صحيفة التغيير السودانية:
2025-12-10@13:05:01 GMT

الوجوه المتعددة للبذاءة (2)

تاريخ النشر: 10th, December 2025 GMT

الوجوه المتعددة للبذاءة (2)

د. ناهد محمد الحسن

لم تولد البذاءة ثورية، ولم تُخلق لتكون شعارًا سياسيًا أو صوتًا للجماهير. لكن عندما تشتدّ الأزمات، يعاد ترتيب وظائف الأشياء، وتجد الكلمات المنفية إلى حواف اللغة طريقها فجأة إلى مركز الساحة. ولكي نفهم البذاءة في سياق المقاومة، لا بد أن نستدعي أعمق نقد وُجه للّغة. وهو النقد الذي قدمه ماركس، وإنجلز، وتروتسكي لما يسمّى بالأخلاق البرجوازية.

فالأدب الاجتماعي يخبرنا أن “التهذيب” لم يكن يومًا قيمة محايدة. كأن طبقة كاملة من القواعد صُمِّمت لتقول من يحق له الكلام، وكيف يجب أن يتكلم، وعلى أي نبرة، وضمن أي حدود. بهذه القواعد، تُحكم المجتمعات دون شرطة، ويُربّى الناس على احترام كلمات معينة وتجنّب أخرى،

لا بدافع الأخلاق… بل بدافع السلطة. “فالطبقة التي تملك الامتيازات تملك أيضًا حق تعريف “اللغة المهذّبة”، ومن يخرج عن لغتها، يخرج عن طاعتها. هنا تمامًا يظهر معنى استخدام البذاءة كسلاح مقاومة. إنها ليست رغبة في “التدنّي”، بل رغبة في نزع قدسية اللغة التي حصرت الحقيقة في يد الأقوياء. ولهذا قال تروتسكي  رأيًا جوهريًا:

إن البذاءة حين تخرج من أفواه المقهورين لا تشرح يأسهم، بل تشرح وعيهم بما فُرض عليهم.

يرى عالم الإجتماع إرفنغ غوفمان أن المجتمع يشبه مسرحًا كبيرًا. في واجهته الأمامية الناس مؤدّبون، منمقون، خاضعون للسياق. بينما يقبع في واجهته الخلفية الغضب، السخط، الخوف، التناقضات. السلطة تريد من الناس أن يظلّوا على الواجهة الأمامية دائمًا. أن يبتلعوا الظلم بهدوء. أن يتحدثوا بلغة مهذّبة حتى وهم يُعذبون. لكن الثورات لا تقوم على المسرح الأمامي.

الثورات تبدأ حين يقتحم الناس الواجهة بالكلمات التي كانت محصورة في الخلفية. وهنا يتضح دور البذاءة. فالبذاءة هي اللحظة التي يسقط فيها الستار. ويظهر الواقع كما هو دون تجميل. وتفسد اللعبة الاجتماعية. لهذا تخشاها السلطة…لأنها تكسر وجودها الرمزي قبل وجودها العسكري. تحوّل الزعيم إلى رجل، والشرطة إلى أفراد، والدولة إلى جهاز قابِل للنقد.

 

في السودان، لم يكن شعار “تسقط بس” بذاءة، لكنه كان كسرًا للنبرة الرسمية. أما البذاءات التي لحقت به في الشوارع فكانت…تمرّدًا على اللغة التي طالبت الناس بالانحناء قبل التفكير.

تُظهر التجارب النفسية أن الخوف يُفقد الإنسان قدرته على الكلام المنظّم. البذاءة تظهر عندما يبدأ الحاجز العصبي بين الخوف والصوت في التهشّم. في الأنظمة السلطوية، يُربّى الناس على الصمت. يُعلَّمون أن الكلام مخاطرة. وأن الغضب يحتاج إذنًا. وأن الاعتراض يجب أن يكون “محترمًا” لكي يُسمع. لكن الانفجار الأول للحرية ليس هتافًا مهذّبًا. إنه كلمة حادّة، بسيطة، محرّمة، تنجح في اختراق الصمت لأن الجهاز العصبي نفسه يدفع بها إلى الخارج.

وهذا يفسّر شيئًا مهمًا؛ ان الجماهير لا تختار البذاءة لأنها جريئة، بل لأنها الكلمة الوحيدة القادرة على حمل الانفعال عندما تضيق اللغة المهذّبة. البذاءة هنا ليست إساءةبل استعادة لسلطة الصوت.

حين تتراكم كل هذه الطبقات، اللغة، الطبقة، التمثيل الاجتماعي، علم النفس، يتحوّل معنى البذاءة. لتصبح دفاعًا عن الحق في الكلام. انحيازًا للحقيقة العارية على حساب التجميل. رفضًا للمقام اللغوي الذي تفرضه السلطة. نقطة التحوّل من الخوف إلى الجرأة.

تاريخيًا، استخدمت المجتمعات البذاءة حين ينهار العقد الاجتماعي، أو يتوحّش الاستبداد، أو تصبح اللغة الرسمية عقبة أمام قول الحقيقة. في تلك اللحظة، لا يعود للكلمة البذيئة معناها الأخلاقي، بل معناها السياسي: أن أستعيد حقي في اللغة لكي أستعيد حقي في العالم.

 

نواصل. عن البذاءة كأداة مقاومة

 

 

 

الوسومناهد محمد الحسن

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

إقرأ أيضاً:

المسرح ما بعد الدراما.. موت اللغة أم ولادتها؟

تغير وجه المسرح بعد برتولد بريخت، كما تغير من قبله الأرسطية. يتميز مسرح ما بعد الدراما بتحولات بنيوية عميقة أعادت ترتيب العلاقة بين النص والعرض، وبين الكلام والصورة، وبين اللغة كجملة لغوية واللغة كفعل، وبين الجمهور وعلامات التلقي. وحسب أندريز فيرت، فإن مسرح ما بعد الدراما هو مضاد للنص الدرامي المكتوب.

كانت لكتاب مسرح ما بعد الدراما هانس- تيز ليمان عام 1999، خاصية أساسية تمثلت في إرجاء النص الدرامي «من حيث هو وسيط يوجه الحدث المسرحي؛ ولكن هذا لا يعني إقصاء مطلقا للنصوص الدرامية، بل تفكيك للتقليد الأرسطي الذي وضع تراتبية في سيرورة صناعة الفرجة المسرحية، وعلى رأسها النص الدرامي...».

مؤخرًا، «بدأت تتحكم في إنتاج وتلقي العروض المسرحية في المهرجانات العربية؛ كالقاهرة التجريبي، وقرطاج، والهيئة العربية للمسرح، والخليجي «دراماتورجيا بصرية، وتركيبات في الصوت، ومسرح الرقص وفن التصوير الفوتوغرافي، ومؤثرات رقمية قلما أمكن إخضاعها للنص الدرامي»».

إن مسرح ما بعد الدراما، مسرح صعد عن طريق الممارسات التجريبية، وتقدم الوسائط الرقمية، فشهدنا عروضا تعيد الاعتبار للجسد كخطاب مستقل، والآلة «ميكروفون، لابتوب، الهاتف الجوّال»، ما أدى إلى تشكّل السؤال الجوهري: هل يمثّل المسرح ما بعد الدرامي موتًا للغة، أم ولادة جديدة لها؟ ما الذي ينتظره المتفرج من العرض ما بعد الدرامي في العروض الحديثة؟

إن فهم الإطار الفكري والفلسفي لما بعد الحداثة شرّط مركزي لاستيعاب أطروحات مسرح ما بعد الدراما. لقد أصبح واضحا أن أزمة تلقي العروض الحديثة في حقيقتها أزمة في المرجعيات من جهة، والمصطلح من جهة أخرى. وتمخّض هذا الأمر عن انقسام كبير بين المشتغلين بالمسرح، سواء أكانوا مخرجين أم نقادًا أم فنانين. إن الجانب الأقرب لحصر هذا الانقسام كان ينبغي أن يظل في ساحة العلم وإنتاج المعرفة والإبداع، لكنه أخذ ينتقل إلى دائرة رؤساء المهرجانات شيئا فشيئا، وإدارات الإنتاج المسؤولة عن الدعم والتمويل. مع صعود هذا الانقسام لم يُطرح سؤال عما يبحث الجمهور من جماليات يرى من خلالها المسرح مكانًا للمتعة والمعرفة والبحث.

ومسرح ما بعد الدراما، لا يولي مؤلف النص، ولا النص ولا القصة أي أهمية. إنه مسرح «يعرض وضعًا أو حالة كبديل للقصة ومبدأ الفعل»، لقد انتهى النص، صحيح أنه لم يَمت، لكن تأثيره وعالمه الأدبي لم تعد له قيمة، وهذا ما دفع كريستل فايلر إلى الاعتقاد أنه «مع نصوص تشيكوف، ستبدأ بالفعل نهاية نوع من الدراما التقليدية». والسؤال الجوهري ما جدوى مسابقات التأليف المسرحي التي تُقام في مختلف الوطن العربي وهناك ما يتعارض مع مسرح ما بعد الدراما الذي أخذ يشكّل منعطفا كبيرا؟

يكتب خالد أمين نقلا عن ليمان إن مسرح ما بعد الدراما «فرجة مسرحية مخطط لها ومفكر فيها بشكل تشاركي/ تفاعلي... كما أنه مسرح غير أدبي، وهذا المنحى لا يلغي شعرية المنجز المسرحي بكل مكوناته على خشبة المسرح، فهو مسرح تجريبي وهذا جزء من أهدافه...».

تبدو إجابة أسئلتنا أعلاه أكثر تعقيدًا؛ مما توحي به ثنائية الموت/ الولادة. فالمسرح ما بعد الدرامي لم يُلغِ اللغة، لكنه حوّر وظائفها، وحرّرها من سلطة المعنى الأحادي، وبهذا المعنى أنه مسرح «لا تُهمه الرسالة، بل تهمه طريقة الأداء».

فإذا لم يكن نص المؤلف أو حوار الشخصيات هما الوسيط الرئيس لخلق الدلالة، فإن هذا التأسيس «أدى إلى الاهتمام بالممثل، والمتفرج، والكتابة الركحية، وشعراء الخشبة».

إن تطور الجماليات الأدائية هو صُلب مسرح ما بعد الدراما. إنها كما يصفها ليمان «تخلق علاقة خاصة بين النص وموقف الأداء المادي وخشبة المسرح التي تختفي منها الحبكة أو بالأحرى تتوارى خلف الحالات والعلامات لكي يخلق تأثيرا لدى المشاهدين من خلال عملية التفاعل مع ما فوق الخشبة من عوالم أكثر من التزامه بالنص». يعتقد محمد سيف بوصفه أحد المساهمين في كتاب مسرح ما بعد الدراما أن كتاب ليمان هو «فصل في علم الجمال»، وجهد توليفي لفهم الظروف والآثار الجمالية والنظرية للعروض المسرحية عوضا عن النصوص».

في عروض مسرح ما بعد الدراما، تتولد لغة جديدة تنخرط فيها شبكة من العلامات البصرية والصوتية والفراغية والحركية، أشير مثلا إلى عرض «نحن من وجهة نظر قط» للمخرج أنس عبدالصمد، الذي انخرط في روح مسرح ما بعد الدراما.

تستدعي هذه اللغة جمهورًا واعيًا، مثقفًا يمتلك قدرة من التحمّل والصبر، ومخزونًا لا ينضب من العلامات والإشارات؛ لأن العرض نفسه أصبح هو النص، والجسد صار مركز الدلالة، والصورة هي التي تنتج معنًى مستقلا.

لكن، ماذا سيحدث إذا لم يستطع الجمهور تقبّل جماليات الأداء الحديثة؟ كيف سيتفق مع فلسفة إعادة توزيع سلطة الجماليات الجديدة؟ هل سيُلغى شكسبير وإبسن مثلا؟ إن مهرجانات المسرح في الوطن العربي تحتفي بالكثير من عروض حديثة مفككة النصوص، كتابة شذرية متشظية، وجملا مبتورة، وممثلين لا ينطقون بكلام واضح، بل يصرخون أو يُهمهمون، ليس بينهم علاقات أو روابط تاريخية أو اجتماعية، حيث يكون العرض نصًا وطاقة جسدية خطرة.

هل تراجع الكلام لصالح الصورة؟

أعود إلى الغرفة المضيئة: تأملات في الفوتوغرافيا لرولان بارت ترجمة هالة نمَّر مراجعة أنور مغيث، حيث يضع بارت تمييزا حادا بين طبيعتين مختلفتين للّغة عن الصورة: يكتب التالي: «بما أن الصورة هي محض صدفة خالصة، ولا يمكن أن تكون غير ذلك (دائما ما تعرضُ شيئا ما) -على عكس النص الذي يستطيع، عن طريق التأثير المباغت للكلمة الواحدة، أن يمرر جملة من الوصف إلى التأمل- تُقدم الصورة على الفور تفاصيلها التي تؤلف المادة الخام نفسها للمعرفة الإثنولوجية».

إن بارت لا ينحاز للصورة على حساب الكلمة؛ بل يضعهما في موقعين مختلفين، لا في صراع. يشرح أن الصورة = انفتاح مباشر على العالم، والكلمة = قدرة على انتقال المعنى وتكثيفه وتأويله. وبهذا المعنى، يقدم بارت مفتاحًا نقديًا لفهم جوهر مسرح ما بعد الدراما؛ فاللغة التي يتحدث عنها بوصفها حدثًا ينتقل من الوصف إلى التأمل، هي ذاتها اللغة التي تتحول في العرض المعاصر إلى فعل بصري/جسدي يُنتِج المعنى من خارج حدود الجملة، ومن داخل منطق حضور الممثل.

إن سيطرة الجسد والرقص وعروض الحركة في مسرح ما بعد الدراما، ليست بالضرورة انحيازًا تقنيًا أو جماليًا بقدر ما هي انقلاب معرفي. التكنولوجيا تفرض تقدمها في العالم ووسائل التواصل الافتراضي تتطور، والذكاء الاصطناعي يُغير أسلوب تلقي المعرفة. إن أي حديث عن عودة النص بمرجعياته لن يشكل تمردًا كاملا على الصورة داخل المسرح ما بعد الدرامي، بل حاجة أساسية لا فرار منها.

إن المفهوم الجوهري في المسرح ما بعد الدرامي هو التحوّل من اللغة بوصفها تمثيلًا للواقع إلى اللغة بوصفها حدثًا يقع الآن، في اللحظة. إن مهرجانات المسرح العربي تمثّل مساحة خصبة لمناقشة هذا التحول، لأنه في معظم تاريخه ظل تابعًا للنص.

منذ التسعينيات وبداية الألفية، بدأ المسرح العربي، في التحرر من هيمنة النص، وسعى المخرجون إلى تقديم تجارب انحازت في المطلق إلى لغة الجسد والموسيقى، وظل الصراع بين النص الأدبي والاشتغال الركحي حاضرًا بين اتجاهين، الأول اتجاه يذهب إلى تقديس النص، والثاني اتجاه ينحاز إلى الأداء؛ يرى الخشبة مختبرًا بصريًا وحركيًا، يعتمد على الجسد، والارتجال والتوليف بين الوسائط، لخلق معنى بصري لا لغوي.

لم تمت اللغة في مسرح ما بعد الدراما، بل تحوّلت من مركز للمعنى إلى إحدى طاقاته، بعدما انتقلت الدلالة إلى الجسد والصورة والفعل الحي. إن مستقبل المسرح العربي لن يُصنع بصراع بين النص والعرض، بل بوعي جمالي جديد يدرك أن اللغة -منطوقة كانت أم صامتة- تولد من داخل اللحظة المسرحية نفسها. وهكذا لا تموت اللغة، بل تعود بشكل آخر، أكثر حرية واتساعًا.

مقالات مشابهة

  • هوه دا الكلام | أحمد موسى: في 10 أيام يتحكم بالإعدام ضد المعتدي على أطفال مدرسة الإسكندرية
  • لا خوف على الوحدة الخوف على الانفصال
  • المسرح ما بعد الدراما.. موت اللغة أم ولادتها؟
  • بيت خالتك حكاية لا يعرفها إلا أبناء سوريا فما قصتها؟
  • زمن عجيب!
  • بين المكملات والواقع الصحي.. من يستفيد من الفيتامينات المتعددة؟
  • مؤلف ملكي يشرح أسباب محاولات “انتحار” الأميرة ديانا المتعددة والمفجعة
  • سجون بلا أبواب… ومفاتيح ضائعة