في السياسة، كما في التاريخ، هناك لحظات تَشبه النبوءات. لا لأنها تُسجل ما سيحدث حرفياً، بل لأنها ترسم بعمقٍ نادرٍ صورة المستقبل إذا ما اختلَّ ميزانه. ومن بين هذه اللحظات، تظل كلمات الكاتب والمفكر الكبير أحمد بهاء الدين في يناير 1970، ثم بعد وفاة عبد الناصر في أكتوبر من نفس العام، بمثابة النبوءة التي تحققت.
لم يكن أحمد بهاء الدين مديحياً ولا محابياً، لكنه كان قارئاً مدهشاً لخريطة العالم العربي، وقارئاً لوجه التاريخ قبل أن يُكتب. فقد كتب، في ذروة الحصار والحرب النفسية، عن معنى وجود جمال عبد الناصر في المنطقة: الزعيم الذي لم يكن قائداً سياسياً فحسب، بل كان حائط الصد الأخير أمام لعبة الأمم.
فقد كان يدرك أن الشرق الأوسط ليس مجرد جغرافيا، بل ساحة تنافس، كل قوة كبرى تُريد رسمه على هواها. وعبد الناصر كان "الحجرة الكؤود" أمام هذا الرسم. لم يسمح للاعبين الدوليين أن يتحكموا بالمنطقة كأنها رقعة شطرنج، ولم يُسلم مفاتيح القرار لمن هم خارج الجغرافيا والتاريخ العربي.
وها نحن بعد نصف قرن، نرى الخرائط الجديدة تُرسم على مهل، بخيوط أمريكية، وأقلام إسرائيلية، وتوقيعات عربية للأسف. نشهد قادةً يلهثون خلف تطبيعٍ مهين، وآخرين يرفعون شعارات وطنية زائفة وهم يفتحون الأبواب خلف الستار للمشاريع الانقسامية. منهم من رقص مع الذئاب، ومنهم من صار ذئبًا على أهله.
نبوءة بهاء الدين كانت واضحة: إذا غابت زعامة تحمل روح الأمة، انفرط العقد، وتحول الوطن إلى قطيعٍ يبحث كل فردٍ منه عن مظلة تحميه، وعن خلاص فردي في مواجهة طوفان التمزق. وهذا ما نراه اليوم، قُطُر بلا تنسيق، صراعات دموية، تطاحن على الحدود، وتحالفات ضد الذات.
في غياب "المركز" غابت الهيبة، وفي غياب "الرمز" تجرأ الضعفاء، وتكاثر المتآمرون.
وما زال السؤال المرير يطرق رؤوسنا كل يوم: ماذا كنا؟ وماذا صرنا؟
عبد الناصر لم يكن معصوماً، ولم يكن فوق النقد.لكنه كان عنواناً للكرامة، وامتداداً لحلم التحرر، وصدى لصوت الشعوب في زمنٍ كان فيه الصمت سيد الموقف. وعندما رحل، رحل معه كثير من الأمل. ما تبقى من أثره لم يكن نظاماً، بل فكرة. الفكرة التي قاومت الانهيار زمناً، قبل أن يغدر بها الأقربون قبل الغرباء.
ولعل في نبوءة أحمد بهاء الدين اليوم، دعوة للعودة إلى الجذر، إلى الفكرة، لا إلى الأصنام.
أما الذين كلما كتب كاتب عن عبد الناصر أو دافع عن المشروع الوطني، وسموه فوراً "ناصرياً"، فهم لم يقرأوا كتاب أستاذنا الشهيد العالم جمال حمدان، الذي أدرك أن الكلمة لا تُختزل في التصنيف، وأن "الناصرية" إن وُجدت، فهي مشروع سياسي - حضاري له ما له وعليه ما عليه، لا حكمٌ مطلق ولا هتاف أجوف. مشروع يُقيمه المؤرخون لا هواة القطيع ولا تجار الرجعية.
الكاتب لا ينقّب في قبور الأموات، ولا يُصدر صكوك غفران، ولا يحكم على بشر من أهل الجنة أو الجحيم. الكاتب لا يكتب للـ"لايكات"، ولا يرتدي عباءة الوعظ الزائف. بل يكتب لأنه وجد موقفاً أخلاقياً لا يُمكن السكوت عنه.
يكفي جمال عبد الناصر شرفاً أنه مات في القمة العربية في أيلول الأسود، وهو يحاول حقن الدم العربي في عمّان.
فيا من تنتقد عبد الناصر اليوم، ما الذي فعلته لأطفال غزة؟ ما الذي فعلته حين ذُبح الحلم؟ هل تجرأت على ذئب، أم صرخت على جثة؟!
ليتك كنت ناقداً حقيقياً، لا متفرجاً على مأساة.. .، ، ، !!
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية.. ، !!
[email protected]
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: غزة جمال عبدالناصر أحمد بهاء الدين أطفال غزة أحمد بهاء الدین عبد الناصر لم یکن
إقرأ أيضاً:
أمير صلاح الدين يثمن جهود السيسي في وقف الحرب على غزة
أبدى الفنان أمير صلاح الدين فخره الكبير بالجهود الدبلوماسية والسياسية التي بذلها الرئيس عبد الفتاح السيسي لإيقاف الحرب على غزة، مؤكدًا أن ما تحقق يمثل انتصارًا جديدًا للدبلوماسية المصرية.
وصرح صلاح الدين في تصريحات صحفية أن العامين الماضيين كانا بمثابة كابوس ثقيل على الجميع، مضيفًا: "شهداء فلسطين في الجنة إن شاء الله، ونتمنى أن تنتهي هذه الأزمة على خير".
كما أشار إلى أن توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل بالتزامن مع احتفالات مصر بانتصارات أكتوبر يعد مصدر فخر كبير للمصريين، ويجسد الدور التاريخي لمصر في نصرة القضية الفلسطينية.
وعلى المستوى الفني، أفاد الفنان أمير صلاح الدين بأنه شارك في تقديم أغنية بعنوان "صباح الخير يا غزة" بعد اندلاع الحرب، إيمانًا منه بقرب انتهاء العدوان، مشيرًا إلى أن الأغنية كانت رسالة دعم وصمود للشعب الفلسطيني.
واختتم تصريحاته قائلًا: "كان هناك تشكيك كبير في الجهود المصرية، لكن اليوم أصبح واضحًا للعالم من هو العدو الحقيقي، ومن يقف مساندًا للحق والسلام".