"من يسيطر على الخطاب، يسيطر على العقل"ـ نايف بن نهار

من مغرب الوطن العربي، حيث للفكر صرامته، وللعقل منطقه، وللبراهين سلطانها، وحيث كانت مدرسة الجابري مثالًا على هذا التوجه الذي يشدّ التفكير إلى أرضية صلبة من التحليل والنقد، ننتقل اليوم إلى جهة أخرى من العالم العربي، لا تقل إشراقًا ولا عمقًا: إلى الجزيرة العربية، حيث أشرقت أول أنوار الهداية، ومنها انطلقت حضارة العرب والمسلمين، جامعةً بين العقل والوحي، بين الفكر والروح، بين الفلسفة والشريعة.



هناك، حيث تشكّلت أولى بذور المعنى في اللغة والوجود، تتفتح أمامنا مقاربة جديدة لمسألة النهضة، تتجاوز تحليل البنية العقلية (كما فعل الجابري)، وتنقلب من داخلها على فكرة التزكية (كما نادى بها طه عبد الرحمن)، لتضع إصبعها على الجرح الثالث: الخطاب بوصفه سلطة.

إنه انتقال لا في الجغرافيا فحسب، بل في المنهج والنظر. فبينما كان مغرب الفكر يمارس التحليل والنقد في مواجهة التراث أو الحداثة، فإن مشرقه اليوم ـ ممثلاً في تجربة المفكر القطري الدكتور نايف بن نهار ـ يضعنا أمام سؤال آخر أكثر دقة: من يملك حق إنتاج المعنى في المجال العربي؟ ومن يتحكم في طبيعة الخطاب الذي يصوغ وعينا الجماعي ويعيد تشكيلنا؟

في مشروع نايف، لا تكون أزمة العقل العربي أزمة مفاهيم مجردة، بل أزمة سلطة مقيمة في بنية الخطاب، في اللغة، في الإعلام، في الدين، بل حتى في الوعي اليومي الذي يتشكل تحت تأثير هذه المنظومات. إن السلطة في نظره لا تحكم فقط بقوة المؤسسات، بل بقوة المعنى الذي تصوغه، وتفرضه، وتحتكره.

في المجتمعات العربية، تحولت أدوات السلطة التقليدية إلى أدوات هيمنة معرفية، حيث يُحتكر الخطاب الديني والسياسي والاجتماعي من قبل مجموعات وأفراد يتحكمون في وسائل التعبير، ويعيدون إنتاج سرديات تثبت سلطتهم.وهكذا، تتسلسل أمامنا ثلاث لحظات فكرية متكاملة: من الجابري الذي فكّك العقل العربي في علاقته بالتراث، إلى طه عبد الرحمن الذي دعا إلى تزكية العقل بالأخلاق، إلى نايف بن نهار الذي يُعيدنا إلى نقطة الانطلاق: من يُحدد شروط التفكير أصلًا؟ ومن يُرخص للعقل أن يطرح الأسئلة؟

في هذا المقال، نواصل هذه الرحلة، بعيون مفتوحة على مشرق التجربة، ومن خلال قراءة جريئة لعلاقة الدين بالسلطة، والخطاب بالهيمنة، والمعرفة بالتحرر. فهل آن أوان تحرير العقل من احتكار الخطاب، لا فقط من أسر التراث أو ضيق الحداثة؟ وهل نملك أدوات إنتاج خطاب بديل، يُعيد للمعنى إنسانيته، وللعقل حريته، وللنهضة أفقها الأخلاقي والسياسي؟

هنا، تبدأ مغامرة نايف بن نهار. وهنا نتابع رحلتنا.

الخطاب كأداة للسلطة

يرى نايف أن الأزمة لا تكمن فقط في الفضاء الفكري المجرد، بل في صراعات سياسية وثقافية تتحكم في من يصنع المعنى ومن يوجهه، أي في من يمتلك سلطة الخطاب.

يُعرف الخطاب بأنه منظومة من الأفكار والممارسات التي تنتج الواقع الاجتماعي والسياسي. بالنسبة لنايف بن نهار، لا يتشكل العقل العربي بمعزل عن السلطة التي تُنتج هذا الخطاب وتفرضه.

في المجتمعات العربية، تحولت أدوات السلطة التقليدية إلى أدوات هيمنة معرفية، حيث يُحتكر الخطاب الديني والسياسي والاجتماعي من قبل مجموعات وأفراد يتحكمون في وسائل التعبير، ويعيدون إنتاج سرديات تثبت سلطتهم.

هذه السيطرة على الخطاب تخلق ما يسميه “المجال المغلق”، الذي لا يسمح بتداول حر للأفكار أو نقد دقيق، مما يؤدي إلى استمرار حالة الجمود والتكرار.

العلاقة بين الدين والسلطة

يناقش نايف بن نهار العلاقة المعقدة بين الدين والسلطة، ويعتبر أن الفهم التقليدي للدين غالبًا ما يستخدم كأداة للهيمنة السياسية، حيث يُوظف الدين لتبرير مواقف السلطة وتعزيز شرعيتها.

لكن في المقابل، يرى أن الخطاب الديني يمكن أن يكون مجالًا للتحرر إذا أُعيد إنتاجه من خلال عقل نقدي يحترم التعددية والاختلاف.

لهذا يدعو إلى تجديد الخطاب الديني بإعادة النظر في النصوص ومقاصد الشريعة، وتحويل الدين من أداة سلطة إلى أداة توعية وتحرر.

النقد والاقتراح

نايف بن نهار لا يكتفي بالنقد، بل يقدم مقترحات عملية لإحداث تحول في المشهد المعرفي:

ـ تحرير المجال العام من هيمنة النخب التي تسيطر على الخطاب.

يرى نايف أن التمسك المفرط بالتراث كمصدر هوية غالبًا ما يكون رد فعل مقاومًا لتجاذبات السلطة ومحاولات الهيمنة. وبذلك يصبح التراث سلطة مضادة، لا أقل قسرية من السلطة الرسمية.ـ دعم وسائل الإعلام المستقلة والمنصات الفكرية المفتوحة.

ـ تشجيع الحوار والتعددية داخل المجتمع.

ـ تعزيز البحث العلمي والمنهجي الذي يتجاوز التأويلات السطحية للنصوص.

كل هذا يصب في بناء عقل عربي جديد، عقل لا يخضع لسلطة واحدة أو خطاب مغلق، بل يتسم بالمرونة والانفتاح.

السلطة والهوية.. بين المحافظة والتجديد

في فهمه للهوية العربية، يرى نايف أن التمسك المفرط بالتراث كمصدر هوية غالبًا ما يكون رد فعل مقاومًا لتجاذبات السلطة ومحاولات الهيمنة. وبذلك يصبح التراث سلطة مضادة، لا أقل قسرية من السلطة الرسمية.

لذلك يدعو إلى "تفكيك" هذه السلطات جميعها، سواء أكانت رسمية أو موروثة، عبر مشروع فكري واعٍ يسمح بإنتاج هوية ديناميكية تتفاعل مع متطلبات العصر.

نايف بن نهار يضعنا أمام حقيقة هامة: العقل لا يتشكل بمعزل عن من يمتلك أدوات التحكم في إنتاج المعنى. ولذلك، فإن مشروع النهضة لا يمكن أن ينجح دون تحرير السلطة التي تحكم الخطاب، وتفكيك آليات الهيمنة المعرفية.

في مقاربته، ينفتح الأمل في إمكانية إعادة بناء عقل عربي حر، قادر على النقد، الحوار، والتجديد. عقل لا يُقصى ولا يُحتكر، بل عقل يتنفس في فضاء حرّ ومفتوح.

وهكذا، تتكامل رؤى الجابري، طه عبد الرحمن، ونايف بن نهار في صورة مركبة لأزمة العقل العربي، ورحلة البحث عن مشروع نهضوي شامل.

المراجع:

ـ نايف بن نهار، الخطاب الديني والسياسي
ـ نايف بن نهار، إشكالية السلطة في العالم العربي
ـ دراسات ومقالات تحليلية حول الفكر المعاصر
ـ حوارات ومقابلات منشورة

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير نايف بن نهار العربي النهضة الأفكار عرب نهضة أفكار نايف بن نهار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الخطاب الدینی العقل العربی الذی ی

إقرأ أيضاً:

المحللون الحزبيون على الشاشات… من يمثل من؟ واقع إعلامي بلا اسمنت مهني

12 دجنبر، 2025

بغداد/المسلة: تشهد الساحة الإعلامية العراقية تصاعداً لافتاً في الخطاب السوقي والسطحي على عدد من الفضائيات المحلية خلال الأشهر الأخيرة، حيث غلبت لغة الإثارة والمباشرة على التحليل المعمق، ما جعل كثيراً من التغطيات تبدو أقرب إلى عروض درامية منها إلى نقاشات سياسية موضوعية.

وبرزت برامج حوارية تكرّس الانفعالات وتضخّم الخلافات الحزبية والطائفية، مع تقديم ضيوف محللين يتشدقون بمواقف حزبية غامضة قبل أن يكونوا محللين مهنيين، ما أثار موجة من الانتقادات على منصات التواصل الاجتماعي من جمهور يرى أن هذه الفضائيات ارتدت إلى منابر لترويج سرديات متباينة بدلاً من تسهيل فهم الجمهور للأحداث.

وقال القيادي في تيار الحكمة فهد الجبوري إن فوضى الإعلام لدى بعض الجهات في بلد مثل العراق بتاريخه العريق وحضارته العميقة، أصبحت أمراً يستدعي الوقوف عنده بجدية..

وتابع: من المؤسف أن نرى تصرفات تُقدَّم بأسلوب يدعو للسخرية والضحك بينما هي في الواقع تعكس صورة عن واقعنا العراقي وتُعرَض أمام ملايين المتابعين على وسائل التواصل..

واستطرد: نحن بحاجة إلى إدارة إعلامية واعية تضع مصلحة العراق وأمنه القومي فوق كل اعتبار.

وأظهرت حوارات عديدة انحداراً في مستوى الخطاب السياسي على الشاشات، إذ افتقرت إلى التحليل المعمق وأصبحت تكتفي بتكرار قوالب جاهزة من الاستقطاب، بينما يغيب النقد الذاتي لمقدّمي البرامج أو لأحزاب تدعو لهم تلك المنابر، ما يعكس حالة من الانجراف الإعلامي نحو الخطاب الانفعالي على حساب المعالجة المتوازنة.

ومثل هذا النمط يسهم في تضخيم الخلافات بين القوى السياسية عوضاً عن تفسير جذورها وسياقاتها، وهو ما تعكسه ردود فعل واسعة على تويتر وفيسبوك حيث يعبر مستخدمون عن استيائهم من ما يسمونه “صحافة الصراخ” التي تحوّل السياسة إلى مادة ترفيهية بدلاً من مادة فهم.

ومن جانب آخر، يغيب عن المشهد الضوابط المهنية الصارمة التي من شأنها كبح جماح السطحية، إذ لا توجد آليات فعّالة تراقب الخطاب الإعلامي وتعيّن حدوده المهنية في تغطية القضايا السياسية والاجتماعية الحساسة.

وما يزيد الإشكالية تعبير بعض الضيوف عن مواقف حزبية واضحة بشكل تحريضي، دون مساءلة من قبل الهيئات المنظمة أو من قبل الجهات السياسية نفسها، ما يعزز الانطباع لدى المشاهد بأن هذه الخطابات لا تُنتج إلا لتعزيز الاستقطاب وتصعيد الخلافات داخل المجتمع.

ويدعو محللون عراقيون إلى أن تتولى هيئة الإعلام والاتصالات مهامها بضبط الخطاب الإعلامي، ليس من أجل تقييد الحريات الصحفية، بل لترسيخ قواعد الممارسة المهنية التي يجب أن تميّز بين النقد والتحليل والتحريض الطائفي أو الحزبي، وإرساء بيئة إعلامية تحترم تعددية الآراء دون أن تغذي التوترات الاجتماعية.

ويشدد هؤلاء على أن غياب مثل هذه الضوابط من شأنه أن يقوّض الثقة العامة في الإعلام ويزيد من توترات سياسية واجتماعية موجودة أصلاً في البلاد.

الساحة الإعلامية العراقية تواجه تحديات كبيرة في استعادة دور الإعلام كقاطرة للنقاش العقلاني بدلاً من أن يكون منصة لتكرار روايات الاستقطاب، وهو ما يتطلب جهوداً تشاركية من مؤسسات الدولة والمجتمع المدني لحماية الصحافة المهنية وتعزيز الوعي الإعلامي لدى الجمهور.

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

مقالات مشابهة

  • طقس أسوان اليوم السبت 13 ديسمبر 2025: معتدل نهارًا، بارد ليلًا مع سماء صافية ورياح خفيفة
  • غدًا.. طقس معتدل الحرارة نهارًا بارد ليلًا والعظمى بالقاهرة 21
  • الطمأنينة.. المعنى الحقيقي للحياة
  • المحللون الحزبيون على الشاشات… من يمثل من؟ واقع إعلامي بلا اسمنت مهني
  • البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة
  • رحلة العمر
  • مدرسة عمر بن الخطاب تحصد لقب بطولة المملكة لتنس الطاولة لطلاب دور القرآن
  • ملتقى السيرة النبوية بالجامع الأزهر يكشف ملامح شخصية عمر بن الخطاب قبل إسلامه
  • الأرصاد: طقس غدا معتدل نهارًا وبارد ليلًا.. وأمطار على مناطق متفرقة ورياح نشطة
  • المشرف على الرواق الأزهري: الاجتهاد فريضة إسلامية والحرية الفكرية منهج علماء هذه الأمة