أما وقد وضعت الحرْبُ قسطًا من أوزارِهَا، وبانت أشلاؤها وخفاياها، وراح النَّاس المكلومون يُجمِّعون بقايَا أُناسهم المتحلِّلين تحت الرّكام، ويدفنون شهداءهم، ويبحثون عن أطلال دورهم، واجتمع علية القوم في البِقَاع السّالمة يُؤثّثون سلاما طال انتظاره، ويجتهدون ليلاً ونهارًا؛ لتحقيق الحلم الأمريكي بشرقٍ أوْسَط هانئ سالم غانم، تحيا فيه إسرائيل بأمن، وتهنأ فيه بخيْراته دون إزعاج أو ضررٍ، فآن لي أن أقف متفكّرًا متأمِّلا في مفهوم السّلام، وفي براءة مناصريه وطالبيه، وحاصدي جوائزه من دماء الأطفال التي تقضّ مضجعي دون أن يكون لي سهم في إراقتها، فما بالك بمَن امتصّ رحيقها، ودعا إلى مزيد إراقتها؟ طيلة سنتين من فعلِ الإبادة التي غذّاها العالم المتمدِّنُ المتحضِّرُ، وأراق فيها من دماء الإنسانيّة ما شكَّل صدمةً إنسانيّة، والعقل الأدبيّ مُعطَّلٌ فاغرٌ فاه، لا يُدرِكُ، لا يفهم، لا يستوعبُ تحوّلُ الإنسانيّة النّهم إلى التدمير.
ولا يفهم هذا العقل الأدبيّ الذي تغذّى على الجمال وعلى روح الإنسانيّة عقلاً آخر يُفكّر بالتجارة، وبمنطق الرّبح، وببرمجيّات الكسب غير المشروع، لم يفهم العقل الأدبيّ كيف يتحوَّل القتلة بضغطة زرّ إلى دُعاة سلام، وكيف تحوّل أباطرة العالم المتقدّم إلى بُناة بعد أن غذّوا التدمير! لا يفهم العقل الأدبي جائزةً للسّلام تُمنَح لمن تسوّدت أياديهم بتدمير الإنسانيّة، لا يفهم كيف يُمكن لدُعاة السَّلام أن يمنحوا تأشيرةً كونيَّة للسّلام لمناحيم بيغن (1978) وهو قائد عصابة «إرغون» الصهيونيّة التي ثبّتت في التاريخ مجزرة دير ياسين، وقتّلت الأطفال، والنّساء، والعُجّز العُزَّل من أدوات المقاومة، وهو الضّالع في تهجير الفلسطينيين، وكيف تُمنح لهنري كيسنجر (1973)، الذي اعتُبِر نيله لجائزة نوبل «نهاية نوبل أخلاقيًّا»، وكيف تُهْدَى لإسحاق رابين وشمعون بيريز (1994)، وهما نموذجا تذبيح الفلسطينيين، والمسؤولين عن مجزرة قانا (1996) في لبنان.
لا يفهم العقل الأدبيّ، الذي أنا بعض منه، كيف يُمكن أنّ يكون الفنَّانُ دمويًّا، كيف يُمكن أن يكون الكاتبُ صهيونيًّا، يُقيمُ فنَّه على أنقاض البشر العُزَّل، فبالرُّغم من أنّ نوبل للسّلام تعتبر نفسها محايدة، ومنتصرة لأصوات السّلام في الكون، إلاّ أنّها تُتَّهم عربيًّا بأنّها لا تُرشِّح، خاصّة من العرب والمسلمين، من يقف صراحةً ضدّ الصهيونيّة، والعكس سليم، إذ أنّ عددًا مهمّا من الأدباء المناصرين للصهيونيّة، المعادين للقضيّة الفلسطينيّة، قد نالوا الجائزة، فباتريك وايت حاز نوبل سنة 1973، وهو مناصر لإسرائيل، ويعدّ وجودها «معجزة حضاريّة في خاصرة عالم عربيّ متخلّف»، وكذا شموئيل يوسف عجنون الذي ناصف نوبل مع الشاعرة نيللي زاكس (1966).
وهو صهيونيّ يعتبر أنّ وجود إسرائيل هو تحقيق للوعد التوراتي، وكذلك شريكته في الجائزة وفي الرؤية وفي الدفاع عن الدولة الدينيّة اليهوديّة، والأمر ذاته بالنسبة إلى الموسيقي والمغني الأمريكي أصيل اليهودية روبرت ألن زيمرمان المعروف باسم بوب ديلن، وهو نصير المقهورين، وصوت المعذّبين في الأرض، غير أنّه يشيد بإسرائيل ولا يرى جرائمها، ويكتب أغنيته سنة 1983، أغنيته الأشهر الداعمة لإسرائيل، المتغنيّة بها، «فتوّة في الجوار» (Neighborhood Bully)، والعالم ما زال مصدومًا من وقْع مجزرة صبرا وشاتيلا، التي كوّم فيها الصهاينة البشر هضابًا ومرّوا عليهم دوسًا وعجنّا بالدّبابات، صبرا وشاتيلا التي قتّل فيها الصهاينة حوالي 3500 فلسطيني لاجئ إلى بيروت، إضافةً إلى ما تيسّر من اللبنانيين، وتطول القائمة لتشمل إيلي فيزيل (1986) الذي تحصّل أيضًا على جائزة حارس الصهيونية (1997)، والذي وصفته الجائزة الموقّرة بأنّه «رسول البشريّة»، وهو من مؤسّسي أدب الصدمة لأنّه فرغ لكتابة قصّة الهولوكوست حتّى عُدّ بوفرة كتبه «نجم الهولوكوست»، فماذا علينا أن نقول في جائزة نحتفي بها ونرقب نتاجها، وأغلب الفائزين بها أوّلا من أصول يهوديّة، وعدد هامّ من حاصديها يتبنّون فكرة إسرائيل الوديعة الواقعة وسط الهمج؟ تعوَّدنا الشكوى والمظلوميّة حتّى عُرفْنا بذلك، ولذلك، فإنّي لن أشكِّك في حسن نوايا جائزة نوبل، ولا في موضوعيّتها، ولا في نزاهتها، ولا في عدم نُصرتها للقضيّة الفلسطينيّة العادلة، ولكنّي اليوم سعيد أنّها أدارت وجهها وأعرضت عن حديث السياسة، وعن لهث اللاّهثين للفوز بها، أعرضت عن تمام القضيّة الفلسطينيّة، فلم تمنحها للرئيس الأمريكي صانع سلام الشرق الأوسط، والعامل على كبْت فتن العالم، ورسول السَّلام، والصوت الدّاعم لنزع كلّ تقاتل في الكون، ولم تمنح لناتنياهو على جنوحه إلى السّلام، ومعاناته من فعل الأشرار الفلسطينيين الإرهابيين، وعمله الصّالح على تخليص الكون من شرذمة من الإرهابيين الذين جرّمهم الكون، على أمل أن تهدأ الأوضاع، وأن يتمّ السّلام وتظهر بشائره وأماراته، ويعود كلّ إلى بيته رضيّ النفس، هانئ البال، لعلّ السّنة القادمة أن تحمل في ثناياها جائزة نوبل لهؤلاء، ولكن لا أمل ولا واقع في أن تُكرم الجائزة الصحافة العالميّة الصّادقة، وأن تقوم بحركة رمزيّة تكريمًا للصحفيين الذين ماتوا تحت قصف العدوّ الإسرائيليّ، لا أمل أن تُعطى نوبل للسّلام في حركة رمزيّة لرضَّع غزّة الذين قُتِّلوا بالمئات وسلاحهم أنّ دمهم فلسطينيّ.
نوبل للسّلام تُكرِّم الشخص عن فعلٍ ترى أنّه حقّق سلامًا ما، وهي على حقّ في ذلك، غير أنّها ترى بعينٍ واحدة، وتُغمض العين التي بها تُرَى الجرائم، وعداء الإنسانيّة.
الحقّ أنا من متابعي نوبل للسّلام وعلى يقين بأنّ الجوائز لا تصيب أهدافها دومًا، ولكنَّ العين الغربيّة الأوروبيّة تبقى دومًا لها رؤية متعالية، ولها مقاييس خاصّة، ولذلك، صبْرًا آل غزّة على صبركم، فالعالم قد اجتمع ضاحكًا مستبشرًا لإنقاذكم ولتحقيق سلامٍ نرجو من اللّه أن يكون بأخفّ الأضرار، في انتظار نوبل القادمة التي تهيَّأت لها أرضيّة وسيعة لجائزة يطلبها الغنيّ ولا يرجوها الفقير.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الإنسانی ة لا یفهم الس لام
إقرأ أيضاً:
شرم الشيخ.. مدينة السلام التي تحتضن الأمل من جديد
من جديد تثبت مصر أنها قلب العروبة النابض وعنوان السلام الدائم، فها هي مدينة شرم الشيخ، مدينة السلام، تحتضن جولة جديدة من اتفاق وقف إطلاق النار في الحرب على غزة، لتعيد إلى الأذهان تاريخًا طويلًا من المواقف المصرية الثابتة، التي لا تتغير بتغيّر الزمن ولا بتبدّل الظروف.
منذ عقود، كانت مصر — ولا تزال — هي الوسيط النزيه، والضمير العربي الحي، الذي لا يسعى لمصلحةٍ ضيقة، بل يعمل من أجل إنقاذ الإنسان قبل أي شيء. من كامب ديفيد إلى اتفاقات الهدنة، ومن دعم القضية الفلسطينية في كل محفل دولي إلى استقبال المفاوضات على أرضها، أثبتت القاهرة أن السلام بالنسبة لها ليس شعارًا يُرفع، بل مسؤولية تاريخية وإنسانية.
وها هي اليوم، شرم الشيخ — المدينة التي شهدت مؤتمرات للسلام والتنمية والبيئة والسياحة — تفتح ذراعيها لتحتضن الأمل في وقف نزيف الدم، وإعادة الحقوق لأصحابها، وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني الذي دفع ثمن الحروب والدمار لسنوات طويلة.
دور مصر لم يكن يومًا عابرًا، بل متجذر في تاريخها الممتد منذ آلاف السنين، حين كانت أرضها مأوى للأنبياء وممرًا للرسل، ومهدًا للحضارة الإنسانية. واليوم، تواصل مصر هذا الدور بوعي قيادتها السياسية وحكمة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي رفع دائمًا شعار “لا حل إلا بالسلام العادل والشامل، وبإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة”.
إن ما يجري في شرم الشيخ اليوم هو رسالة جديدة للعالم: أن السلام لا يولد إلا من أرضٍ تعرف معنى الحرب، وأن من ذاق مرارة الفقد هو الأقدر على تقدير قيمة الحياة.
فمصر التي خاضت الحروب من أجل كرامتها، تعرف كيف تبني الجسور من أجل إنقاذ الآخرين.
شرم الشيخ إذا ليست مجرد مدينة ساحلية جميلة، بل هي رمزٌ متجدد لسلامٍ مصريٍّ أصيل، سلامٍ يصون الحقوق ولا يساوم على الكرامة، سلامٍ يُكتب اليوم بأيدٍ مصرية تحمل شرف التاريخ وأمانة المستقبل.