باريس غرب أفريقيا، "لؤلؤة البحيرة" أو بكل بساطة "بابي"، ألقاب عرفت بها أكبر مدينة في غرب أفريقيا والعاصمة الأشهر لكوت ديفوار، أبيدجان.
والمفارقة أن أبيدجان، التي تبدو مقطعة الأوصال بالماء هي في الواقع موحدة بفضله، فبحيرة إيبريي، السمة المميّزة لجغرافيتها، تتعرج عبر المدينة كشريان حيويّ لا غنى عنه لسكان هذه المدينة الذين يزيد عددهم اليوم على 5 ملايين نسمة.
ولا تكاد تعبر من منطقة إلى أخرى دون أن تعترضك إيبريي، كيف لا وطولها يزيد على 130 كيلومترا بعرض لا يتجاوز 7 أمتار وبعمق قد يصل 20 مترا، مما يعني أن عبورها يستعصي إلا عبر الجسور التي تعلوها أو القوارب والسفن التي تمخر عبابها.
وقصة أبيدجان تتماهى مع قصة بحيرتها، إذ اهتمت بها الإدارة الاستعمارية الفرنسية بعدما أدركت القيمة الإستراتيجية المميزة لهذه البحيرة، لتقرر في عام 1934 جعل هذه المدينة العاصمة الثالثة لكوت ديفوار الفرنسية بعد غران بسام وبينجرفيل.
والواقع أن المستعمر الفرنسي لم ير في أبيدجان في البداية سوى "أرض لا فائدة منها"، لكن قصته الحقيقية معها بدأت في أوائل القرن العشرين عندما كان يسعى لتأسيس مدينة ساحلية جديدة للتوسع الاقتصادي تشق الأدغال والمستنقعات.
ومثّل بناء قناة فريدي عام 1950 نقطة تحول، حيث ربطت فرنسا بحيرة إيبريي بالمحيط الأطلسي وأنشأت ميناءً رئيسيا، ليعزز هذا المشروع مكانة المدينة الفتية ويحولها إلى مركز اقتصادي رئيسي في المنطقة.
وقد حفز هذا القرار تدفق أعداد كبيرة من الناس من جميع أنحاء كوت ديفوار والدول المجاورة إلى أبيدجان، مما أحدث تحولًا ديمغرافيا في المدينة ليجد شعب إيبريي أن سلسلة قرى الصيد الصغيرة التي كان يسكنها غدت شيئا من الماضي وتحولت من بؤرة استيطانية راكدة إلى مدينة ساحلية مزدهرة.
وعندما نالت كوت ديفوار استقلالها عام 1960، أصبحت أبيدجان القلب النابض لأمة شابة متفائلة، ورمزًا للحداثة الأفريقية، بل إن تطورها العمراني وشوارعها الواسعة ومبانيها الحكومية الأنيقة وأبراجها الزجاجية كل ذلك جعلها تستحق، لدى الكثيرين، لقب "باريس غرب أفريقيا".
إعلانتُصوّر أبيدجان نفسها كمدينة مستقبلية، "بإمكانات هائلة، لا سيما في قطاعي السياحة والثقافة، مدعومة بإرادة سياسية قوية". ويتمثل طموحها المعلن بوضوح في "تحويل عاصمتنا الاقتصادية إلى نموذج للتنمية المستدامة"، كما جاء في كلمة رئيس الوزراء الإيفواري روبرت بوغريه مامبي في منتدى الاستثمار في مقاطعة أبيدجان، المنعقد يومي 12 و13 أغسطس/آب 2025.
وفقًا للتقاليد الشفوية الإبريية المذكورة في القاموس الموسوعي لكوت ديفوار، فإن اسم أبيدجان ناتج عن سوء فهم، إذ تقول الأسطورة إن رجلاً عجوزا كان عائدًا من حقله وهو يحمل حزمة من الأغصان كان ربما ينوي إصلاح سقف كوخه.
وفي الطريق التقى مستكشفا أوروبيا، يبدو حائرا، سأله عن اسم أقرب قرية، اعتقد العجوز، الذي لا يتحدث لغة الرجل الأبيض، أنه كان يسأله عما كان يفعله هناك، ففر منه وهو يصرخ "مين تشان مبيدجان!"، التي تعني بلغة الإبريية "أنا عائد من قطع الأوراق"، ظن الرجل الأبيض أنه ذكر له اسم المكان فالتقط لفظ: "أبيدجان".
وتشير نسخة أخرى إلى أن الاسم قد يكون مرتبطًا بشعب بيدجان، السكان الأصليين للمنطقة، حيث يعني الحرف "أ" في مقدمة الكلمة "بلد"، ومن ثم يكون معنى أبيدجان "بلد البيجان".
لكن المؤرخة الإيفوارية هانرييت دياباتي ترى أن "آبي" تعني في اللغة الإبريية "ورقة"، و"نجان" معناه "التي أقصّها".
أبيدجان وإن قبلت بوضعها الجديد، إلا أنها ما زالت تجسد المثل الإيفواري الشائع "أفضل الصلصات هي تلك التي تحضر في القدر القديم".
وأيا كان مصدر الكلمة أبيدجان فإن هذه البقعة من الأرض لم تكف عن إشغال الكثيرين بأمرها منذ تأسيسها إلى أن أصبحت بعد ذلك عاصمة لكوت ديفوار، وحتى بعد أن سلبتها ضرتها ياموسوكرو ذلك العنوان لا تزال أبيدجان القلب النابض لكوت ديفوار بل وكل بلدان غرب أفريقيا.
صحيح أن ياموسوكرو هي العاصمة السياسية لهذا البلد منذ 1983، غير أن أبيدجان ما زالت تنفرد بكل مقومات العواصم اقتصاديا وجغرافيا وسكانيا.
فالمدينة وإن قبلت بوضعها الجديد، إلا أنها ما زالت تجسد المثل الإيفواري الشائع "أفضل الصلصات هي تلك التي تحضر في القدر القديم".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات التقارير الإخبارية غرب أفریقیا لکوت دیفوار
إقرأ أيضاً:
عاطف حسن يوسف يكتب: كهرباء شمال الجزيرة – ما بعد الصبر
كهرباء شمال الجزيرة – ما بعد الصبر
كتب: عاطف حسن يوسف
إلى المسؤولين عن كهرباء شمال الجزيرة.. وإلى كل من يملك قراراً أو تأثيراً في إعادة الخدمة
تااااااني رجعنا ليكم !!!
قبل أشهر.. كتبنا إليكم بلسان هادئ ونبرة عتاب مهذّب.. نقدّر فيها جهود العاملين في الميدان.. ونلتمس العذر بحكم الظروف القاسية التي فرضتها الحرب.. كنا نعتقد أن مخاطبة المسؤولين بلطف.. وبإشارات الاحترام المتبادل.. قد تدفعهم إلى المبادرة السريعة والعمل الجاد.
لكن ها نحن اليوم.. وبعد مرور ما يقارب العام على انقطاع الكهرباء عن قرى ومدن بأكملها في شمال الجزيرة.. نرى أن ذلك الخطاب الهادئ لم يجد نفعاً .. وأن صبر الناس بلغ منتهاه.. وما يزيد الألم أن مناطق كثيرة في السودان كانت تعاني نفس المعاناة أو أشد.. وقد عاد إليها التيار.. بينما ما زالت الجزيرة.. بقراها وأريافها.. غارقة في العتمة وكأنها خارج حساباتكم.
وإذا كان انقطاع الكهرباء في أي وقت يشكل معاناة.. فإن غيابها في ظل الخريف.. مع هطول الأمطار الغزيرة وتحول الطرق إلى أوحال.. يضاعف الأضرار المباشرة: توقف طلمبات المياه.. تعطل الثلاجات والمخازن عن حفظ الغذاء.. شلل الورش والمشاغل الإنتاجية.. وتزايد مشاكل الصرف الصحي بسبب توقف المضخات.. أما الطلاب.. فقد صاروا يذاكرون على ضوء المصابيح التقليدية.. في ظروف تزيد من إرهاقهم وتؤثر على تحصيلهم.
نقولها بوضوح.. لا نقبل أن تُظلم الجزيرة أو يُهضم حق أهلها.. الكهرباء ليست رفاهية.. بل حق أساسي.. وأي تأخير غير مبرَّر هو إخلال بالمسؤولية.
نطالب الهيئة العامة للكهرباء بموقف واضح أمام الرأي العام.. أين خطة إعادة الخدمة؟
ما الجدول الزمني المعلن؟
وما هي العقبات الحقيقية التي تحول دون التنفيذ؟
إن الصمت لم يعد مقبولاً.. كما أن العمل في الخفاء دون إعلام المواطنين ليس إلا تجاهلاً لمعاناتهم.
إننا ندرك حجم الخراب الذي أحدثته الحرب.. ونعلم أن التحديات جسيمة.. لكننا ندرك أيضاً أن الإرادة الصادقة والتخطيط المنضبط قادران على تجاوز هذه التحديات.. نحن لا نطلب المستحيل.. بل ما تحقق فعلاً في ولايات أخرى.
المطلوب الآن:
إعلان خطة زمنية واضحة لإعادة التيار.. مع تحديد المراحل لكل منطقة.
توفير فرق ميدانية عاجلة لصيانة الأعمدة والمحولات التالفة قبل تفاقم الأوضاع مع استمرار الأمطار.
نشر تقارير دورية عبر الإعلام ووسائل التواصل.. لإطلاع المواطنين على التقدم الفعلي.
ولتعلموا أن ما تبقى من رصيد الصبر يوشك على النفاد.. وأن أصوات الناس ستعلو أكثر فأكثر إذا استمر الإهمال.. هذه ليست رسالة عتاب كما كانت بالأمس.. بل إنذار صريح بأن حقوق الناس لا تُترك للمزاج أو التأجيل.
الجزيرة ليست أقل شأناً من غيرها.. وأهلها ليسوا مواطنين من درجة ثانية.. فإن كانت الكهرباء قد عادت لمناطق أخرى.. فلِمَ لا تعود إلى هنا؟ هذا سؤال الشعب.. وإجابتكم عليه لن تُقاس بالكلمات.. بل بالأفعال.
إلى كل الأصدقاء والمهتمين.. تفاعلكم ومشاركتكم لهذا المنشور هي الوسيلة لرفع الصوت حتى يصل.. فلنجعل صوت الجزيرة مسموعاً في كل مكان .. لذلك شيرو البوست على أوسع نطاق.
#كهرباء_شمال_الجزيرة
Atif Hassan Yousif
عاطف حسن يوسفكهرباء شمال الجزيرة