السياسة قوة.. قراءة في الحالة المصرية
تاريخ النشر: 5th, August 2025 GMT
حين أؤكد أننا بحاجة لاستعادة السياسة وأن هزيمتنا الأساسية كانت هزيمة سياسية، ولولا الهزيمة السياسية ما نجحت الثورة المضادة في افتتاح حقبة العنف واستباحة كل شيء.. حين أؤكد هذا وأكرره، يظهر من تعليق بعض الأصدقاء الكفر بالسياسة والإيمان بالقوة، وكأنهما نقيضان. وهذا، على الأرجح كما يبدو لي، نتيجة تشوه معنى "السياسة" في واقعنا حتى يتصورها البعض حديثا فارغا في الإعلام أو موقفا مستسلما للواقع، أو أنها خديعة النظام العالمي للمجتمعات الإسلامية، مع ترديد شعارات عاطفية فارغة المضمون مثل: كيف ننتصر بوسائل أنتجها لنا أعداؤنا؟
في دراسته الموسوعية "مصادر القوة الاجتماعية" (The Sources of Social Power)، يدرس مايكل مان مسألة القوة ومصادرها في المجتمعات عبر قرون طويلة، وما هي مصادر القوة المتاحة للأفراد والجماعات والسلطات باختلاف أنواعها التاريخية منذ القبيلة وحتى الدولة الحديثة مع بداية القرن الحادي والعشرين؟ ويخلص تحليله إلى مصادر أربعة: الأيديولوجيا، والسياسية، والاقتصاد، والقوة العسكرية.
هذه "مصادر مفتوحة"، أي أنها متاحة للجميع، وليست ملكا لأحد. وفي كل الأحوال والأزمان، لا تتجلى القوة كفكرة أو كمعنى مجرد، وإنما كواقع لوجيستي: موارد، وشبكات منظمة، وهياكل مؤسسية، وقدرة على التعبئة ونقل التأثير والفاعلية عبر المساحة الجغرافية. القوة هي التأثير على إرادة الآخرين وجعلهم يفعلون ما تريد، إما بالقسر المباشر، تحت تهديد السلاح مثلا، وهو أقصرها عمرا وأقلها استقرارا، أو بالإقناع، أو بهيكلة بيئة الفرد أو الجماعة وفق ما تريد فتكون تصرفاتهم "الحرة" هي نتيجة لما تريد أنت دون أن تطلب منهم، أي تتماهى إرادتهم الخاصة مع إرادتك أنت. وهذا النوع الأخير هو الأكثر ثباتا وديمومه وشمولا.
وبالعودة لتحليل مان، فإن القوة السياسية تتجلى في نوعين واسعين: المركزية، والجغرافيا السياسية. المركزية توفر القدرة على التعبئة وجمع الموارد وإنفاذ القرارات.. الخ، والجغرافيا السياسية تتعلق بالمعادلات الخارجية بما تشمله من شبكات الدعم والأعداء والتهديدات والحلفاء.
مشكلة بعضنا أنه يتصور السياسة كنقيض للقوة لأنه يقيّم السياسة بناء على واقع هزيمتنا، حاله مثلا كحال جيش مهزوم عسكريا فيقترح عليه أحدهم أن "القوة العسكرية" غير مجدية وخديعة الأعداء لتوريطنا وأن علينا خوض الحرب بالسياسة.
القوة العسكرية تفشل حين تكون موازين القوة غير متكافئة (مجمل ميزان القوة بما فيه التحالفات والواقع الجيوسياسي)، أو حين تدار بطريقة فاشلة كما حدث في عام 1967. وهكذا القوة السياسية، تفشل حين تدار بطريقة خاطئة، أو حين يكون مجمل ميزان القوة غير متكافئ.
فمثلا، قدرة الدولة على ممارسة العنف الواسع ضد المتظاهرين لم تُخترع في حزيران/ يونيو 2013، كانت موجودة دائما. لماذا كان استخدامها في كانون الثاني/ يناير 2011 متعذرا بينما كان ممكنا و"ناجحا" بعد 30 يونيو (2013)؟ بالتأكيد ليس السبب تغير ميزان القوى العسكري، وإنما السياسي: التأييد الشعبي، التحالفات السياسية، الموقف الخارجي، تعبئة الجهاز الحكومي بكافة فروعه، تأمين الموارد الاقتصادية اللازمة لهذا التحرك.. الخ.
لم يكن من الممكن قتل "الشعب"، لكن من الممكن قتل "الشعب الآخر". تطييف الإخوان وحلفائهم، أي تأطيرهم كطائفة ليست فقط معزولة عن المجتمع بل معادية له، كان ضروريا، ليس لسكوت الناس على قمعهم فحسب، ولكن بالأساس لضمان إقناع أفراد الجيش والشرطة، سواء المشاركين في القمع أو غيرهم وهم الشريحة الأوسع، بأننا لا نقتل الشعب بل نحميه. كان لا بد من "تثقيف" هؤلاء الضباط أولا في محاضرات وندوات، وأن يستمعوا لعلماء السياسة ومفكرين وعلماء دين لإقناعهم بأن هذا صحيح. كان من المهم أيضا عزل الإخوان عن باقي الطيف السياسي، لأنه من المستحيل إقناع أحد بأن السياسيين كلهم أعداء، لكن إذا بات غالبية السياسيين وشباب الثورة وحتى نصف الإسلاميين (نظريا) في الجهة المقابلة؛ يسهل إقناع الجميع ولو لبعض الوقت بأننا نحمي الشعب.
الخلاصة، أن التغير الحادث في ميزان القوة لم يكن زيادة عدد أفراد الشرطة، ولا إمداد الأجهزة الأمنية بأسلحة جديدة وفتاكة. دبابات الجيش وذخيرته القتالية التي قتلت الناس بعد 3 تموز/ يوليو، كانت موجودة في كافة ميادين مصر منذ 28 كانون الثاني/ يناير 2011. القرار الذي لم يصدر كان لحسابات سياسية، والقرار الذي صدر كان قرارا سياسيا.
السياسة التي يجب استعادتها هي السياسة التي تؤدي لاستعادة خلل ميزان القوة، ليس بين الإخوان والنظام، ولكن بين المجتمع والنظام. إذا تأملت سلوك الأنظمة المتعاقبة، ستجدها لا تكتفي بالتصدي لأي محاولة مجتمعية لحيازة قوة عسكرية، فهذا أصلا بديهي ومرتبط بماهية الدولة الحديثة ولن يتغير إذا صارت دولتنا عادلة وحرة وديمقراطية، لكن أنظمتنا المتعاقبة تستهدف بصورة ممنهجة مصادر قوة المجتمع السياسية المدنية. فهي تضعف الأحزاب باختراقها أو بتقييد عملها، وتسيطر على النقابات والنوادي أو تعطل عملها، وتسيطر على الحركات الصوفية، وتقيد العمل الطلابي، وتهيمن على مؤسسات المجتمع الخيري وتقيدها مهما كان عملها محدودا، تراقب الصحف والفضائيات وحتى حسابات السوشيال ميديا، تجرم التعاون مع مؤسسات دولية ولا تسمح بأي علاقات أو اتصالات مع حكومات خارجية مهما كان هذا طبيعيا. هذه الأمور هي التي تؤسس لقوة سياسية خارج فضاء أجهزة الدولة، وبالتالي تعادل توازن القوى بين المجتمع والسلطة الحاكمة.
التجربة الأهم في هذا الصدد، هي خبرة ثورة 1919، حيث تمثل حالة الوفد في تلك اللحظة التاريخية مثالا فريدا لبناء شبكة قوة سياسية فاعلة قادرة على تحدي الملك والاحتلال، ويعتبرها الراحل الكبير المستشار البشري لم تتكرر في تاريخ مصر. دراسة نجاحها مهمة، وأيضا من المهم دراسة أسباب وآليات فشلها وإفشالها سواء من داخلها أو باستهداف من خصومها (الملك وحلفائه والاحتلال البريطاني).
المطالبة باستعادة السياسة تعني امتلاك هذا اللون من القوة، تعني بناء مؤسسة عمل سياسية محترفة. وهنا لدينا كلمتان: مؤسسة، ومحترفة.
المأسسة هي ضرورة لازمة للقوة، والقاعدة تقول إن الفرد من الأغلبية سيخضع لإرادة الأقلية المنظمة. التنظيم يعني جمع الموارد، وتكامل القدرات، وتنفيذ المهام على التوازي، وبناء شبكات العلاقات التي توفر الحماية وتخلق الفرص، كما يعني الاستمرارية والتراكم.. الخ. الأفراد لا يحدثون تغييرا سياسيا.
أما الاحتراف، فليس المقصود به حصرا "المتخصصين"، أو دارسي العلوم السياسية، هؤلاء جزء فقط من الاحتراف، لكن الأهم هو الاحتراف بمعنى التفرغ. لا يمكن أن تحدث فارقا سياسيا دون بناء إداري واسع متفرغ لهذه المهمة. هذه أمور لا تنجح بفضول الأوقات، ومن المهزلة التي نواجهها في واقعنا السياسي أن مجموع المتفرغين في كافة القوى السياسية المصرية، قد يكون أقل من وحدة واحدة في جهاز أمني يحاربهم على مدار الساعة. وربما أقل من عدد العاملين في مؤسسة إعلامية تستهدفهم. السياسة أمر جاد يتطلب ماكينة عمل يومية تعمل على مدار الساعة، وإلا لن يكون ثمة عمل سياسي يتسم بالفاعلية والإنجاز.
طبعا هذا يدفعنا للتفكير في مصدر آخر من مصادر القوة لا ينفصل أبدا عن العمل السياسي، وهو القوة الاقتصادية. وليس مفاجئا أن الاستهداف الأمني يضع أولوية لاستهداف هذا الأمر.
المؤسسة السياسية المحترفة، التي تقود لبناء قوة سياسية حقيقة، لا تقوم إلا على العمل الاحترافي، فلديها أدوات إعلامية قادرة على مخاطبة الناس وتعبئتهم، ولديها تحالفات حقيقية داخل مكونات المجتمع وداخل الدولة نفسها، ولديها علاقات مع الأطراف الخارجية التي تؤثر على توازن القوى في المعادلة المحلية. لديها قدرة على جمع المعلومات وشراء الولاءات وتنمية الموارد التي تجعلها مستقلة بقدر كاف وقادرة على المواصلة، وقبل كل هذا وبعده، لديها رؤية وبرنامج وخطة. ليس مهما أن تقنع خطتها كافة الناس، ولكن المهم أن تقنع قاعدة اجتماعية مناسبة، وتتقاطع كليا أو جزئيا مع مصالح مجموعات منظمة أخرى كي تتحالف معها. وفي حالة مصر، أعتقد أنه من الضروري أن تتقاطع مع أطراف داخل الدولة نفسها وداخل قاعدتها الاجتماعية؛ لأن هذا ضروري في تغيير ميزان القوة بين السلطة وبين المجتمع.
الاستسلام لواقع أن السلطة محتكرة للدولة ومسيطرة عليها وتواجهنا بأدواتها وأجهزتها؛ سيضعنا دائما في مواجهة معقدة وغير متكافئة، وسيجعل محاولات التغيير دائما تصطدم بالدولة نفسها. هذا ما يريده النظام ولا يهمه أن يؤدي هذا لإضعاف الدولة أو حتى تفككها، وهذا لا يجب أن نريده ولا أن نسمح له به.
إذا كان شعار النظام أنا والطوفان من بعدي، وخياره هو خيار شمشون (وبشار الأسد)، فإن شعارنا يجب أن يكون "لعل الله يخرج من أصلابهم"، ليس بمعنى الهداية النبوية، ولكن بمعنى أن مصلحتنا البعيدة جميعا هي تخليص الدولة من هذا النظام، الذي سينتهي إن آجلا أو عاجلا. وحين ينتهي لن يهمه (إن كان في قبره أو في منفاه) إن كانت الدولة قائمة أم منهارة، قوية متماسكة أم لعبة في معادلات دولية وإقليمية. لكن هذا لا شك يهم الباقين على هذه الأرض الذين لن يرحلوا، وهم نحن: الناس العاديون سواء المؤمنين بالسياسة أو الكافرين بها.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء السياسة المجتمعات مصر الأحزاب تغيير مصر مجتمع سياسة أحزاب تغيير قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القوة العسکریة میزان القوة
إقرأ أيضاً:
دعوى غلق تيك توك في مصر بهذا الموعد
قررت محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة، تحديد جلسة 9 سبتمبر المقبل لنظر دعوى غلق تيك توك، المقامة من محام.
وجاء موضوع الدعوى عن حجب منصة تيك توك أو وضع ضوابط قانونية ومعاییر وسیاسات أخلاقية تتفق مع قيم وعادات وتقاليد المجتمع.
وقال مقدم الدعوى، إنه لا زال العالم أجمع وعلى رأسه مصر يعاني من انتهاكات المحتوى على عدد من مواقع التواصل الاجتماعي، وبالأخص على موقع تيك توك، والذي يروج لمقاطع تنتهك المحتوى مثل نشر العُري والإباحية والبلطجة والعنف والتنمر في المجتمع، ويسعى جاهدا إلى نشر الفجور والتدني والفضائح، رغم أن الهدف منه في بداية الأمر كان لنفع الناس والاستفادة مما ينشر.
وتابع أن هذا يؤثر بشكل سلبي على المجتمع خاصة الأطفال والشباب، وكثير من الفتيات لجأن لتصوير فيديوهات لهن تحرض على الفسق لتحقيق أكبر نسبة انتشار وشهرة على منصات السوشيال ميديا، ولا يفوتنا أن نذكر قضية فتيات تيك توك الشهيرة التي عرضت بعضهن للحبس والغرامة في مقتبل أعمارهن.