من رماد الحرب.. قصتان موصليتان ترويان وجهاً آخر للمدينة.

المصدر: شفق نيوز

كلمات دلالية: العراق الانتخابات القمة العربية أحمد الشرع نيجيرفان بارزاني سجن الحلة محافظة البصرة الدفاع بابل بغداد دهوك اقليم كوردستان اربيل المياه السليمانية اربيل بغداد انخفاض اسعار الذهب اسعار النفط أمريكا إيران اليمن سوريا دمشق دوري نجوم العراق كرة القدم العراق أهلي جدة النصر الكورد الفيليون مندلي احمد الحمد كتاب محسن بني ويس العراق الحمى النزفية غبار طقس الموصل يوم الشهيد الفيلي خانقين الانتخابات العراقية

إقرأ أيضاً:

بعد عاميـْن من الحرب اختفى كل شيء في غزّة

أُورْلي نُـوْي

ترجمة: بدر بن خميس الظفري

بعد نحو أسبوعين من السابع من أكتوبر تلقيت رسالة عبر تطبيق «واتساب» من أحد المعارف في غزة. طلب مني أن أطمئن على والدته التي كانت ترقد حينها في أحد مستشفيات القدس الشرقية بعد أن انقطع تواصله معها لعدة أيام. وعندما سألته عن تفاصيلها صمت ولم يرد.

قبل شهر تقريبًا وصلتني رسالة منه فجأة: «مرحبًا أورلي» كتبها بالعربية. تحمّست وسألته عن أحواله وأين هو؟ وكيف حال أسرته؟ فجاءني الرد الصادم: «محمود قُتل في بداية الحرب. أنا أخته». كتبت كلمات تعزية وسألت عن حالها، لكنها لم تُجب بعدها أبدًا.

من الصعب حقًا وصف الجحيم غير المسبوق الذي مررنا به خلال العامين الماضيين، لكن ربما الكلمة التي تختصر هذا المشهد المروّع بأكمله هي: الاختفاء، فقد تلاشى كل شيء تقريبًا. لم تختفِ عشرات الآلاف من الفلسطينيين في غزة فقط الذين مُسحوا من الوجود بلا قبور ولا سجلات كأنهم لم يخلقوا يومًا، بل تلاشت أيضًا مفاهيم أساسية كانت تشكّل جوهر إنسانيتنا. تلاشت الأخلاق والرحمة والحياء والأمل وكذلك المستقبل.

انهار المنطق الذي كان ينظّم الحياة اليومية. لم يعد هناك ما يُفهَم أو ما يُنتظر أن يكون مفهومًا. حربٌ كان يُفترض أن هدفها استعادة الأسرى، وتفكيك حركة «حماس» تحوّلت تحت غطاء شعارٍ غامض عن «النصر الكامل» إلى إبادة جماعية شاملة. والمجتمع الإسرائيلي احتضنها في حالة من الذعر والانبهار في آن واحد أمام كسرٍ لمحظور قديم، وإغراء الحلم المعلن بزوال الفلسطينيين تمامًا.

قبل عامين بعد أيام من هجوم السابع من أكتوبر حذّرتُ من أن الانتقام لن يجلب سوى المزيد من العنف والمعاناة. كنت أدرك أن الرد الإسرائيلي سيكون منفلتًا، لكن حتى في أسوأ كوابيسي لم أتخيّل أن يصل الأمر إلى هذا الحدّ من الإبادة المنهجيّة المحسوبة. لم أظن أن إسرائيل ستجوع الناس حتى الموت. ولم أتخيّل أنها ستمحو في المتوسط صفًّا دراسيًا كاملًا من الأطفال كل يوم على مدى عامين كاملين. ولم أظن أن العالم سيسمح لها بذلك؛ ذلك الشكل الغريب من معاداة السامية المقلوبة (أي منح إسرائيل حصانة أخلاقية بدعوى خصوصيتها اليهودية) التي تعني فعليًا إن القوانين الإنسانية لا تنطبق على هذا الكيان اليهودي الجماعي.

لقد طبعت خلال العامين الماضيين أمور شاذّة للغاية. صارت النقاشات تدور حول ما إذا كان أطفال غزة المنتفخة بطونهم قد ماتوا جوعًا حقًا أم بسبب أمراضٍ سابقة؛ وبالتالي فإن إسرائيل ليست مسؤولة عن موتهم. تحوّلت تلةٌ في مدينة سديروت الإسرائيلية إلى نقطة جذب سياحي يأتي الناس إليها ليشاهدوا بمتعةٍ خفية أعمدة الدخان المتصاعدة فوق غزة.

سادت حالة من الانفصام الجماعي في الوعي الإسرائيلي. فحتى بعد أن صار واضحًا أن تدمير غزة وسكانها لن يعيد الأسرى، بل يعرّض حياتهم للخطر -كما أكد جميع من أُفرج عنهم-، وحتى بعد أن ثبت أن السبيل الوحيد لإعادتهم أحياء هو وقف إطلاق النار والتوصل إلى اتفاق؛ استغرق الأمر وقتًا طويلًا قبل أن تضم المظاهرات المطالبة بإطلاق الأسرى دعواتٍ لإنهاء الحرب. وحتى حين حدث ذلك نادرًا ما تجرّأ أحد على وصف ما يجري بأنه جرائم ضد الإنسانية، ولم يظهر أي حراك واسع للجنود الرافضين المشاركة في تلك الجرائم.

منذ السابع من أكتوبر اختفى الإعلام الإسرائيلي بمعناه الحقيقي. باستثناء بعض الأصوات الهامشية أخفى الإعلام عمداً فظائع غزة حتى صار المواطن العادي في أي دولة أخرى يعرف عن الحرب أكثر مما يعرفه الإسرائيلي نفسه. وحتى حين انتشرت الصور على وسائل التواصل الاجتماعي كان الناس يفتقرون إلى أبسط الأدوات لفهم ما يشاهدونه. وبينما كان العالم يستنكر تجويع إسرائيل لغزة وقتل المدنيين بلا تمييز كان الإسرائيليون يصفقون لحكومتهم «الرحيمة»؛ لأنها سمحت -كما قالوا- بدخول بعض شاحنات المساعدات إلى «العدو» أثناء الحرب!

كما اختفت المعارضة اليهودية كذلك؛ فقد اصطفّ سياسيون بنوا مسيرتهم على معارضة بنيامين نتنياهو خلفه في دعمه لإبادة الفلسطينيين في غزة، ولأي ضربة إسرائيلية متهوّرة ضد دولٍ أخرى في الشرق الأوسط. بلغت هذه الحالة ذروتها عندما أيّدت المعارضة بحماسة قصف وفدٍ من حركة حماس في الدوحة، وهو وفد جاء للتفاوض حول مصير الأسرى الإسرائيليين أنفسهم بينما كان هؤلاء الساسة يضعون على صدورهم شاراتٍ كتب عليها «مع الأسرى» منذ عامين!

ومنذ اليوم الأول للحرب سُحقت أي معارضة حقيقية لها بعنفٍ على يد الشرطة تحت قيادة الوزير المتطرف إيتمار بن غفير. اعتُقل قادة فلسطينيون؛ لمجرّد نيتهم تنظيم مظاهرات ضد الحرب، واحتُجز مئات المواطنين العرب أو فُصلوا من أعمالهم؛ بسبب تضامنهم مع سكان غزة.

أما اليهود الذين عارضوا الحرب فقد تعرّضوا للتشهير والاتهام بالخيانة و«كره الذات اليهودية» حتى من شركائهم السابقين في معسكر السلام. شاهدت بمرارة أولئك الرفاق القدامى «يستفيقون» بعد السابع من أكتوبر ليغرقوا في خطابٍ مليء بالكراهية والعنف ضد الفلسطينيين والإسلام. في غضون عامين فقط اختفت أيضًا روابط إنسانية كثيرة: صداقاتٌ، وعلاقات عائلية، وصلات كانت يومًا متينة.

قبل أسابيع زرت متحف هيروشيما التذكاري للسلام في اليابان، وفوجئت بمدى التشابه بين الصور هناك وما أراه في غزة اليوم، بل إن الدمار في غزة يفوق ما حلّ بهيروشيما بعد القنبلة النووية التي لم تسحق الكيلومترات الواسعة من المباني كما فعل القصف الإسرائيلي. ففي هيروشيما قُتل ما بين 90 و140 ألف شخص. أما في غزة فقد تجاوزت التقديرات 100 ألف قتيل، ولا أحد يعرف ما سيكون عليه الرقم النهائي حين ينجلي الغبار.

لفتت نظري صورة واحدة في المتحف: «ظل إنساني منقوش على الحجر». ظلّ شخصٍ كان جالسًا على درج مصرف لحظة سقوط القنبلة، ولم يبقَ منه سوى بصمة ظله على الأرض. ربما هذا ما تؤول إليه كل المآسي الكبرى في النهاية إلى الغياب الذي تخلّفه وراءها. وهكذا في غزة -وإن بطريقة مختلفة تمامًا-، وفي إسرائيل أيضًا.

لا أعرف ما الذي يمكن أن يولد من هذا الفراغ الذي خلّفته سنتان من الدمار والموت الذي لم ينتهِ بعد.

لا أحد يستطيع أن يجزم، لكن يمكن القول شيئًا واحدًا على الأقل: لن يكون هناك أي أمل في نموٍّ جديد ما لم ننظر في هذا الفراغ، ونبحث في هذا الغياب، وندرس هذه الهوة، ونُدرك أبعادها بالكامل، ونتوقف عن هذا الجنون.

أُورْلي نُـوْي هي صحفية ومحررة في مجلة «لوكال كول» الناطقة باللغة العِبـْرية.

عن الجارديان البريطانية

مقالات مشابهة

  • الدفاع المدني بغزة يهيب بالراغبين بالعودة للمدينة انتظار إعلان رسمي
  • إعلان وقف الحرب!
  • إعلان التوصل لاتفاق يوقف الحرب على غزة .. تفاصيل
  • تـــرامـــب يــعــلــن الـتوقـيـع على اتـفـاق وقـف الحـرب في غــــزة
  • آل سعيفان يوجهون رساله شكر وعرفان للمدينة الطبية وكوادرها
  • غزة بلا بنية تحتية بعد عامين من الحرب
  • بعد عاميـْن من الحرب اختفى كل شيء في غزّة
  • عصام الصبحي والمعز علي وجها لوجه
  • عامان على الحرب.. كيف عاش أهل غزة تداعياتها؟
  • شيطان التفاصيل في خطة ترامب