لا فقط من أسر التراث أو ضيق الحداثة؟ وهل نملك أدوات إنتاج خطاب بديل، يُعيد للمعنى إنسانيته، وللعقل حريته، وللنهضة أفقها الأخلاقي والسياسي؟
هنا، تبدأ مغامرة نايف بن نهار. وهنا نتابع رحلتنا.
الخطاب كأداة للسلطة
يرى نايف أن الأزمة لا تكمن فقط في الفضاء الفكري المجرد، بل في صراعات سياسية وثقافية تتحكم في من يصنع المعنى ومن يوجهه، أي في من يمتلك سلطة الخطاب.
يُعرف الخطاب بأنه منظومة من الأفكار والممارسات التي تنتج الواقع الاجتماعي والسياسي. بالنسبة لنايف بن نهار، لا يتشكل العقل العربي بمعزل عن السلطة التي تُنتج هذا الخطاب وتفرضه.
في المجتمعات العربية، تحولت أدوات السلطة التقليدية إلى أدوات هيمنة معرفية، حيث يُحتكر الخطاب الديني والسياسي والاجتماعي من قبل مجموعات وأفراد يتحكمون في وسائل التعبير، ويعيدون إنتاج سرديات تثبت سلطتهم.
هذه السيطرة على الخطاب تخلق ما يسميه “المجال المغلق”، الذي لا يسمح بتداول حر للأفكار أو نقد دقيق، مما يؤدي إلى استمرار حالة الجمود والتكرار.
العلاقة بين الدين والسلطة
يناقش نايف بن نهار العلاقة المعقدة بين الدين والسلطة، ويعتبر أن الفهم التقليدي للدين غالبًا ما يستخدم كأداة للهيمنة السياسية، حيث يُوظف الدين لتبرير مواقف السلطة وتعزيز شرعيتها.
لكن في المقابل، يرى أن الخطاب الديني يمكن أن يكون مجالًا للتحرر إذا أُعيد إنتاجه من خلال عقل نقدي يحترم التعددية والاختلاف.
لهذا يدعو إلى تجديد الخطاب الديني بإعادة النظر في النصوص ومقاصد الشريعة، وتحويل الدين من أداة سلطة إلى أداة توعية وتحرر.
النقد والاقتراح
نايف بن نهار لا يكتفي بالنقد، بل يقدم مقترحات عملية لإحداث تحول في المشهد المعرفي:
ـ تحرير المجال العام من هيمنة النخب التي تسيطر على الخطاب.
يرى نايف أن التمسك المفرط بالتراث كمصدر هوية غالبًا ما يكون رد فعل مقاومًا لتجاذبات السلطة ومحاولات الهيمنة. وبذلك يصبح التراث سلطة مضادة، لا أقل قسرية من السلطة الرسمية.ـ دعم وسائل الإعلام المستقلة والمنصات الفكرية المفتوحة.
ـ تشجيع الحوار والتعددية داخل المجتمع.
ـ تعزيز البحث العلمي والمنهجي الذي يتجاوز التأويلات السطحية للنصوص.
كل هذا يصب في بناء عقل عربي جديد، عقل لا يخضع لسلطة واحدة أو خطاب مغلق، بل يتسم بالمرونة والانفتاح.
السلطة والهوية.. بين المحافظة والتجديد
في فهمه للهوية العربية، يرى نايف أن التمسك المفرط بالتراث كمصدر هوية غالبًا ما يكون رد فعل مقاومًا لتجاذبات السلطة ومحاولات الهيمنة. وبذلك يصبح التراث سلطة مضادة، لا أقل قسرية من السلطة الرسمية.
لذلك يدعو إلى "تفكيك" هذه السلطات جميعها، سواء أكانت رسمية أو موروثة، عبر مشروع فكري واعٍ يسمح بإنتاج هوية ديناميكية تتفاعل مع متطلبات العصر.
نايف بن نهار يضعنا أمام حقيقة هامة: العقل لا يتشكل بمعزل عن من يمتلك أدوات التحكم في إنتاج المعنى. ولذلك، فإن مشروع النهضة لا يمكن أن ينجح دون تحرير السلطة التي تحكم الخطاب، وتفكيك آليات الهيمنة المعرفية.
في مقاربته، ينفتح الأمل في إمكانية إعادة بناء عقل عربي حر، قادر على النقد، الحوار، والتجديد. عقل لا يُقصى ولا يُحتكر، بل عقل يتنفس في فضاء حرّ ومفتوح.
وهكذا، تتكامل رؤى الجابري، طه عبد الرحمن، ونايف بن نهار في صورة مركبة لأزمة العقل العربي، ورحلة البحث عن مشروع نهضوي شامل.
المراجع:
ـ نايف بن نهار، الخطاب الديني والسياسي
ـ نايف بن نهار، إشكالية السلطة في العالم العربي
ـ دراسات ومقالات تحليلية حول الفكر المعاصر
ـ حوارات ومقابلات منشورة
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير نايف بن نهار العربي النهضة الأفكار عرب نهضة أفكار نايف بن نهار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الخطاب الدینی العقل العربی الذی ی
إقرأ أيضاً:
طيف التوحد وإعادة التفكير في أشكال التشخيص
على مرّ التاريخ، لم يكن فهمنا للاضطرابات النفسية والعصبية ثابتًا أو نهائيًا، بل ظل يتغير مع الزمن، مدفوعًا بالاكتشافات الطبية والملاحظات الإنسانية الدقيقة التي يلتقطها الأقربون، ومراجعة الافتراضات السابقة. لطالما وقع الأطباء والعلماء في أخطاء التصنيف بسبب محدودية الأدوات أو هيمنة التصورات الثقافية والاجتماعية؛ فكم من تشخيصات جاءت نتيجة تحيّزات اجتماعية أكثر منها معرفة علمية ثابتة.
ولعل من الأمثلة الشهيرة على ذلك، قصة مرض التصلب المتعدد (MS) الذي ظل لفترات طويلة يُشخّص عند النساء تحديدًا على أنه نوع من الهستيريا أو الضعف العصبي المرتبط بالمزاج، حتى أثبتت الأدلة السريرية والتقنية في منتصف القرن العشرين أنه مرض عصبي عضوي حقيقي له أسباب مناعية وهرمونية، ورغم أنه شائع عند الإناث إلا أنه يُصيب الذكور أيضًا.
مثال آخر مهم ذكره هنا، قصة الطفل الأمريكي دونالد تريبلت، من أوائل من شُخِّصوا بما أصبح يُعرف لاحقًا باضطراب التوحد. في البداية، اعتقد الأطباء أن دونالد يعاني من مقدمات للشيزوفرينيا، ونتيجة لهذا التشخيص الخاطئ، نُقل إلى مؤسسات الرعاية التي - ولأنها لم تفهم احتياجاته - زادت من عزله وسوء حالته. كانت عائلته، بحبها ورغبتها في فهم ما الذي يعاني منه طفلهم، أول من لاحظ أن سلوكه لا يتناسب مع التشخيص السائد، فأحيل لاحقًا إلى الطبيب ليو كانر. كان ليو طبيبًا نفسيًا يتمتع بحس بحثي وفضول علمي، وعندما التقى دونالد بدأ في تدوين كل التفاصيل الصغيرة لسلوكياته: قدرته على تذكر التفاصيل، اهتمامه المفرط بمواضيع محددة، عزوفه عن العلاقات الاجتماعية التقليدية، وطرقه المبتكرة في التواصل أحيانًا. ومع تكرار هذه الأنماط في مجموعة أخرى من الأطفال، نشر كانر عام 1943 بحثه حول ما سمّاه حينها «الاضطرابات التوحدية في التواصل الوجداني» (Autistic Disturbances of Affective Contact)، واضعًا بذلك الأساس العلمي لأول مرة لتشخيص حالة مستقلة عن الفصام أو غيره من الاضطرابات الذهانية.
ثم لفترة طويلة ارتبط تشخيص التوحد بصورة نمطية تظهر بشكل أساسي في الذكور، وظلت معايير التشخيص والعلاج مستندة إلى تجارب وأبحاث تركز بشكل كبير على أعراض واحتياجات الفتيان. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت ظهور دراسات وأبحاث جديدة بدأت تلقي الضوء على مظاهر التوحد عند الفتيات، كاشفة عن اختلافات مهمة قد تكون فاتحة لفهم أكثر شمولاً وعمقاً لطبيعة هذا الاضطراب. في هذا السياق، قمتُ بترجمة مقال بعنوان «فهم ثوري جديد للتوحد عند الفتيات» للباحثة جينا ريبون، وقد نُشرت الترجمة في عدد الشهر الماضي من «الملحق العلمي». لنأمل أن يكون المقال بمثابة نقطة انطلاق لنقاش أوسع، إذ فتح الباب أمام تساؤلات جديدة ومخاوف أكبر بشأن مدى دقة فهمنا الحالي للتوحد عند الفتيات، وضرورة تطوير أدوات تشخيصية ومعايير علاجية تراعي هذه الفروقات النوعية.
في مقالها، سلطت ريبون الضوء على أن أعراض التوحد لدى الفتيات تختلف بشكل ملحوظ عن تلك التي تظهر لدى الفتيان، حيث تميل الفتيات إلى إظهار أعراض داخلية أقل وضوحاً، مثل القلق الشديد، والاكتئاب، والعزلة الاجتماعية الداخلية التي تخفيها محاولات مستمرة للاندماج الاجتماعي أو ما يعرف بـ «التمويه الاجتماعي» (Social Camouflaging).
هذه المحاولات تتطلب جهوداً نفسية هائلة، مما يؤدي إلى إرهاق نفسي وإلى مضاعفات نفسية أخرى مثل القلق والاكتئاب، والتي قد لا ترتبط في الأذهان عادة بالتوحد التقليدي الذي نعرفه في الفتيان.
ومع تراكم هذه الأدلة، أصبح واضحاً أن الاعتماد على نفس معايير التشخيص التقليدية قد يكون سبباً في تأخر أو حتى فقدان تشخيص العديد من الفتيات اللواتي يعانين من اضطرابات نفسية وعصبية حقيقية تحتاج إلى تدخل ودعم خاص. هذا الواقع يدفع للتساؤل: هل الفروقات الكبيرة التي نراها بين الجنسين تستدعي التفكير في تصنيف التوحد لدى الفتيات كاضطراب مختلف تماماً، أم يجب اعتبارها مجرد اختلافات في التعبير عن الاضطراب نفسه؟
على الصعيد العصبي، كشفت الدراسات الحديثة عن وجود اختلافات عميقة في بنية الدماغ ووظائفه بين الفتيات والفتيان المصابين بالتوحد. هذه الفروقات لا تقتصر على الجوانب الاجتماعية أو الثقافية، بل تمتد إلى كيفية تشكّل الدماغ واستجابته للمحفزات، مما يشير إلى أسس بيولوجية مختلفة بين الجنسين.
من أبرز هذه الدراسات، بحث نُشر في JAMA Network Open عام 2022، حيث استخدم الباحثون التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لمقارنة أنماط الاتصال العصبي بين الفتيات والفتيان المصابين بالتوحد. وأظهرت النتائج أن الفتيات يتمتعن بأنماط اتصال فريدة في مناطق الدماغ المرتبطة بالحركة، واللغة، والانتباه البصري المكاني. وهذا يدعم فرضية أن أدمغة الفتيات تعالج المعلومات الاجتماعية والبيئية بطريقة مختلفة، وهو ما قد يفسر ميلهن المتكرر إلى تمويه الأعراض أو إخفائها.
وفي دراسة أخرى أُجريت في معهد MIND بجامعة كاليفورنيا ديفيس، ونُشرت في Molecular Psychiatry عام 2024، تبيّن أن الفتيات المصابات بالتوحد يعانين من ترقق أسرع في القشرة الدماغية خلال مرحلة الطفولة مقارنة بالفتيان. استندت هذه الدراسة إلى تحليل بيانات أكثر من 400 طفل باستخدام تقنيات التصوير العصبي على مدى عدة سنوات، وخلصت إلى أن هذا الاختلاف في النمو البنيوي قد يؤثر بشكل مباشر على تطور المهارات المعرفية والاجتماعية.
تشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن التوحد لدى الفتيات يسلك مسارات عصبية مميزة، ما يعزز الحاجة إلى تبني أدوات تشخيصية وعلاجية أكثر دقة، تأخذ في الحسبان هذه الفروقات النيرولوجية.
وفي هذا السياق، تظهر أدلة علمية متزايدة على أن استجابة الدماغ للمحفزات الاجتماعية تختلف بين الجنسين لدى المصابين بالتوحد. على سبيل المثال، أظهرت دراسة منشورة في Translational Psychiatry باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أن الفتيات المصابات بالتوحد أبدين نشاطًا متزايدًا في مناطق الدماغ المرتبطة بالمكافأة الاجتماعية، مثل النواة المتكئة (nucleus accumbens)، عند عرض وجوه مبتسمة ومحفزات اجتماعية أخرى. هذا النشاط العصبي المرتفع قد يشير إلى حساسية أكبر لدى الفتيات تجاه التفاعلات الاجتماعية، وهو ما قد يفسر قدرتهن الأكبر على التكيف أو تمويه الأعراض في البيئات الاجتماعية، رغم وجود الاضطراب.
هذه النتائج تعمق فهمنا للفروق بين الجنسين في طيف التوحد، وتؤكد على أهمية تبني مقاربة تشخيصية وعلاجية تتجاوز النموذج التقليدي القائم في الغالب على الذكور.
لكن على الرغم من كل هذه الأدلة، يظل هناك قلق مشروع من أن يؤدي اعتبار كل هذه الاختلافات على أنها مجرد تنويعات من نفس الاضطراب إلى إغفال احتمال وجود اضطرابات عصبية أو نفسية أخرى قد تكون خاصة بالنساء. تاريخيا، مر الطب النفسي بعدد من الحالات التي أُسيء فهمها أو تم تصنيفها بشكل غير دقيق، لأسباب تتعلق بالتحيزات الثقافية أو نقص المعرفة العلمية. على سبيل المثال، كان يُعتقد سابقا أن اضطرابات مثل الاكتئاب بعد الولادة أو اضطراب الشخصية الحدّية تعكس فقط «ضعفا نفسيا نسائيا»، قبل أن يتم الاعتراف بها كاضطرابات سريرية قائمة بذاتها تستدعي علاجات مخصصة. وفي القرن العشرين، وُصفت حالات مرضى التصلب المتعدد في بداياتها بأنها حالات هستيريا، خصوصا لدى النساء، نتيجة لسوء فهم الأعراض العصبية.
إن الاختلافات العصبية والبيولوجية بين الجنسين في اضطراب مثل التوحد تدفعنا للتساؤل عما إذا كانت الفروقات الجندرية التي نلاحظها في الأمراض النفسية والعصبية مشابهة لما نراه في الأمراض العضوية. تشير الأبحاث الطبية إلى أن بعض الأمراض العضوية تميل للظهور بنسب متفاوتة بين الجنسين، ليس فقط بسبب عوامل ثقافية، بل لأسباب بيولوجية واضحة. مثلا، في دراسة منشورة في مجلة «Journal of Autoimmunity» عام 2012، أظهر الباحثون أن أمراض المناعة الذاتية مثل الذئبة الحمراء (Systemic Lupus Erythematosus) تصيب النساء بشكل أكبر بكثير مقارنة بالرجال، وذلك بسبب الاختلافات الهرمونية والجينية التي تؤثر مباشرة على جهاز المناعة وطريقة استجابته.
هذا المثال من الطب العضوي قد يكون مفيدًا لفهم اختلافات التوحد بين الجنسين، حيث قد تلعب العوامل البيولوجية العصبية دورًا هامًا في اختلاف طريقة ظهور الأعراض. إلا أن الأمر في الأمراض النفسية والعصبية ليس بهذه البساطة دائمًا. فقد لاحظت دراسة أخرى منشورة في «The Lancet Psychiatry» عام 2016 أن التحيزات التشخيصية والتوقعات الاجتماعية والثقافية تؤثر بشكل كبير على تشخيص الاضطرابات النفسية والعصبية بين الجنسين، مما قد يؤدي إلى إغفال حالات عديدة، خصوصًا بين الإناث اللواتي قد لا تظهر عليهن الأعراض بطريقة تقليدية.
وبالتالي، يبدو أن ما نراه في اضطرابات مثل التوحد قد يكون مزيجًا معقدًا من عوامل بيولوجية حقيقية تؤثر على الدماغ والجهاز العصبي، وعوامل اجتماعية وثقافية تحدد كيف نلاحظ ونفسّر هذه الأعراض. وقد يكون التحدي الأكبر أمام الطب النفسي والعصبي اليوم هو محاولة فهم هذه التداخلات المعقدة بين البيولوجيا والثقافة.
في ضوء هذه الأسئلة، من الواضح أن تحدي التشخيص في الطب النفسي والعصبي لا يقتصر على مجرد رسم الحدود بين اضطراب وآخر، بل يمتد ليشمل فهمنا لما يعنيه أن نكون «بشرًا». معايير التشخيص التي نعتمدها اليوم، رغم أهميتها العلمية، لا تزال قاصرة عن احتواء التنوع الهائل في تجاربنا الإنسانية.
تناول الباحث النفسي آلن فرانسيس (Allen Frances)، واحد من أبرز الأسماء التي شاركت في تطوير الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية في نسخته الرابعة (DSM-IV)، هذه الإشكالية بشكل نقدي وواسع في كتبه وأبحاثه المختلفة، ومن أبرزها كتابه «Saving Normal» الصادر عام 2013. في هذا الكتاب، ناقش فرانسيس بحزم ما سماه «تضخم التشخيص» أو (Diagnostic Inflation)، وهي ظاهرة توسيع حدود الاضطرابات النفسية بشكل مبالغ فيه، مما أدى إلى تحويل العديد من السلوكيات والمشاعر البشرية الطبيعية إلى أمراض تستوجب العلاج الدوائي أو النفسي.
في كتابه، حذّر فرانسيس من خطورة أن تصبح الحياة الطبيعية بأفراحها وأحزانها وتقلباتها العاطفية ساحة للتشخيص والعلاج الطبي، نتيجة لرغبة بعض الجهات الطبية والصناعية في خلق طلب متزايد على العقاقير النفسية. كذلك، أكد على أن معايير DSM-5 تحديدًا ساهمت في هذا التوسّع في التشخيص عبر تقليل الحدود التي كانت تفصل بين ما هو «طبيعي» وما هو «مرضي»، الأمر الذي قاد إلى ارتفاع كبير في أعداد الأشخاص الذين يُصنفون كمرضى نفسيين دون أن تكون لديهم حاجة حقيقية للعلاج. هذا التوجه يثير لديّ مخاوف من إمكانية تشخيص فتيات أو أشخاص آخرين بالتوحد أو غيره من الاضطرابات النفسية بشكل خاطئ، بينما قد تكون معاناتهم الحقيقية ناتجة عن ظروف اجتماعية أو نفسية مختلفة تمامًا. من بين الأمثلة التي انتقدها فرانسيس بشدة في كتابه كانت التغييرات في معايير تشخيص اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط (ADHD)، واضطراب المزاج ثنائي القطب، والاكتئاب، والتوحد، والتي برأيه أدت إلى زيادة كبيرة في التشخيصات، خاصة لدى الأطفال والشباب. كما أشار فرانسيس إلى أن هذا الإفراط التشخيصي لا يؤدي فقط إلى تقديم علاجات غير ضرورية، بل يمكن أن يؤذي أولئك الذين يعانون حقًا من اضطرابات شديدة، لأن النظام الصحي يصبح مثقلًا بأعداد كبيرة من الحالات الخفيفة التي قد لا تحتاج إلى تدخل طبي.
في نهاية المطاف، لعل التحدي الأكبر في مجال الطب النفسي والعصبي اليوم لا يكمن فقط في تصنيف الاضطرابات وتشخيصها، بل في قدرتنا على فهم واحترام التنوّع الإنساني وتعقيده. ربما لا نحتاج فقط إلى معايير تشخيصية جديدة، بل إلى طرق أفضل وأكثر إنسانية للتواصل وفهم بعضنا البعض. وكما يشير آلن فرانسيس، فإن الهدف الحقيقي ليس وضع البشر في خانات تشخيصية، بل السعي نحو حياة أفضل وأكثر عدالة للجميع.
زهرة ناصر كاتبة ومترجمة عمانية