الأدب والألم: كيف يولد الجمال من رماد البؤس؟
تاريخ النشر: 11th, July 2025 GMT
كتب بول فيرلين في القرن التاسع عشر عنوانًا صار لاحقًا تسميةً لجيلٍ كامل من الحالمين المعذَّبين: "الشعراء الملعونون". بكلماتٍ قليلةٍ منح هؤلاء المبدعين هويتهم الأعمق: غرباء عن المجتمع، عن قواعده الوديعة، عن طمأنينته المزيّفة، عن الأحلام الآمنة التي لا تهزّ شيئًا. كانوا – وما زالوا – يكتبون في هامش الحياة، ويعيشون على الحافة نفسها التي يخشى الناس الاقتراب منها، ثم يتركون وراءهم نصوصًا تلتمع كنيازك صغيرةٍ على عتبة العدم.
فيرلين صنّف تريستان كوربيير، وآرثر رامبو، وستيفان مالارميه، ثم عاد في طبعة لاحقة ليضيف اسمه إلى اللائحة، كأنه يعلن انتماءه بنفسه إلى لعنةٍ كان هو أول من سمّاها. ثم امتدّ المصطلح ليضمّ أسماءً أخرى لم يحتملها زمانها: اللورد بايرون، جون كيتس، جيرار دو نيرفال، إدغار آلان بو، شارل بودلير، أنطونين آرتو… قائمة طويلة لنجومٍ سقطوا قبل أن يروا وهجهم يسطع. وإذا كان العالم قد عرف «الشعراء الملعونين» على يد فيرلين وبودلير ورامبو، فإن للثقافة العربية أيضًا تاريخًا حافلًا بمن طرزوا دواوينهم بخيوطٍ من وجعٍ لا يُخفى.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2رواية “الهرّاب” تفتح ملف اليهود في الجزائر خلال حقبتي الاستعمار والعشرية السوداءlist 2 of 2غسان زقطان: لا أثر لـ”الرواد” فيما أكتب وهكذا يصبح المنفى ثقافةend of listأبو الطيب المتنبي مثلًا، الذي لم يُساوم على كرامته، عاش معظم أيامه مشردًا هاربًا من حسد الأمراء وخيانة الرفاق، وكتب أجمل شعره بين أسفارٍ وحروبٍ وخيباتٍ مريرةٍ مع الكبار والصغار معًا. يقول:
رماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاء من نبالِ..
ف حتى القويّ الفخور بأناه الهائلة كان يعرف طعم الخيبة والمرارة والخذلان.
ولن ننسى المعري، الذي فقد بصره صغيرًا، ثم فقد حنان أسرته واحدًا بعد آخر، فغرق في عزلته الكبرى، وكتب روائعه كأنما يحاور العالم كله بلسانه وحده، ساخرًا من البشر، عاشقًا للمعنى، متشككًا حتى في بديهيات زمانه. ومع ذلك ترك أبياتًا من أصفى ما خطه شاعر، وأوصى أن يُكتب على قبره:
هذا جناه أبي عليّ… وما جنيتُ على أحد
ثم هناك بدر شاكر السياب، الذي أضاء الشعر الحرّ بجسده المريض. تآكل جسده مرضًا وفقْرًا ونفيًا، لكنه في لياليه الطويلة في سريرٍ المرض، كتب ما صار اليوم نبراسًا لجيلٍ بأكمله. قصائده الأخيرة تكاد تشبه آهاته. قال ذات مرة:
الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام…
حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق.
كأنما الجمال يولد من ظلال الفقر والمنفى.
إعلانوإذا تقدّمنا قليلًا وجدنا غسان كنفاني: منفيٌ آخر، صحفي وكاتب وروائي، عاش كل عمره القصير وهو يعرف أن الموت يلاحقه في حقيبة السفر. لم ينعم بدارٍ ولا أرضٍ ثابتة، ومع ذلك صاغ من غربته بيوتًا من قصصٍ ومقالاتٍ بقيت شاهدًا حيًّا على أن فلسطين يمكن أن تُروى حتى من دمٍ لم يجفّ بعد. وحتى في حاضرنا القريب نرى شعراء وكُتّابًا عربًا عاشوا في الظلّ رغم موهبتهم: مات محمود درويش والمنفى في جيبه، وظلّ نزار قباني يرثي من أحبّهم واحدًا تلو الآخر: ابنه توفيق، زوجته بلقيس… وعندنا في موريتانيا أمثلة كثير من فاضل أمين إلى المرحوم الشيخ بلعمش..
إن البيت الذي نكتبه لا يجمّل حياتنا بقدر ما يبررها. والقصيدة الجيدة ليست مخدّةً وثيرَة، بل هي ضمادةٌ على جرحٍ قديم، أو شاهدٌ على جرحٍ لم يندمل بعد. لكن ما معنى أن يكون الشاعر ملعونًا؟ إنه باختصار إنسانٌ رفض الامتثال للشائع والعامّ، إنه غريب الأطوار متقلب الأمزجة. ليس اجتماعيًا حتى مع نفسه، يعاند الحظ ويدمّر نفسه ببطء، أو يحرقها دفعةً واحدة، ليترك وراءه جُملةً أو بيتًا أو ديوانًا لا يشبه غيره.
إن البيت الذي نكتبه لا يجمّل حياتنا بقدر ما يبررها. والقصيدة الجيدة ليست مخدّةً وثيرَة، بل هي ضمادةٌ على جرحٍ قديم، أو شاهدٌ على جرحٍ لم يندمل بعد. لكن ما معنى أن يكون الشاعر ملعونًا؟ إنه باختصار إنسانٌ رفض الامتثال للشائع والعامّ، إنه غريب الأطوار متقلب الأمزجة. ليس اجتماعيًا حتى مع نفسه، يعاند الحظ ويدمّر نفسه ببطء، أو يحرقها دفعةً واحدة، ليترك وراءه جُملةً أو بيتًا أو ديوانًا لا يشبه غيره.
ربما لا مثال أصدق من شارل بودلير. رجلٌ حمل أزهارًا سماها «أزهار الشر»، فنُعتت قصائده بالمريضة والمنحرفة، حتى إن جريدة "لو فيغارو" كتبت وقتها أن ديوانه ليس سوى مستشفى مفتوح على كل عاهات الروح وتعفّنات القلب. لكن تلك القصائد التي حاكموه من أجلها وغرّموه عليها خمسين ألف فرنك، هي نفسها التي جعلت الأدب الفرنسي – فيما بعد – ينحني أمام اسمه.
غادر بودلير إلى بلجيكا ليهرب من عقوبة السجن، ولم يسانده في باريس من الكتّاب إلا صوتٌ بعيدٌ في المنفى: فيكتور هوغو، الذي كتب له في رسالةٍ خالدة: "أزهار شرك تخطف الأبصار… تشع على العالم كالكواكب والنجوم".
ما الذي تركه بودلير؟ دواوين شعر، مريض كتب في قلبه خلاصًا من كآبة العالم، لحظات مكثّفة من السعادة حين كانت القصيدة تأتي إليه في قلب نوبةٍ سوداء. عاش منبوذًا، ومات قبل أن تعترف به حتى أمه. لكنه انتصر أخيرًا، فالذين وصفوه بالمريض، عادوا يدرّسون قصائده بعد قرنٍ كاملٍ من موته.
لم يكن بودلير وحده، رامبو الذي هرب من الشعر مبكرًا وفيرلين الذي كتب لعنته بيده، ومثلهم جيرار دو نيرفال الذي قضى أيامه الأخيرة يكتب عن الحلم قبل أن يلفّ حبلاً حول عنقه.
ولا ننسى إدغار آلان بو الذي مات غريبًا في زقاقٍ باردٍ بعدما ابتكر قصص الرعب والتحقيق قبل زمانها. وحتى نيتشه الذي كتب "هكذا تكلم زرادشت" ثم خذلته دماغه وهو في الأربعين، فكأن للعبقرية ضريبةً لا بدّ منها.
لكن التاريخ الأدبي ليس أسودَ كلّه، هناك وجوهٌ أخرى تشبه الضوء، مثل فيكتور هوغو الذي عاش ملكًا بين الكتّاب، ربح المال والحب والشهرة في حياته كلها تقريبًا، لكنه لم ينجُ كليًّا من لعنة الأدب: فقد دفن أبناءه واحدًا تلو الآخر، وجُنّ أخوه، وغرقت ابنته ليوبولدين غرقًا مروّعًا مع زوجها العاشق الذي حاول انتشالها فغرق معها، ليترك هوغو يكتب وهو يبكي عقودًا بعدها.
إعلان ما الذي يريد الأدب أن يقوله هنا؟ليس شرطًا أن تكون الحياة مأساوية لتكتب نصًّا عظيمًا، لكنّ الحقيقة أن الجمال الأعلى في الأدب غالبًا ما يُولد في قلب ألمٍ هائل. إن القصيدة أو الرواية ليست لحظة تسليةٍ طريفة، بل حُفرٌ سرّية في جدار العالم. وحين نقرأ بودلير أو رامبو أو المتنبي أو المعري، فإننا لا نقرأ حروفًا مرتّبةً بعناية فقط – بل نقرأ ندوبًا عميقةً في روحٍ متعبةٍ، أصرّت أن تهدي القارئ خلاصها الصغير.
لذلك سيظلّ الأدب الكبير أقرب إلى شُرفةٍ مفتوحةٍ على الريح: يأتي إليه من يحتمل البرد كي يرى العالم من زاويةٍ غير مألوفة. سيظلّ الأدب أفضل شاهدٍ على أن الجمال الحقّ ليس رفاهيةً ولا زينةً تُعلّق على الرفوف، بل هبةٌ هشّةٌ يُدفع ثمنها من القلب أولًا. وهكذا، كلّما طويتَ ديوانًا أو روايةً تركها شاعرٌ ملعونٌ أو كاتبٌ مفجوع، تذكّر: هذا النص الجميل كان – يومًا – حريقًا في صدر صاحبه. وهذا هو السرّ البسيط: لا شيء بلا شيء… ولا قصيدة بلا ثمن.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات على جرح قبل أن
إقرأ أيضاً:
كرمها الرئيس عبد الناصر ودخلت الفن بالصدفة.. زبيدة ثروت «رمز» الجمال والرومانسية
تحل، اليوم السبت، ذكرى رحيل الفنانة الكبيرة زبيدة ثروت، إحدى أبرز نجمات السينما في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتي ارتبط اسمها بأدوار الرومانسية الهادئة والجمال الأرستقراطي، حيث تركت بصمة فنية بارزة في تاريخ الفن العربي.
وُلدت الفنانة زبيدة ثروت بمدينة الإسكندرية في 14 يونيو عام 1940، إذ كان والدها أحمد ثروت قبطانًا بالقوات البحرية المصرية، بينما تنتمي والدتها إلى سلالة السلطان حسين كامل، أنهت دراستها بمدرسة الرمل الثانوية، ثم التحقت بكلية الحقوق وتدربت في مكتب المحامي لبيب معوض، قبل أن تتجه لاحقًا لترك العمل بالمحاماة والتفرغ لمسيرتها الفنية.
دخلت عالم الفن بالصدفة بعد فوزها في مسابقة نظمتها «مجلة الجيل»، حيث نشرت صورتها على غلاف المجلة وهو ما لفت أنظار المخرجين والمنتجين إليها، لتظهر لأول مرة على الشاشة عام 1956 من خلال فيلم «دليلة» إلى جانب الفنانين شادية وعبد الحليم حافظ.
وحصلت على أول بطولة مطلقة لها في فيلم «الملاك الصغير» عام 1957 لتتوالى بعده أعمالها السينمائية مقدمة رصيدًا بلغ 27 فيلما من أبرزها «يوم من عمري» و «في بيتنا رجل» و«زوجة غيورة جدًا» و «حادثة شرف» و «زمان يا حب» و«المذنبون»، كما دخل فيلمان من أعمالها قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية.
شاركت زبيدة ثروت كبار نجوم جيلها وقدمت عددًا من الأعمال المسرحية وكان آخر ظهور فني لها من خلال مسرحية «مين يقدر على ريم» عام 1987 قبل أن تعلن اعتزالها الفن في أواخر الثمانينيات.
وخلال مشوارها الفني كرمها الرئيس جمال عبد الناصر عن فيلم «في بيتنا رجل» مع رشدي أباظة.
وفي ذكرى رحيلها تبقى رمزًا للجمال والرومانسية وأعمالها شاهدًا خالدًا على زمن الفن الجميل.
اقرأ أيضاًذكرى وفاة المؤرخ الوطني عبد الرحمن الرافعي.. صاحب السجل الأصدق لتاريخ مصر الحديث
ذكرى رحيل الفنانة ماري كويني.. مكتشفة النجوم ورائدة صناعة السينما
ذكرى وفاة المؤرخ الوطني عبد الرحمن الرافعي.. صاحب السجل الأصدق لتاريخ مصر الحديث