رسالة كونية في حمامة
تاريخ النشر: 26th, July 2025 GMT
أنيسة الهوتية
فجأة شعرت بأنني لا أشعر بشيء!!!
لا خوف، لا قلق، لا توتر!!!
حتى لا جوع ولا عطش ولا نعاس!! ولا رغبة في الخروج من البيت، أو المكوث فيه!!!
ماذا أصابني؟! هل تبلدت مشاعري؟! أم أنها جلطة عاطفية، وربما سكتة مشاعرية؟!
كنت أسقي عروقي العطشى حين تصرخ مستنجدة مخافة الموت بالقهوة المرة السادة، فقد كانت النكهة الوحيدة التي تقبلتها وحدتي الممتلئة بالضجيج.
لم يتجرأ أحد على مداهمة وحدتي، مخافة ردة فعلٍ مجنونة من شخصٍ لطيف. أو لعدم علمهم بحالتي… باستثناء تلك الحمامة البرية "الحقمة" التي قررت في ليلة وضحاها بناء عشها فوق مصباح مدخل البيت، حيث أجلس وأحتسي القهوة، وتمامًا على رأسي.
انزعجت من ذلك، ولكنني لم أستطع أن أُنفرها، فإن الملك لله وحده. فتركتها، وشغلتني بالتنظيف وراءها. وليلًا كانت تهدل بصوت خافت حين احتسائي لقهوتي، وكلما غرقت في أفكاري أخرجتني إلى الواقع.
فقررت إطفاءَ المصباح الذي بنت عشها عليه، واكتفينا بالمصابيح الجانبية التي تعمل بالمجسات والطاقة الشمسية.
وهكذا عقدنا اتفاقًا أنني سأحتسي أكواب قهوتي في الظلام، وأطفأ لها المصابيح حتى تنام… وألا يزعج أحدٌ منا الآخر.
وبالأمس، قبيل وقتنا، كانت تنوح نوحًا ولا "تهجع"... تطير إلى المصابيح المجسية بتكرار واحدة تلو الأخرى وتجعلها تضيء، كانت مجنونة. فخرجت لأرى ما بها! وما إن فتحت الباب وإذا بجيوش من النمل الأسود في خط مستقيم وكأنه شعر ساحرة شرقية طوله عشرة أمتار!!
وبيضة واحدة من بيوضها متكسرة على الأرضية، يبدو أنها سقطت من العش، والنمل يحتفل بوليمة دسمة. فنظرت إليها بينما هدأت من جنونها! وبدأت تنظر إليَّ مباشرة، فبدأت أبكي… بكيت بكاءً… بُكاءً لم أبكهِ حتى في عزاء أبي لأنني كنت أفكر حينها بأمي، ولم أرد أن أثقل حمل حزنها وألمها أكثر. بكاء لم أبكهِ حتى في عزاء أمي لأنني كنت أفكر بإخوتي وأخواتي الصغار، فإن كنت أنا من انهار ماذا يكون بشأنهم!؟
وتخيلت أن مجرد حمامة "انجنت" على بيضة من بيوضها "كذا؟" فماذا عن الأمهات في غزة؟ جلست دون شعورٍ على النمل الذي لربما قال لجيشه: انتبهوا لتحطمنكم أنيسة! وبدأت أشعر بمرارة وحرارة دموعي في بلعومي وحلقي وأنفاسي. حتى نزلت الحمامة وجلست على رأسي وكأنها تواسيني في خسارتها.
أخبرتها وصوتي يشهق أنفاسه: أنا آسفة جدًا بأنني لم أستطع مساعدتك، وبأن البيضة لو لم تكن مكسورة لكنت سأعيدها لكِ إلى عشك!
لم أستطع التوقف عن البكاء الذي كان يزهق قلبي طوفانًا مقهورًا وغاضبًا من قلة الحيلة، حتى نزلت الحمامة من قمة رأسي إلى كتفي ثم إلى كفي. وعندما بدأت أهدأ، رفرفت بجناحيها راجعة لعشها… اعتذرت منها كثيرًا، لأنني أعلم شعور ألم الخيبة، خاصة حين لا ينقذك من ترى فيه السند والظهر… ولأن قلبي ممتلأ بحزن الأمهات في غزة، وبعضًا مما أكبته، انفجرت بكاءً… ولم تكن الحمامة سوى تمثيل حي في صورة تشبيهية كونية كمثل الغراب الذي علم قابيل كيف يدفن جسد هابيل.
وعلمتني تلك الحمامة أن الحياة لا تتوقف، وبأننا يجب أن نؤمن إيمانا ويقينا بأن الله تعالى هو مسبب الأسباب وحده، وهو القاضي العدل والمحامي الذي سيعيد لكل مظلوم حقه، ولو بعد حين.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً: