مؤلفات العُمانيين في العلوم الرُّوحانية
تاريخ النشر: 18th, October 2025 GMT
محمد بن سليمان الحضرمي -
شاغلتني فكرة الكتابة عن مؤلفات العُمانيين المعنيَّة بالعلوم الرُّوحانية، وحين قرأت في هذا الجانب، رأيت أنَّ من له فيها كتاب، قد شغل نفسه بما لا طائل من ورائه، علوم صَنَعتْ لها الخيالات البشرية نسيجًا، ورغم تطور العلوم الحديثة في هذا العصر، إلا أن البعض لا يزال يتحدث عن تلك العلوم، باعتبارها أسرارا ومكاشفات، وليست خيالات وأوهاما.
في التراث الثقافي العُماني، مؤلفات كثيرة تتناول هذا الجانب، بعضها بأقلام مؤلفين كبار، لهم تاريخهم الثقافي والفقهي المرموق، أقْدَمُها كتاب «كشف الأسرار المخفية»، للشيخ عمر بن مسعود بن ساعد المنذري (ت: 1160هـ/ 1747م)، وهو فقيه وشاعر وطبيب وفلكي، عاش في عصر دولة اليعاربة، ولعل هناك كتب أخرى عُمانية، تعود إلى فترات سابقة، لكني لم أقف عليها.
من بينها بعض من مؤلفات الشيخ أبو نبهان جاعد بن خميس الخروصي (ت: 1237هـ/ 1822م)، له منظومات سلوكية تنحو منحى علم الأسرار، وتنسب له كتب عديدة في هذا الجانب، وكذلك كتاب «النواميس الرَّحمانية»، للشيخ المحقق سعيد بن خلفان الخليلي (ت: 1287هـ/ 1871م)، وغيرها كثير من المؤلفات، وأسماء أخرى انشغلت بهذا العلم، وفي هذه المقالة أعرض بعضًا من هذه الكتب المطبوعة والمخطوطة، لتقديم لمحة عن تلك الكتب التي تتناقلها أقلام النساخ، وانتشرت مصوَّرة عن آلات التصوير الورقي، ولا يزال بعضها يباع بأثمان باهظة، وقبل الحديث عنها، أعرِّج قليلا على رأي بعض المؤلفين الذين لهم إسهام في هذا العلم، فماذا قالوا عنه؟.
في الجزء الثاني من كتاب «مكنون الخزائن وعيون المعادن»، لمؤلفه الفقيه الشاعر موسى بن عيسى البشري (ق: 13هـ/ 19م)، الصادر عن وزارة التراث القومي والثقافة عام 1982م، مجموعة من الفتاوى الفقهية لمسائل تتناول علوم الروحانيات والأسرار، منها مسألة عن الشيخ ناصر بن أبي نبهان الخروصي (ت: 1262هـ/ 1847م)، تقول: هل يجوز الدعاء بالألفاظ التي لم يعرف الداعي «العازم» معناها، لأنها ألفاظ غير عربية، وكذلك كتابة «الطلاسم»؟، فكتب الشيخ ناصر ردًا طويلا منه: (وجدنا والدنا الشيخ العالم أبا نبهان، يكتب الطلسمات ويعزم العزايم، ونعلم أنه لا يعلم لغتها ولا معانيها!).
ومن جواب لفقيه آخر اسمه صالح بن سعيد: فيمن يتعلم شيئًا من علم الفلك، هل يجوز أن يعتقد في قلبه صحة هذه العلوم؟، فجاء الجواب منه: أما علم الفلك الذي تعده الناس في زماننا أنه علم فلك، فعندي أنه لا يجوز للإنسان أن يعتقد صحته على الحقيقة، وأنه لا يخطئ، وكذلك الذي تعده الناس اليوم «علم رَمْل»، لأن الكتب لا يؤمن أن يقع فيها تبديل من النسَّاخ، وأما العلم الذي أنزله الله تعالى، إن كان علم فلك أو رمل، فذلك واجب على الإنسان أن يعتقد صحته. وفي الأجزاء الأولى من كتاب «قاموس الشريعة» للشيخ جميِّل بن خميس السعدي (ق: 13هـ/ 19م)، فتاوى كثيرة ينقلها الشيخ ناصر عن والده جاعد بن خميس، وأنه ممن يقولون بعدم الفائدة من علم الفلك، أما علم الطب وعلم تأويل الرؤيا فقد أشاد بهما.
ويعد كتاب «كَشْف الأسرار المخفيَّة في علم الأجرام السماوية والرُّقوم الحَرْفيَّة»، من أضخم الكتب العُمانية، ألفه عمر بن مسعود المنذري بطلب من الإمام سلطان بن سيف بن سلطان بن سيف بن مالك اليعربي (حكم: 1711- 1719م)، وصدر عن وزارة التراث القومي والثقافة عام 1983م، مصورًا عن الأصل، في ستة مجلدات كبيرة، وكان صدوره آنذاك الوقت بمثابة هدية ثمينة للقارئ، فهذا الكتاب طبع بذات جودة الأصل وحجمه، وأعيد طبعه أكثر من مرَّة.
عاش المؤلف في قرية «السليف» بولاية عبري، ويُعَدُّ عَرَّابا لهذا العلم، ومن تجربته استفاد كل من جاء بعده من المؤلفين، وذات يوم زرت «حارة السليف» التي عاش فيها المؤلف، ووقفت على قبره في مقبرة العلماء المجاورة للحارة، وبالصدفة وقعَتْ عيني على حجرة بيضاوية الشكل، وُضِعَتْ على قبر الشيخ المنذري، محفور فيها اسمه وتاريخ وفاته، وكنت قد رأيتها مطبوعة في الجزء الأول من هذا الكتاب، المتضمن للكثير من الأدعية والعزايم والبرهتيات والأوفاق، وما يتبعها من أسرار فلكية ورقوم حرفية.
ومن الكتب التي راجت بين الناس، كتاب «النواميس الرَّحمانية في تسهل الطريق إلى العلوم الربانية»، لمؤلفه الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي -رحمه الله-، وهو فقيه وشاعر وسلوكي كبير، انتشر كتاب «النواميس» بين الناس مصوَّرًا عن مخطوطات قديمة، وكان يباع بأسعار غالية، حتى صدر مطبوعًا بطريقة التصوير في جزء واحد عام 2001م، عن مكتب المستشار الخاص لجلالة السلطان للشؤون الدينية والتاريخية، طبع عن مخطوطة قديمة، كتبت بقلم الناسخ سالم بن راشد بن سالم، بتاريخ: الحادي من ربيع الأول، سنة 1293هـ.
وفي بداية الكتاب يتحفنا السيد محمد بن أحمد البوسعيدي (ت: 2012م)، بكتابة مقدمة تتناول بعضًا من الأسماء العمانية التي اشتغلت بهذا العلم، وكتب الشيخ مهنا بن خلفان الخروصي (ت: 2023م)، مقدمة طويلة تتناول شيئًا من سيرة المؤلف الخليلي، وحديث عن كتابه «النواميس»، والذي يفسره بمعنى: علم الأسرار.
«عسجدة المسكين»: كتاب للشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، صاحب النواميس، شَرَح فيه «القصيدة السليمانية» التي نظمها الشيخ أحمد بن مانع بن سليمان العقري النزوي (ق: 9هـ)، صدر الكتاب في طبعته الثانية عام 2015م، عن مكتب المستشار الخاص لجلالة السلطان للشؤون الدينية والتاريخية، كتب فيه السيد محمد مقدمة تعريفية بالمؤلف، وأشار إلى أن له مناظيم، ذكَرَتْها مدونات الشعر العماني.
وأشار في تقديمه، إلى أن الكتاب طبع عن مخطوطة وحيدة موجودة في مكتبته، وضمَّن مقدمته أرجوزة طويلة في معرفة «منازل القمر»، وأخرى لعبدالله بن خنبش في «سعود المنازل ونحوسها»، وتبدأ «القصيدة السليمانية» للشيخ أحمد بن مانع بهذا البيت: (يا خليليَّ اسمعا ثم انقلا .. عن مقال السرِّ والعلم الأجل)، وتقع القصيدة الطويلة في نحو 105 أبيات.
وفي المخطوطات، وقفت على كتاب مصوَّر، يحمل عنوان: «سراج الآفاق في وضع الأوفاق»، للشيخ ناصر بن جاعد بن خميس الخروصي، أثبته د. إبراهيم بن يحيى العبري محقق كتاب «الإخلاص بنور العلم والخلاص من الظُّلم» للمؤلف ذاته، وكذلك كتاب «مُنتهى الكرامات في أسرار الرياضيات»، و«الرسالة المضنونة في الأشكال المكنونة»، يقول محقق كتاب «الإخلاص»: إن الشيخ ناصر يرى شرف علم الحروف، ودلل على ذلك أن الله أقسم ببعض الحروف في فواتح بعض السور.
ولم يجاف النظم التعليمي العماني هذا العِلم، بل كُتِبَتْ فيه الكثير من المنظومات، وفي ديوان «أنوار الأسرار ومنار الأفكار»، للشاعر عامر بن علي بن مسعود العبادي النزوي (ت: ق13هـ) قصيدتان، الأولى في نظم سعود ونحوس الرمل وتثبيت أشكاله، والثانية في بيوت الرَّمل وطالبها ومطلوبها، وفي المقدمات التي كتبها السيد محمد بن أحمد البوسعيدي، للكتب التي تصدر عن مكتبه ومكتبته، حديث عن بعض المنظومات العمانية في هذه العلوم، من بينها قصيدة نظمها عبدالله بن خنبش في سعود المنازل ونحوسها، كما أشار في تقديمه لكتاب النواميس، إلى أبيات منسوبة للشاعر عبدالله بن مبارك بن عمر الربخي (حي في عام: 1042هـ/ 1632م).
ويتناقل البعض مخطوطات مصورة، من بينها كتاب «السر المصون والجوهر المكنون، نور النور وسيف الله الماحق للطغيان والفجور»، ينسب إلى الناسخ سيف بن علي بن عامر الفرقاني النزوي (ق: 14هـ/ 20م)، وقد عُرِف بخطه الجميل، وفي المدخل الخاص به في «الموسوعة العمانية»، ذُكِرَ أن الشيخ عبدالله بن حميد السالمي (ت: 1914م)، كان يختار الفرقاني لكتابة مراسلاته ومصنفاته، التي ينوي إرسالها للطباعة خارج عُمان، وأنه كان ينهي بعض منسوخاته بعبارة «طُبعَ في المطبعة الفرقانية».
ومن بين المصورات المتبادلة كذلك كتاب «جواهر المنافع»، للشيخ سليمان بن إبراهيم العوفي النزوي (حي في عام: 1123هـ)، وهذا كتاب في الطب، يتناول تشخيص الأمراض وأدويتها، باستخدام العزايم والأوفاق والطلاسم!. إن التراث العُماني غني بمثل هذه المؤلفات والمُجرَّبات، يتداخل فيها التنجيم بالشعوذة، وعلم الفلك بالأسرار الحروفية، والعزايم بالطلاسم، تعكس صورة لذلك الإنسان الباحث عن الحقيقة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشیخ ناصر هذا العلم علم الفلک بن خلفان بن خمیس هذا الع فی هذا
إقرأ أيضاً:
فلسفة التاريخ من جديد.. الطيب بوعزة يقترح تأسيسًا جديدًا يجاوز الحتمية.. كتاب جديد
الكتاب: المؤرخ والفيلسوف: أسئلة الإسطوغرافيا وفلسفة التاريختأليف: د الطيب بوعزة
الناشر: مركز نهوض للدراسات والبحوث
الطبعة الأولى
سنة النشر: 2025
ثمة سؤال بحثي ومعرفي يثير قلق كل من المؤرخ والفيلسوف على حد سواء، ويخلق نوعا من الخصومة بينهما، خصومة الاختصاص، وخصومة احترام الصلاحيات، ونزاع التطاول على العلم والخوض في عبابه دون مجادف معرفية وأدوت منهجية.
هل يمكن للتاريخ بأحداثه ووقائعه واتساع مدياته، من التاريخ القديم إلى التاريخ المعاصر أن ينتظمه تفسير كلي، يجمع كل وقائعه الصغيرة والكبيرة في خط واحد، أفقيا كان أم دائريا أو متموجا؟ وإذا كان بالوسع معرفيا الإقرار بهذه الإمكان، فهل السعي لتحصيل هذا المعنى الكلي من التاريخ هو وظيفة المؤرخ أم وظيفة الفيلسوف؟
تأخذ الخصومة بين المؤرخ والفيلسوف بعدين اثنين إذن، البعد المتعلق بسؤال الإمكان، إذ يصر الفيلسوف على خوض هذا التمرين دون المؤرخ فتتجلى صور التنازع في التوصيفات القدحية التي يتهم فيها كل طرف الآخر، بسبب هذا السؤال، والبعد المتعلق بمن يملك الأدوات المعرفية والمنهجية للخوض في هذا المسعى، وبأي رؤية ومقاربة، فتنتقل الخصومة المعرفية، أو للدقة النقد المعرفي بما في ذلك الهدمي، إلى مدارس الفلاسفة في التأطير النظري لفلسفة التاريخ.
ويتولد عن هذين الإشكالين إشكال ثالث نقدي وتركيبي في الآن ذاته، فإذا سلمنا بإمكان تحصيل معنى كلي للتاريخ، واستقرأنا مدارس الفلاسفة في تفسيرهم لفلسفة التاريخ، فهل المقاربات التي تم إنتاجها بخصوص هذا السؤال منذ القرن الثامن عشر كافية في الوفاء بالغرض والقول بإمكان الفيلسوف أن يسهم في تقديم نظرته الكلية للتاريخ وتحصيل المعنى منه، أم أن مخرجات هذه المدارس تكشف تيها واضطرابا في التفسير، تجعل المؤرخ في نهاية المطاف، يسعد برؤيته وخصومته للفيلسوف حين كان يتهمه بالتطفل على ميدان لا يحسنه، ويأسف الفيلسوف بسبب اتهامه المؤرخ بأنه يخوص في أجزاء ووقائع ويغرق في تفاصليها دون أن يخرج منها بطائل سوى التوثيق الذي لا ينقع في تقديم شيء في قراءة المسار العام للتاريخ والقانون الذي يحكمه.
بالنسبة للفيلسوف، فَهَمه دائما، ليس قراءة التاريخ فقط، بل في سعيه لتأطير كل الموضوعات، أدبا كانت أم سياسة أم فنا أم أخلاقا أم تربية، بالبحث عن المعنى الكلي، فليس همه النظر في الجزئيات العارضة والظواهر المحكومة بسياقها الزمني، بل نظره معلق بإيجاد خط ناظم، يجمع الحوادث كلها، في إطار رؤية كلية مفسرة.هذه الإشكالية المعقدة، والتي أثارت خصومات معرفية بين الفيلسوف والمؤرخ حول المعنى الكلي للتاريخ، وطرحت أسئلة حتى حول جدية المقاربات التي قدمتها المدارس الفلسفية بخصوص رؤيتها الكلية للتاريخ وأيضا حول مركزيتها الغربية، كانت موضوع دراسة نوعية، وربما غير مسبوقة في العالم العربي، قدمها الدكتور طيب بوعزة في كتابه الجديد:" المؤرخ والفيلسوف: أسئلة الإسطوغرافيا وفلسفة التاريخ " الذي لم يكتف فيه بتتبع هذه الخصومة، وتحليل وجهات نظر المؤرخ ومقاربات الفلاسفة ومدارسهم في هذا الموضوع، بل مارس كثيرا من النقد على صنيع الاثنين، وانتصر لفكرة المعنى الكلي للتاريخ، لكن ليس من نفس القاعدة التي أسست لها المدارس الفلسفية التي اشتغلت على هذا الموضوع، وإنما بتقديم أطروحة أخرى، انطلقت من نقد المنجز الفلسفي بهذا الخصوص، والإفادة من الخبرة الفلسفية العربية الإسلامية، ومحاولة تغيير النظرة القدرية الحتمية في تأطير فلسفة التاريخ، واستبدالها بنظرة أخرى، تجعل من حاصل ومخرجات فلسفة التاريخ أو من القانون العام الناظم لحركيته د حافزا للحركة ودافعا نحو تكميل الإنسان.
المعنى الكلي للتاريخ والخصومة المعرفية بين المؤرخ والفيلسوف
يتنازع المؤرخ والفيلسوف سؤال إمكان تحديد المعنى الكلي للتاريخ القادر على تأطير ونظم التواريخ كلها وتفسير مبدئه ومسار وغايته، والأدوات المنهجية الكفيلة بتحقق هذا الغرض.
بالنسبة للفيلسوف، فَهَمه دائما، ليس قراءة التاريخ فقط، بل في سعيه لتأطير كل الموضوعات، أدبا كانت أم سياسة أم فنا أم أخلاقا أم تربية، بالبحث عن المعنى الكلي، فليس همه النظر في الجزئيات العارضة والظواهر المحكومة بسياقها الزمني، بل نظره معلق بإيجاد خط ناظم، يجمع الحوادث كلها، في إطار رؤية كلية مفسرة.
أما المؤرخ الذي تقوده مهمته إلى الاقتصار على توثيق الحدث ونقله بتفاصليه ومختلف سياقاته، فيرى في الفيلسوف كائنا طفيليا يتعدى على الحقول المعرفية للغير ويريد بمنزعه نحو "التعميم" والبحث عن المعنى الكلي إلى تأسيس شرعيته المتعالية على الجميع، مع أن عمله يفتقد ـ حسب نظر المؤرخ ـ إلى أبسط مقومات التنقيب والاستقصاء التي تتوفر في المؤرخ وبها تنطبع صنعته.
ينقل المؤلف أمثلة عن الاتهامات التي وجهها المؤرخون للفلاسفة ومنهم المسعودي في القرن الرابع الهجري، الذي وصف الفيلسوف بالطفيلي الذي يتطاول على صنعة لا يحسنها، وينقل آراء مفكرين معاصرين استمرت عندهم هذه النظرة، مثل أسد رستم، الذي اتهم الفلاسفة بالجهل بالتاريخ، والتعالي عن الاستشارة للمختصين في حقله، وارتكاب حماقات متعسفة في تحميل التاريخ ما لا يطيقه.
يقر الدكتور طيب بوعزة، أنه رغم انتسابه للحقل الفلسفي، فإن هناك ما يبرر استهجان المؤرخ لعمل الفيلسوف، فالمؤرخ يبذل الجهد المضنى في التدقيق والنخل والتحقيق والجمع والتوثيق في واقعة تاريخية مفردة، بينما لا يتورع الفيلسوف في أن يتحدث عن التاريخ في حركيته الطويلة والممتدة، مقدما فهمه الكلي لمساره وغايته وتعيين مستقبله.
لكن مع إقراره بشرعية هذه المبررات، فإنه يرجع هذه الخصومة بين الفيلسوف والمؤرخ إلى طبيعة نظر كل منها، والغاية التي تحكم السؤال المعرفي عندهما، فالفيلسوف ينشغل بسؤال المبدأ والنهاية ويعتبر ذلك الاهتمام الرئيس للوعي الفلسفي، بينما ينشغل المؤرخ بسؤال الكيف في مدلوله الوصفي، ويضع عينه على العلائق السببية في الأحداث الجزئية التي يوثقها ويدققها ويعاير صدقيتها.
وتبعا لذلك ينتصر الدكتور طيب بوعزة لفلسفة التاريخ، ويبرر الحاجة إليها، بالحاجة إلى تجاوز منهج التعليل الجزئي للأحداث التي لا يحصل منه طائل مالم يتدعم بالرؤية الكلية التوليفية التي تقوم على تفسير التاريخ بالمعنى الكلي والقانون الناظم لمبدئه مساره والغاية منه.
فإذا كانت مهمة المؤرخ ومكنته المنهجية متجهة إلى تحصيل الأحداث الجزئية، والبحث في سؤال الكيف والسبب ضمن السياق المفرد المخصوص، فإن مقدرته على إنتاج فلسفة التاريخ محدودة، ولا تسعفه في بلوغ شيء في تحصيل للمعنى الكلي للتاريخ، فالقدرة التوثيقية الهائلة التي يتمتع بها المؤرخ، لا تفيد إلا في فهم المعنى للحدث العرضي، ولا يقدم شيئا يذكر في تحصيل المعنى الكلي للتاريخ والقانون الحاكم لحركيته، وأن هذا ما يبرر الحاجة لفلسفة التاريخ، ولمهمة الفيلسوف في الحقل التاريخي، لأنه يمتلك القدرة والمكنة على لَم الجزئيات، ونظمها في خط جامع، يتمتع بمقومات التفسير الكلي للتاريخ.
يطرح الدكتور طيب بوعزة سؤال الإمكان والقدرة، وهل يستطيع الفيلسوف أن يقوم بهذه المهمة، وهل له الاقتدار على فعلها، ويستعرض مسار الفلسفة الإغريقية، ويلحظ غياب فلسفة التاريخ فيها، هذا في الوقت التي انشغلت فيه هذه الفلسفة بمختلف أنواع الفلسفة (فلسفة الكوسموس، وفلسفة السياسة، وفلسفة النفس، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة المعرفة، وفلسفة "الجسد، وفلسفة الجنس، وفلسفة الطبخ..." ويتساءل عما إذا كان العقل اليوناني قد عجز عن بلورة فلسفة للتاريخ؟
وبعد أن يقدم تفسيرات لسبب عدم انشغال العقل اليوناني بهذا السؤال، ونفي أرسطو إمكان قيام فلسفة التاريخ بسبب استحالة تحديد رابط يمكن أن يجمع وينظم التواريخ البشرية جميعها، يلفت الانتباه إلى أن فلسفة التاريخ لم تظهر إلا في الزمن الروماني، ويعزو ذلك إلى تأثيرات الدياية المسيحية سواء في عهدها الجديد أو في ميراثها التوراتي، وأنه من هذين المصدرين بدأت تتأسس فكرة الرؤية الجامعة للتاريخ الإنساني، وفكرة هندسة الزمن في شكل خطي ذي بداية ونهاية، وأن هذه التأثيرات المسيحية هي التي تفسر بروز فلسفة التاريخ بشكل مؤسس في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، بما يعني في المحصلة أن جذور فكرة فلسفة التاريخ، أو المعنى الكلي له، تم استمدادها من الفكرة الدينية لا من الأصول الهندو -أوربية، وهذا ما جعل طيب بوعزة يخلص للقول بأن: "المبدأ الكُلِّي المفسر للتاريخ لم يظهر ابتداءً في إطار الوعي الفلسفي، بل في إطار الوعي الديني" وأنه تبعا لذلك، لا ينبغي بالمطلق فصل نشأة فلسفة التاريخ، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عن الرؤية الدينية لصيرورة الوجود، ويستشهد طيب بوعزة على ذلك، باستعمال فلسفة التاريخ في نشأتها الحديثة للاصطلاح الديني "الثيوديسيا" التي تعني في اللغ اليونانية "العدل الإلهي"، كما يستدل على ذلك باستعمال هذا الاصطلاح في الدراسات اللاهوتية المسيحية بالمعنى الذي يفيد بأن العالم يسير وفق خطة إلهية، فتم استعمال هذا الاصطلاح في فلسفة التاريخ، وتم تتطوير مفهومه، حتى صار يأخذ أبعادا أخرى ابتعدت به عن معناه ألأصلي في الفلسفات المعاصرة.
هل أجابت الفلسفة عن سؤال المعنى الكلي للتاريخ؟
في الواقع، وبعيدا عن سؤال تبرير الحاجة لفلسفة التاريخ، وبيان مشروعية عمل الفيلسوف في حقل التاريخ بمنهج مغاير لعمل المؤرخ، ومحاولة تفسير سبب الخصومة بينهما، ومحاولة تفهم منهج كل واحد منهما في النظر للتاريخ، فإن السؤال الذي يتجاوز ذلك، هو إلى أي حد قدمت فلسفة التاريخ جوابها عن إمكان وجود معنى كلي للتاريخ؟ وهل الإسهامات التي قدمت تناسب مستوى المقدمات المنهجية التي كانت تبرر الحاجة لتأسيس فلسفة التاريخ؟ وهل ما قدم من عطاءات في هذا الاتجاه تعطي شرعية معرفية وعلمية ومنهجية للمعاني الكلية التي تم إنتاجها في فلسفة التاريخ؟
واقع الأمر، يؤكد بأن الجواب عن هذا السؤال يكمن في تقييم عطاء المقاربات الفلسفية التي نشأت منذ القرن الثامن عشر، ومحاولة تقييمها ومعايرتها في ضوء المقدمات التأسيسية لفلسفة التاريخ.
بعيدا عن سؤال تبرير الحاجة لفلسفة التاريخ، وبيان مشروعية عمل الفيلسوف في حقل التاريخ بمنهج مغاير لعمل المؤرخ، ومحاولة تفسير سبب الخصومة بينهما، ومحاولة تفهم منهج كل واحد منهما في النظر للتاريخ، فإن السؤال الذي يتجاوز ذلك، هو إلى أي حد قدمت فلسفة التاريخ جوابها عن إمكان وجود معنى كلي للتاريخ؟ وهل الإسهامات التي قدمت تناسب مستوى المقدمات المنهجية التي كانت تبرر الحاجة لتأسيس فلسفة التاريخ؟ وهل ما قدم من عطاءات في هذا الاتجاه تعطي شرعية معرفية وعلمية ومنهجية للمعاني الكلية التي تم إنتاجها في فلسفة التاريخ؟قام الدكتور طيب بوعزة في هذا السياق باستقراء دقيق لما أنتجته فلسفة التاريخ من رؤى ومقاربات في هذا الاتجاه، وحصرها في ثلاثة أنماط متمايزة واستفاد في ذلك من جهود هنري ولش: نمطان أنتجهما اللوغوس الفلسفي هما "فلسفة التاريخ التأملية" ونمط "فلسفة التاريخ النقدية"، ثم نمط آخر نشأ في القرن العشرين، ومثل ما يسميه الكاتب بالمنعطف اللغوي في النظر الفلسفي للتاريخ.
النمط الأول، اتجه إلى تحديد معنى كلي للتاريخ، وضمنه يمكن أن ندرج المدرسة الهيجيلية. والنمط الثاني، نشأ بوصفه تجاوزا للهجيلية، ونقدا للعقل الفلسفي الثيوديسي.
يعلل الطيب بوعزة نشأة النمط الثاني بأزمة المعنى في الفكر الفلسفي المعاصر، ويرى أن تيارا جديد امتأثرا بالمنعطف اللغوي في القرن العشرين، أسهم في بروز نمط ثالث في فلسفة التاريخ، يرى طيب بوعزة أنه لم يستطع بنظريته حول "فلسفة التاريخ الجديدة" أن يحدث ثورة حتى في مجال اختصاصه، فبالأحرى أن يحدث انقلابا ثوريا في نظرية التاريخ وفلسفته، ويعلل ذلك بسببين اثنين، أن فلسفة التاريخ لم يكن من الممكن أن تستبدل بأدوات الشعر، والثاني أنه إذا كان مأزق الإسطوغرافيا العلموية يرجع بالأساس إلى الوهم النظري الذي يقوم على إمكان تعميم براديغم العلم الطبيعي على المعارف الإنسانية، فإن الجواب عن ذلك لا يكون بمجرد الاكتفاء بالنقد البلاغي على طريقة مؤسس فلسفة التاريخ الجديدة هايدن وايت.
في مبررات الاشتغال على فلسفة التاريخ.. وهل بالإمكان التأسيس من جديد لهذه الفلسفة؟
يرى طيب بوعزة أن هذه الأنماط الثلاثة، خاصة منها النمطين الأخيرين الذين جمعهما جامع النقد، لم تقدم شيئا كثيرا لنظرية التاريخ وفلسفته، وأن هذا ما برر اشتغاله على هذا الكتاب، هو محاولة إنجاز "ضبط أكثر دقةً لهذا النسيج الثري من الأنماط التصورية التي نظرت في مسألة التاريخ ومعناه".
ولتحقيق هذا الهدف وهذا الضبط بشكل استقرائي دقيق، حاول طيب بوعزة أن يتتبع كيفية تشكيل النظرية الإسطوغرافية في التراثين الإسلامي والغربي، وأن يمارس عملية النقد المعرفي والمنهجي على أطاريح فلسفة التاريخ، ويرصد تحولاتها، حيث توقف بهذ الخصوص على المحطة التي وصلتها، أي محطة النقد العدمي بسبب من تهجمات النقد ما بعد الحداثي، وما تلاه من تفكيك للمفاهيم المؤسسة للنظر الكلي.
وقد كان قصد الكتاب، أن يتجاوز المقاربة التوصيفية الاستعراضية إلى ما هو أكبر من ذلك مما يتعلق بجهد البناء والتركيب والتأسيس، إذ سعى خاصة في الباب السادس، إلى تأسس نموذج لفلسفة تاريخ جديدة، من خلال إعادة التفكير في "متعاليات الذات" من أجل استمداد معنى للتاريخ، ضدا على دعوى استحالة تأسيسه، وذلك لأن ضغط الزمن المعاصر يلح أكثر من أي وقت مضى على وجود فلسفة للتاريخ، وذلك بعد أن أصولت المقاربات النقدية والعدمية هذه الفلسفة إلى مربع الموت والزوال.
وقد ركز طيب بوعزة مشروعه التأسيسي على استحضار بعض ميزات الفلسفة الإسلامية، ومنها "مقولات الجهة" وذلك بالسعي بالانتقال بها من المبحث المنطقي، إلى مبحث الميتافيزيقا؛ وذلك حتى يتسنى له تأسيس الدليل الوجودي. ومنها أيضا "مفهوم كمال واجب الوجود"، الذي كشف عنه الفارابي وابن سينا (الضرورة الوجودية)، ومنها مفهوم "الكمال"، الذي استعمل في الفلسفة بوصفه أساسا للدليل الأنطولوجي، حيث اتخذه الكاتب مقدمة إلى فهم الوضع البشري وصيرورته في الزمن (التاريخ).
وقد قصد من توظيف واستثمار هذه المفاهيم تحقيق: "ثلاث نقلات تبدأ من المنطق (موجهات القضايا)، إلى الميتافيزيقا (واجب الوجود)؛ فالأنثربولوجيا (الكائن الإنساني بما هو وجود بالكامل للكمال)".
الفارق في طريقة اشتغال المؤلف لتأسيس فلسفة التاريخ من جديد، أنه ابتعد كلية عن فكرة القدرية والحتمية في قراءة التاريخ، وأن هناك مآلا حتميا سيصير إليه التاريخ، كما هي نظريات النظرة التأملية في فلسفة التاريخ، وإنما اتجه متجها آخر، عنوانه محاولة "رفع الكلي إلى مثال آفاقي، فلا يكون حاصلا حتميا لتلك الحركة، بل أفقًا جاذبا لها، يرتهن الاقتراب منه بالتحرك في اتجاهه، لا انتظار وقوعه قدريا، ولأن الكمال مثال غير متعين، فهو محرك؛ لذا نقدمه بوصفه قانون حركة التاريخ".
بين يدي الكتاب
يجمع هذا الكتاب بين الجهد التقييمي والتوصيفي والسجالي والنقدي والتركيبي التأسيسي، ويضم بين جنباته نقاشات علمية دقيقة ومستوعبة، وفضلا عن ذلك، فإنه يتضمن تصميما مرتبا بشكل منهجي دقيق، إذ ابتدأه، بباب أولي يخص المسألة الإسطوغرافية، حاول فيه المؤلف التمهيد بدراسة دلالة التاريخ والسبب الحافز إلى سرده، قبل الانتقال إلى دراسة القيمة العلمية لذلك السرد، ثم قام في الباب الثاني "الفيلسوف والتاريخ"، بدراسة كيفية إجراء النظر الفلسفي على التاريخ، ونوعية الفروض التي أنتجها فيما يخص هندسة الزمن، فيما خصص الأبواب الثلاثة الموالية لدراسة نماذج فلسفات التاريخ حسب تصنيفها للزمن التاريخي: الارتكاسي والدائري والتقدمي، ليأتي الباب السادس نقديا تأسيسا تركيبيا، حاول فيه الانتقال من المنجز في فلسفة التاريخ ونقده، والرد على دعوى نهاية فلسفة التاريخ وزوالها، إلى اختبار إمكان تأسيس جديد لـ"معنى للتاريخ"، وذلك انطلاقا من عدة مفاهيم استثمرها الكاتب من الفلسفة الإسلامية المعاصرة وأيضا من الفلسفة الغربية، محاولا تعديل وجهة فلسفة التاريخ المرتهنة لأفق الحتمية والقدرية، بأفق ارتيادي، يجعل من قانون التاريخ ومعناه الكلي هدفا محركا نحو الكمال والتكميل وحافزا لهما.