د. محمد بشاري يكتب: الفتوى والعقل في عصر الرقمنة
تاريخ النشر: 10th, August 2025 GMT
في لحظة حضارية مشتبكة بين طغيان التقنية وارتباك الخطاب، جاءت مبادرة دار الإفتاء المصرية لتنظيم المؤتمر الدولي العاشر للامانة العامة لدور و هيئات الافتاء في العالم بمثابة إعلان معرفي رصين عن انخراط المؤسسة الدينية الرسمية في واحد من أعمق النقاشات الإنسانية: سؤال الفتوى في زمن الذكاء الاصطناعي.
فالذي يُطل على واقع الإفتاء من أعالي التحولات الرقمية، يدرك حجم التحدي: كيف نُبقي على روح الاجتهاد حيّة، وسط تقنيات تَعد بالاستغناء عن الإنسان ذاته؟ وكيف نحافظ على جوهر الفتوى، لا كمنتَج يُصدر، بل كحُكم يتخلق في رحم العقل الشرعي الرشيد، في زمن تُستبدل فيه السلطة المعرفية بمنصات وتطبيقات وخوارزميات؟
في هذا السياق، لم يكن انعقاد المؤتمر العاشر محض تكرار سنوي لفعالية مؤسسية، بل يمكن اعتباره لحظة انبثاق واعٍ لمفهوم جديد في التفكير الديني، تسعى فيه دار الإفتاء إلى إعادة تشكيل صورة المفتي لا بوصفه ناقلًا للحكم، بل بانيًا لقراره داخل بنية مركبة من المقاصد، والسياقات، وحكمة التنزيل.
وفي قلب هذا الطموح، تبرز شخصية فضيلة المفتي الأستاذ الدكتور نظير محمد عياد، لا بوصفه موظفًا على رأس مؤسسة فقهية كبرى، بل كعقل فقهي متمرّس يُدرك بوعي رفيع أن الاجتهاد المعاصر لا يمكن أن يبقى أسيرَ معجمٍ قديم، ولا أن يتخلى عن أخلاقياته أمام خوارزميات الحداثة السائلة. فالرجل – في خطاباته العلمية ومداخلاته الرفيعة – يُعيد الاعتبار لفكرة “العقل الإفتائي”، لا كتمرين بلاغي، بل كوظيفة حضارية تحرّر المفتي من أسر الحرفية وتضعه في مدارات الفهم الكلي، المتصل بمقاصد الشريعة، لا المفصول عنها بجمود اللفظ أو فوضى الذوق. ومن يمعن النظر في طريقة بناءه لمفهوم “المفتي الرشيد”، يدرك أنه لا يسعى لتدريب المفتي على التقنية كمهارة، بل لتجذيره في وعي توازنيّ يميّز بين ما تُنتجه الآلة من أجوبة صورية، وبين ما تستوجبه الفتوى من استبطان مقاصدي للواقع وتقدير سديد للحُكم بمناطه الكامل.
كان بإمكان دار الإفتاء أن تظل واقفة على تخوم النقاش، مترددة بين الإدانة أو الترقب، لكنها قررت أن تُعلن انخراطها في عمق التحول، ولكن لا بصفتها تابعا مبهورًا، بل مرشدًا متبصّرًا. إنها ليست تُنتج فتوى رقمية، بل تُهذّب العقل الذي يصوغها، ولا تهدف إلى “رقمنة” المفتي، بل إلى عقلنة الفتوى في زمن الرقمنة. وهذا فارق جوهري.
ولعل هذا ما يجعل من هذه المبادرة نموذجًا لما يمكن تسميته بـ”فقه التدبير المعرفي”، حيث لا يُكتفى بالمحافظة على تراث الفتوى، بل يُعاد بناؤه من داخل الأسئلة التي يفرضها العصر. فالتحول الرقمي، في قراءة هذا المؤتمر، لا يُراد له أن يبتلع المجال الديني، بل أن يُستوعَب داخل مشروع إصلاحي أشمل يُعيد للفتوى بُعدها التأصيلي لا التنميطي، ويُعلي من دور المفتي لا كخازن للأقوال، بل كمُهندس للمآلات. وهنا تتجلّى عبقرية المؤتمر، لا في محاورة التقنية بوصفها خطرًا، بل في التعامل معها بوصفها حافزًا لتجديد منطق الإفتاء نفسه، ومساءلة بنيته ومفاهيمه وأدواته.
من هنا، فإن السؤال الذي طرحه المؤتمر لم يكن سؤالًا تقنيًا، بل سؤالًا أنطولوجيًا: ما معنى أن تُفتي في زمن تتقاطع فيه حدود الإنسان مع الذكاء الاصطناعي؟ وهل ما زال للمفتي أن يُنصت لنداء التكليف الأخلاقي، في زمن تتكاثر فيه المنصات وتتشظى فيه الأجوبة؟ بهذا المعنى، لا يُعد المؤتمر مجرد مناسبة معرفية، بل هو إعلان ميلاد جديد لنموذج المفتي الذي لا يتهيب العصر، بل يشتبك معه، حاملًا في قلبه أدوات التمييز، وموازين المقاصد، وضمير الفتوى الحي.
إنها مصر، إذًا، التي أرادت أن تقول للعالم الإسلامي: لسنا متفرجين على الثورة الرقمية، بل فاعلون فيها، نصوغ فيها صورة المفتي لا كظل لماضيه، ولا كصوت لتقنيته، بل كمَلَكَة عقلانية تربط الحكم بمناطه، والواقع بمقاصده، والفتوى بمستقبلها. وهل هذا إلا جوهر الفقه حين يكون وعيًا لا تكرارًا، وقيادة لا استتباعًا؟
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: دار الإفتاء المصرية نظير محمد عياد دار الإفتاء دار الإفتاء فی زمن
إقرأ أيضاً:
ماحكم وضع الفتاة صورها على مواقع التواصل الاجتماعي؟.. أمين الفتوى يجيب
ما حكم وضع المرأة صورًا لها على مواقع التواصل الاجتماعي؟.. سؤال ورد للشيخ محمد وسام، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية.
وأوضح وسام في فتوى له: تضع لها صورًا أو لا تضع الاهم ما يجوز لها أن تكشف وجهها وكفيها وقدميها مع التزمها ان تكون ثيابها لا تشف ولا تصف ولا تكشف.
وقالت دار الإفتاء إن نشر صور المرأة على "فيسبوك" منافٍ للستر، الذى أمرت به المرأة فى الكتاب والسنة.
جاء ذلك ردًا على رسالة شابة إلى دار الإفتاء، لم تتجاوز العشرين من عمرها ترتدى الحجاب الشرعى ذكرت فيها: أتعامل كثيرًا مع المواقع الاجتماعية مثل "فيسبوك" ولى كثير من الصديقات ينشرن صورهن، وصور أسرهن على "فيسبوك" معتقدات أن وضع صور لهن بالحجاب مسألة غير ممنوعة شرعا فهل هذا صحيح.
واستدلت في ذلك إلى قوله تعالى: "يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين".. فقد أمر الله النساء عامة بالحجاب رفعة لهن عن مواطن الفتنة والتهمة فإذا علم ذلك اتضح أن وضع المرأة صورتها ويراها البر والفاجر فى مثل هذه المواقع مما ينافى ويعارض شرع الله تعالى.
وأوضحت الإفتاء أن ذلك باب فتنة وشر للمرأة ولمن يشاهد فكم سمعنا عن قصص مؤلمة بسبب ذلك فكم من فاجر يتلاعب بتلك الصور، ويدبلجها بوسائل حديثة، فحينئذ تعض أصابع الندم بما جنت على نفسها وأهلها.