وقفت وأنا أقلِّبُ قسْمًا من نظريّات الأدب، على مفهوم أدب الصدمة (Trauma Literature)، وراجعتُ فـي ذهني التراكُم الأدبيّ الحديث شعرًا وسرْدًا، وتساءلتُ هل يُمكن إجراء هذا المفهوم الدّارج عند الغرب على الأدب العربيّ الحديث؟ وكان الجواب قطعيّا بالنفـي، هل لأنّنا نخلو من الصّدمات فـي حياتنا، أم لأنّ الواقع العربيّ طيلة العصر الحديث هو واقع متوقَّعٌ يسير وفقًا لمسار تاريخيّ عاديّ لا نكبات فـيه ولا هزّات ولا أزمات ولا نكسات ولا منعرجات تقلب الفؤاد رأسًا على عقب، وتُحوّل كلّ مدرَك متوقَّع إلى منعرَج لا ندري هوَّة تدهوره؟ العكسُ تمامًا.
إنّ واقعنا العربيّ فـي عصرنا الحديث مشحونٌ بالأزمات، بدْءًا من الحال النفسيّة والاجتماعيّة الفرديّة إلى الواقع الجمعيّ الثقافـيّ والسياسيّ والاقتصادي. والأدب هو المقام الذي تتجلّى فـيه بشكل مباشر أو ضمني هذه الانكسارات البعيدة والقريبة. لا شكّ أنّنا عشنا عصْرًا حديثًا زاخرًا بالأزمات والصدمات، والآمال المكسورة، والطموحات المطحونة، والذوات المهزومة والمأزومة.
عشنا أحلامًا عددًا، وآمالاً متنوّعة بواقع عربيّ مستقرّ يعتني بالأجيال القادمة، ويُوفّر أرضيّة لحياة أجمل، فإذا الذات تعيش يوْمَها فـي ظلّ سعْيٍ إلى لقمة العيش، أو فـي ظلّ رخاء بليد فارغ، فـي واقعٍ عامّ لا يحترم ذاتيّة الفرد، وإذا الوضع العامّ قائمٌ على تتالي الهزائم، ووفرة النزاع الداخليّ؛ كيان إسرائيليّ مزروع فـي خاصرة أرض العرب لا يميل إلى هدْأة، ويحمل مشروعًا وجوديّا به يكون، مشروع قائم على التوسّع والامتداد.
تحمّلنا الصراع معه؛ إذ يقتّل من عقود الفلسطينيين ومَن ناصرهم، لتتالى الهزائم، وتتكاثر الدماء والحروب، حتّى أملنا فـي فوز فريقٍ عربيّ واحد فـي مقابلات كرويّة عالميّة ينتهي أبدًا بالإحْباط. لا نحصِد حافزًا لا فـي واقع الثقافة، ولا فـي واقع الرياضة، ولا فـي واقع الجغرافـيا، ولا فـي واقع السياسة. لهذا السبب ولغيره من أسباب لا تخرج عن إطفاء كلّ أملٍ ممكن فـي نهضة عربيّة قريبة. نكبة 1948، ونكسة 1967، وهزائم متكرّرة تُصوَّر لنا أحايين عديدة على أنّها انتصارات، وتسميات مختلفة يُبدع فـيها العرب؛ حتّى يتجنّبوا وَقْع الهزيمة والكَسْر (نكسة، نكبة، عبورٌ) والحاصل حصادٌ من الانكسار.
يرى دارسو الأدب من منطلق ثقافـيّ، وتعويلاً على البعدين النفسي والاجتماعي أنّ تراكم الأزمات فـي المجتمعات العربيّة أنتج أدبًا عنيفًا، يمْثلُ عنفه فـي لفظه، وفـي وقْعه، وفـي حوادثه، وفـي شخصيّاته المأزومة المهزومة. غابت عن الأدب الشخصيّة البطوليّة المثاليّة فـي عالمٍ تتفتَّت فـيه البطولة. من هنا تكون الصدمة أثرًا بعد عينٍ، نتاجًا طبيعيّا لما بعد العنف والقتل والحرب، وأثرًا لواقعٍ حاملٍ لآليّات تحقيق الصدمة النفسيّة والاجتماعيّة والثقافـيّة كلّ آونة وحين. خطابُ الأدب يتمثّل واقعَ الأزمة، لا ليعيد إنتاجها، بل ليكسر أثرها، وليستدعي إلى الذاكرة الأدوات التي ساهمت فـي تكوين الصدمة فـي الوعي، والعمل على تحويلها إلى خطاب أدبيّ.
نحتاج نحن العرب اليوم بشدّة إلى الخروج عن الأرضيّة المنهجيّة البنيويّة فـي فهم الفنّ عمومًا، وفـي التفاعل مع الخطاب الأدبيّ تحديدًا، إلى إدراك أرضيّة منهجيّة تحليليّة تستند إلى المقاربات السرديّة لما بعد حداثيّة، لما بعد استعمارية، أو المتجاوِزة للسرديّات التقليّدية، فـي استدعاء مقاربات مقاميّة توُلي عنايةً للسياقات النفسيّة والاجتماعيّة والأنثروبولوجيّة، دون التخلّي عن الإرث البنيوي المهمّ فـي فهم الخطاب الأدبي وإدراك أبعاده. إنّ نقد أدب الصدمة يستند إلى تنظيرات أساسيّة لـ«كاثي كاروث» (Cathy Caruth)، وهي من أهمّ منظّري نظريّة الصدمة (Trauma Theory) فـي النقد الأدبيّ والدراسات الثقافـيّة. وهي من مؤسّسي اعتماد الصدمة أداة منهجيّة تحليليّة فـي سياق ما بعد البنيويّة، وما بعد الكولونيالية.
وقد بان ذلك فـي عملين جديين لها، أحدهما بعنوان «التجربة المنبوذة: الصدمة النفسية، السرد والتاريخ» (Unclaimed Experience: Trauma, Narrative, and History)، وقد أدّى ظهور هذا الكتاب فـي مجال دراسة الخطاب إلى «إحداث تطوّر كبير وتحوّل جوهري فـي الدراسات المختصّة» فـي أدب الصدمة وفـي النقد الأحدث، وكتابها الثاني الذي شكّل أنطولوجيا مهمّة جمعت فـيها مقالات لعدد من المفكّرين حول الصدمة، وعلاقتها بالذاكرة، وهو كتاب «الصدمة، مقاربات فـي الذاكرة»، (Trauma Explorations in Memory)، وهي أعمالٌ مستند أساسًا إلى تصوّر سيغموند فرويد من جهة، خاصّة فـي اعتباره أنّ الإنسان يُمكن أن يُعيد التجارب الصادمة اعتمادًا على «التكرار القهريّ».
وعلى ذلك؛ فإنّ تمثيل المأساة المتكرّر دون مساءلة أسباب حدوثها، وأرضيّة وقوعهان وعلل تحقّقها يُدرَك من حيث هو آلية نفسية ضاربة فـي اللاوعي، وتبرز على السطح دومًا فـي صيغ مختلفة، ومستندة أيضًا إلى تطوّر مباحث ما بعد الكولونياليّة، وخاصّة مع إدوارد سعيد وميشيل فوكو، فـي دراسة تمثّل الصدمة فـي الخطاب، وتحويلها من بُعدها الفردي والجمعيّ من حيث هي تجلّيات لأدب الضحيّة إلى إعادة سرد المكوّنات الأساسيّة الباعثة لعمق المأساة. إنّ منهجيّة تفكيك أدب الصدمة تتجاوز البعد النفسي الفردي، لتصبح ظاهرة ثقافـيّة واجتماعية، لها الدور الفاعل فـي إعادة تشكيل وعينا بالتاريخ، وإدراكنا له، وطرق التفاعل معه.
وقد توسّعت هذه المباحث عند الغرب فـي إطار رؤية تحتفـي بأدب الضحيّة خاصّة فـي التفاعل مع ظاهرة الهولوكوست، وسرديّة إبادة اليهود، فكانت هنالك أعمالٌ مهمّة لدومينيك لاكابرا (Dominick LaCapra)، «كتابة التاريخ، كتابة الصدمة» و«التاريخ والذاكرة بعد أوشفـيتر» (وأوشفـيتر هو أكبر معسكر اعتقال وإبادة أنشأه النظام النازي فـي ألمانيا، ويقع فـي بولندا)؛ إذ يذهب إلى أن للأدب القدرة على امتصاص الصدمة دون الوقوع فـي «إعادة تفعيلها»، وآن ويتهيد (Anne Whitehead) فـي كتابها «الأدب والسرد».
وفـي الدرس العربي ظهر كتاب مهمّ يعمل على الوقوف على أبعاد أدب الصدمة، بعنوان «كتاب الضحيّة، أدب الصدمة (التروما)، الصيغة، الأثر، الامتداد» لرامي أبو شهاب، فـي دراسته لأثرين مثَّلا نموذجين مهمّين لأدب ما بعد الكارثة، وهما «فرنكشتاين فـي بغداد» لأحمد سعداوي و«الخائفون» لديمة ونوس، ومجموعة «أثر الفراشة» لمحمود درويش، إضافة إلى مختارات من شعر محمد الماغوط.
إنّ مجمل الأعمال الغربيّة تتفاعل مع أدب الصدمة صدورًا عن «محرقة» وحرب إبادة كبرى تعرّض لها اليهود، فأنتجوا نظريّات لذلك، غير أنّنا تلقّفنا هذه النظريّات فـي بُعدها الكاسر للمركزيّة الغربيّة، وفـي صناعة الرأي بطريقة سافرة أو محجوبة. وأدركنا أنّ العرب المساكين تعرّضوا لأضعاف أضعاف ما عاناه اليهود -إن ثبتت رواية الهولوكوست، وسرديّة المحرقة- منذ دخول الرجل الأبيض إلى أراضي العرب، واحتلاله لها، وتقتيل شعبها، وانتهاك حرمتها، وتدنيس مقدّساتها.
ما فعله الإنجليز فـي مصر وفـي فلسطين لا يُوصَف، وما فعله الفرنسيّون فـي أرض المغرب العربيّ وخاصّة فـي الجزائر، وما فعله الإيطاليون فـي ليبيا يجاوز «أوشفـير» بكثير، وما زلنا نعاني من هذا الأثر بعد سلسلة حروب إسرائيل، والفتن الداخليّة التي ما زال الرجل الغربيّ يُدير أبعادها، فـي العراق، فـي لبنان، فـي اليمن، فـي ليبيا، بل فـي كلّ بقعة هنالك حرب وأزمة وكارثة.
نحن لم نلحق ما بعد الكارثة أثرًا نفسيّا يحوي صدمة قابعةً فـي الذاكرة. نحن فـي خطابنا ما زالت الكارثة تولّد كوارث. لم نجد بعد الهدْأة لنمسح دماءنا ونتذكّر. فهل يحقّ لنا أن نكون ضحايا هذا القرن، وأن تُصاغ لنا نظريّات للتأمّل فـي خطابنا السردي، صدورًا عن واقعٍ تتوالد فـيه الكوارث التي تصنعها المركزيّة الكونيّة!؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لا فـی واقع ات فـی ما بعد
إقرأ أيضاً:
الازهري يفتتح سلسلة محاضرات بجامعة مركز الثقافة الدينية بالهند
في إطار تعزيز القيم الأخلاقية وإحياء معالم الأدب النبوي الشريف، شهدت جامعة مركز الثقافة السنية الإسلامية تم مساء أمس الأربعاء افتتاح سلسلة دروس علمية متميز للدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف المصري
– وذلك بحضور علمي وجماهيري واسع.
افتُتح المجلس بكلمة ألقاها الشيخ أبو بكر أحمد – مفتي الهند ومؤسس الجامعة – حيث أشار إلى أهمية الأدب في حياة الإنسان، وأنه مفتاح القبول في الدنيا والآخرة، وأساس بناء الشخصية المؤمنة الراسخة.
تعتمد المادة العلمية للدروس على:
كتاب "الأدب" من صحيح الإمام البخاري، حيث يستخرج الازهري منه جواهر المعاني التربوية والسلوكية.
وقراءة وشرح كتاب "الفانية في حلاوة الأسانيد" للإمام السيوطي، لما فيه من روائع الإسناد والعناية بالاتصال العلمي.
محاور الدرس الأول
تحدث الدكتور أسامة الأزهري عن مفهوم الأدب، مبيِّنًا أن له نوعين:
أدب ظاهر: في الأفعال والأقوال والسلوك الاجتماعي.
وأدب باطن: في النية، والتواضع، والإخلاص، والمراقبة.
وأوضح أن الإمام البخاري قدّم كتاب الأدب في ترتيبه عمداً، وافتتحه بأحاديث عظيمة كحديث أنس وحديث عمر، ليبيّن جوامع الأدب النبوي في:
الأدب مع الله تعالى،والأدب مع الخَلق والناس والأدب مع الوطن والمجتمع.
وأشار الدكتور الأزهري إلى أن لبّ الأدب في الشريعة هو "العمل الذي يُقصد به وجه الله"، واستعرض نماذج قرآنية تدل على رفعةالأدب الإلهي في التعبير:قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ﴾ بدلًامن"كريم".
وقال: ﴿أَقْوَمُ﴾ بدلًا من "قويم".
و﴿أَحْسَنُ﴾ لا مجرد "حسن".
و﴿أَزْكَى﴾ بدلًا من "زاكي".
و﴿أَعْلَمُ﴾ و﴿أَهْدَى سَبِيلًا﴾ و﴿أَتْقَى﴾ و﴿أَكْبَرُ﴾ و﴿أَحَبُّ﴾
كل هذه التعابير تدل على أن القرآن الكريم يعلّمنا الأدب الرفيع في أقوالنا وأفعالنا، ويربينا على الطهارة الظاهرة والباطنة.
وختم فضيلته بدعوة حارة إلى طلاب العلم قائلًا:
"اذهبوا إلى القمم، فإن أعالي الجنة لا ينالها إلا أصحاب الأدب الرفيع!"
والقي كلمة الترحيب عبد الله الثقافي عميد كلية أصول الدين.
وشارك في هذا المجلس جمع من كبار العلماء والأساتذة وطلاب العلم من مختلف كليات الجامعة وفروعها، وسط أجواء من الخشوع والبهجة .