وراء كل تأخير ستر.. خطيب المسجد النبوي: ربَّ حرمانٍ فيه نجاة والرضا سرّ السعادة
تاريخ النشر: 29th, August 2025 GMT
أكد خطيب المسجد النبوي، الشيخ الدكتور عبدالباري بن عواض الثبيتي، أن ما أعطاه الله للعبد فهو خير، وإن بدا في قليلًا، وما منعه إياه ففيه رحمة، وإن ظنه حرمانًا، وقد يكون في التأخير سترٌ، وفي المنع لطفٌ، وفي الفَقدِ نجاةٌ فليكن المؤمن عبدًا للرضا، لا أسيرًا للمقارنة، والزلل أن يجعل النعمة سلمًا لاحتقار الآخرين، أو ميزانًا للتفوّق المُطلق، ورُبّ من استصغر شأنه يكون عند الله أرفع منه بدرجات.
وحذر خلال خطبة الجمعة من المسجد النبوي اليوم، من التفاخر والتكبّر، والاستعلاء على الناس، أو السخرية منهم وازدرائهم، أو التكبّر عليهم بالقول أو الفعل، لأن ذلك اعتراض على أقدار الله، ورزقه، ويورد المرء لإفساد علاقاته بمجتمعه، ويوقعه في مسالك الشيطان.
«أنا أفضلُ منه»
وأضاف، أن عبارة "أنا أفضلُ منه" تولدُ من وَهم المقارنات، حين يرى المرء نفسه الأجدر بالفضل، والأحقّ بالمكانة، والأَولى بالرِّفعة، لأنه يظنُ أنه يملكُ من المؤهلات والقدرات، ما لا يملكه غيره ثم يزدري ما أصاب غيره من رزقٍ أو منصبٍ، ويقول جهرًا أو في نفسه: أنا أولى منه، أنا أعلمُ، أنا أذكى، أنا أحقّ بالمكان، وهذا الشعور في حقيقته اعتراض خفيٌّ على عدل الله، وتشكيك في حكمته، كأن صاحبه -والعياذ بالله- يستدركُ على خالقه في تقسيم الأرزاق والمناصب والوجاهة.
وأوضح أن من استسلم لدوامة المقارنات، وقع في الشِركِ الخفيّ، وسار على الطريق الذي هلك فيه أولُ عاصٍ، مضيفًا أن هذه الكلمة لا تتوقف عند حدود اللسان، بل تتكرر بأشكال شتى في حياة الناس، قد لا تُقال صراحة لكنها تُفهم من نظرة متعالية، أو ضحكة ساخرة، أو نبرة مستعلية، أو سكوتٌ يقطُرُ احتقارًا، أو حتى من عبارة عابرة، تُخفي في طياتها ازدراءً مبطنًا، يقولها المُدير حين يزدري موظفيه، ويقولها الغنيّ حين يشعرُ الفقير بالدونية، ويقولها المتديّن حين يحتقر العاصي، ويقولها من يفاخر بعقله أو نسبه أو علمه.
حكم الاحتفال بالمولد النبوي .. دار الإفتاء: جائز شرعاً
حكم من أدرك الإمام في الركعة الأخيرة من صلاة الجمعة.. الموقف الشرعي
وتابع أن ادعاء المرء بالأفضلية أو التعالي على الآخرين، قد تقال باسم الدين، حين يظنّ المرء أن الحقَّ حصرٌ فيه، وقد يخفيها بعض الناس تحت ستار النصح أو الدعوة أو الجِدال، لكنها في جوهرها كبيرٌ صريحٌ، فمن أطلقها وهو يزكّي نفسه، ويرى أنه أرفع من الناس قدرًا أو منزلة، يقترنُ قولهُ بكبيرٍ في القلب، وبطرٌ للحق، وازدراءٌ للخلقِ، فقد سلك طريق إبليس، وإن تغيرت الألفاظ وتبدّلت الصور.
وذكر إمام وخطيب المسجد النبوي أن الله تعالى عليم بما يصلُح به حال عباده، محذرًا من الاعتراض على الخالق العظيم الذي خلق وقدّر، ورفع وخفض، وأعزّ وأقلّ، وهو العليم بما يُصلِح عباده، الحكيم فيما قضى وقدر، وحكمته فوق ما تدركه العقول المحدودة، وألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
وأوضح أن الشريعة لم تكتف بالتحذير من الكبير، بل وضعت لنا النموذج الأعلى في يوسف -عليه السلام- فقد كان صاحب علمٍ وخلقٍ ومكانةٍ، ومع ذلك لما وقف أمام عزيز مصر، لم يقل: "أنا أفضل من فلان"، ولم يسعَ إلى التفوّق بإسقاط غيره، وإنما قال بلسان الواثق مسؤوليته: "اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ»، قالها بثقة المتواضع لا بغرور المتعالي، فلم يصغّر يوسفُ أحداً ليعلو، ولم يجعل نفسه مقياسًا لنجاح غيره، فقدم نفسه خادمًا أمينًا لا متفاخرًا، وشتان بين من يعرُض كفاءته نفعًا للأمة والوطن، فيؤجر، وبين من يُنقصُ غيره ليُظهر نفسهُ الأعلى، فيهلُك ويسقُط.
التكبّر والتعالي
ونبّه من سلوك وصفة التكبّر والتعالي، مبينًا أن الكِبر إذا استقر في القلوب فسدت المجتمعات، وتعطّلت مسيرة البناء، وضعُف التعاون، وتفكّكت الروابط، حتى تهدم جسور الاحترام، وتوقد نيران الحسد والبغضاء والانتقام، ولهذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخلُ الجنة من كان في قلبهِ مِثقال ذرة من كبر"، ثم فسّره بقوله: "بطرُ الحقّ وغَمط الناس"، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "من تواضع لله رفعه الله درجة، حتى يجعله في أعلى عليين، ومن تكبر، وضعه الله، حتى يجعله في أسفل سافلين".
ودعا إلى أن يتذكّر العبد كلما همّت نفسه بالتفاخر، أن النعم لا تدوم، وأن ما يملكهُ اليوم قد يُسلب غدًا، وأن يُخفض جناحه تواضعًا، وإن رأى غيره قد فُضّل عليه في رزقٍ أو مالٍ، فليقل: اللهم بارك له، وارضني بما قسمت لي، وأن يجعل لسانه رطبًا بالدعاء لنفسه ولغيره لأن في ذلك تزكية للقلب وصلاح للحال.
وختم الشيخ عبدالباري الثبيتي الخطبة داعيًا المولى جل وعلا أن يرحم إخواننا المستضعفين المظلومين في فلسطين، وأن يكون لهم عونًا ونصيرًا، وسندًا وظهيرًا، وأن يُبدّل خوفهم أمنًا، وأن يرحم موتاهم، ويشفِ مرضاهم، ويلبسهم العافية والسكينة، ويلطُف بهم، وينُصُرهم على المعتدين الظالمين.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: خطيب المسجد النبوي الرضا الستر خطبة الجمعة مولد النبي المولد النبوي خطبة الجمعة من المسجد النبوي خطبة الجمعة المسجد النبوی خطبة الجمعة
إقرأ أيضاً:
خطيب الأوقاف: من أعظم نعم الله على الإنسان أن خلق له الوقت والزمن
ألقى خطبة الجمعة اليوم بالجامع الأزهر الدكتور عبدالفتاح العوارى، العميد الأسبق لكلية أصول الدين بالقاهرة وعضو مجمع البحوث الإسلامية، والتى دار موضوعها حول قيمة الوقت في الإسلام.
نعم الله لا تعد ولا تحصىقال الدكتور عبد الفتاح العواري، إن نعم الله تبارك وتعالى على الإنسان لا تعد ولا تحصى يقول تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وأول هذه النعم التي أنهم الله تعالى على الإنسان أن أوجده من العدم وسواه وأحسن خلقه، وركبه في أحسن صورة، فجعل له السمع والبصر والفؤاد، وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً، فأصبح إنساناً مكرماً أتت من أجله الشرائع، وأرسل الله بها الرسل حتى لا يترك الإنسان في الحياة هملاً، ولا يدعه سدىً، فالإنسان مكرم وهو غالي على خالقه ومولاه، ومن هنا اعتنى به خلقاً وتنشئةً وتربيةً.
وأوضح أن الله تبارك وتعالى سخر للإنسان الكون كله، وأسبغ عليه نِعمهُ ظاهرة وباطنه، فالإنسان مركز دائرة الكون؛ الكل في خدمته يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾. هكذا قال المولى عزَّ وجلَّ، ونطق به كتابه، لكن وعينا وإدراكنا قد أصيب بالشلل فتعطلت وظائفه، فلم يدرك هذا الإنسان المكرم فضل الله عليه، ونعمه التي حباه بها، فكان لابد من تنبيهه وإيقاظه من غفلته، فتتلى عليه آياته التنزيلية لتلفت نظره إلى آيات الله الكونية، لعله يفوق من غفلته ويتوب ويعود إلى رشده.
نعمة الوقت والزمنوأضاف خطيب الجامع الأزهر، أن من أعظم نعم الله على الإنسان أن خلق له الوقت والزمن، وأوجد له الزمن ليرقب ما هو مطلوب منه في أمور معاشه، وتحقيق مصالحه وما تحتاجه حياته في دنياه، كما أوجد له الزمن فربط به جميع تكاليفه التي هو مطالب بها يؤديها ويقوم بها، فجميع التكاليف من صلاة وزكاة وصوم وحج، كل هذه العبادات إنما هي مرتبطة بزمن، وتقع من الإنسان في زمن فلا يمكنه أن يخرج شيء منها دون ارتباط بزمن ووقت.
دعاء يوم الجمعة للرزق.. اغتنمه وردده الآن يصب الله عليك الخير صبا
هل يستجاب الدعاء وقت نزول الأمطار؟.. الإفتاء تجيب
وواصل: يقول تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾، أي يخلف بعضهم بعضاً. يأتي النهار فيخلفه الليل، ويأتي الليل فيخلفه النهار. ذلك لمن أراد أن يتذكر ويتأمل ويتدبر في دلائل قدرة من أوجده من العدم، وفي عظمة قدرة من يقول للشيء كن فيكون. يتنبه الإنسان فيعرف نعم ربه عليه بالزمن فيشكره ويثني عليه بما هو أهله، فهو صاحب النعم وصاحب الفضل على الإنسان، يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾. محى الله آية الليل بالظلام وعدم الوضوح، ليسكن الإنسان ويستريح. وجعل آية النهار مبصرة ليسعى فيها الإنسان ويحقق معاشه، ويؤدي واجباته التي كُلِفَ بها. فإذا لم يؤديها، فليس له حق.
وأوضح خطيب الجامع الأزهر أن الله أوجد للإنسان نعمة النهار مبصرة منتشرة الضياء تطلع شمسها فيسعى الناس في جنبات الأرض محصلين أمر معاشهم قائمين بمصالحهم ليس سوى لحكمة وهي أن يبتغي الإنسان الفضل من ربه في كل ما يحقق له مصالح الدنيا، فهو ليس قاصر على شيء دون شيء. ومن هنا أتى التعبير نكرة ليعم الجميع، وكذلك ليعلم الإنسان عدد السنين والحساب.
دعاء يوم الجمعة للرزق.. اغتنمه وردده الآن يصب الله عليك الخير صبا
هل يستجاب الدعاء وقت نزول الأمطار؟.. الإفتاء تجيب
وأكد خطيب الجامع الأزهر أهمية أن يحاسب الإنسان نفسه ويسألها ماذا قدمت؟ وما الذي حققته؟ حينما تعود إلى رب كريم يُوقفها للحساب، أقسم المولى عز وجل بالزمن ليلاً ونهاراً، ضحاً وعصراً، حتى يعلم الإنسان قيمته، المتأمل في كتاب الله يرى القسم، والله لا يقسم إلا بعظيم. فهل وعى الإنسان ذلك وهو يقرأ كتاب الله الذي أنزله من أجله، وجعل نبياً من أنبيائه يبلغه آياته؟ ماذا فعل في هذا الزمن؟ ماذا لو ترك الله الإنسان بلا تعاقب في الزمن فيعيش هكذا؟ لو جعل الله الزمن متساوق غير متفاوت، ماذا كان يصنع الإنسان؟ يقول تعالى مخاطباً عباده: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾. من غير الله يأتينا بضياء! هلا سمعنا ووعينا، ومن غيره يأتينا بليل نسكن فيه.
ودعا الدكتور العواري أولي الأبصار إلى التدبر والتأمل في نعمة الوقت ونعمة الزمن. فهو عمر الإنسان وسيُسأل عنه يوم القيامة. يقول النبي ﷺ: (لا تَزولُ قَدَمَا عَبْدٍ يومَ القيامةِ، حتَّى يُسأَلَ عن عُمُرِه؛ فيمَ أفناه؟ وعن عِلْمِه؛ فيم فعَلَ فيه؟ وعن مالِه؛ من أين اكتسَبَه؟ وفيم أنفَقَه؟ وعن جِسمِه؛ فيمَ أبلاه؟)، ويقول أيضاً: (نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ منَ النَّاسِ الصِّحَّةُ والفراغُ)، الغبن معناه الغفلة وعدم الوعي. الإنسان في تيه غير مستيقظ، والنعمة محيطة به.
وشدد على أننا في حاجة ماسة إلى أن نستيقظ من غفلتنا، فقد فات الكثير من العمر وما بقي إلا القليل. علينا أن نحدث مع الله توبة، وإليه أوبة ورجوع، حتى يتقبل منا ما تبقى من زماننا ووقتنا، ونعود إليه وهو راض عنا. فنعمة الزمن ونعمة الوقت حينما يراجع الإنسان نفسه يوقن يقيناً تاماً أنه قد فرط في هذه النعمة وأهدرها وضيعها، ومضى من عمره الكثير في اللهو واللعب، دون إدراك منه أن الزمن هو عمره، وأن الوقت هو حياته. يقول تقي الدين الحسن البصري رضي الله عنه: "اعلم أن الوقت عمرك، فإن ضاع يوم ضاع بعضك". فابن العشر سنين غداً لا يمكن أن يكون ابن عشر، وابن الثلاثين لا يمكن أن يكون غداً ابن الثلاثين. موصياً الجميع بضرورة أن يعاهدوا ربهم، وأن ينتبهوا إلى ما تبقى من عمرهم، وألا يضيعوا زمنهم سدى، فالله سوف يسألنا جميعاً ويحاسبنا على نعمة الزمن.