الاستثمار الذكي يبدأ بالإنسان
تاريخ النشر: 21st, October 2025 GMT
خالد بن حمد الرواحي
حين تُقاس التنمية بعدد المشاريع لا بعدد العقول التي تديرها، نفقد جوهر الاستثمار الحقيقي… الإنسان.
في كل مدينة جديدة تُقام مشاريع عملاقة، تتلألأ الواجهات الزجاجية وتزدحم الصور الافتتاحية بالتصفيق والوعود. غير أن السؤال الذي يتسلل بهدوء إلى خلف الكواليس هو: من سيُدير كل هذا؟ فالمباني تُشيَّد بالأموال، لكن المؤسسات تُبنى بالعقول.
كثيرٌ من المشاريع يبدأ بميزانيات ضخمة وينتهي بتقارير مثقلة بالأرقام، لكنه يفتقد إلى العنصر الأهم: الإنسان القادر على تحويل تلك الأرقام إلى أثر؛ فالاستثمار في البنية التحتية دون بناء الكفاءات يشبه من يزرع أرضًا خصبة دون أن يُعد من يعتني بها. لا قيمة لجهاز حديث إن لم يُحسن الموظف استخدامه، ولا جدوى من نظام إداري متطور إن ظلت العقلية التي تديره تقليدية. وحين يُهمَّش الإنسان في معادلة التنمية تتراجع الكفاءة ويعلو صوت التبرير على صوت الإنجاز.
الاستثمار في المواطن ليس عبئًا على الموازنة؛ بل هو أعظم وسيلة لترشيدها. فكل ريال يُنفق على تدريب موظف أو تطوير مهارته يعود أضعافًا في صورة إنتاجية أعلى وأخطاء أقل. وعلى العكس، فإن ضعف التأهيل يكلّف المؤسسات أضعاف ما وفّرته من تقليص برامج التطوير. إن كفاءة الإنفاق لا تُقاس بحجم ما يُصرف، بل بما يتحقق من نتائج على الأرض. ولهذا فإن بناء الإنسان المؤهل يُعد الاستثمار الأكثر استدامة؛ لأنه يخلق كفاءة ذاتية في إدارة المال والموارد، ويقلل الحاجة الدائمة إلى الاستعانة بالخبرات الخارجية.
لقد أكدت رؤية "عُمان 2040" أن الإنسان هو الثروة الحقيقية للوطن ومحور كل تنمية مستدامة. فبقدر ما نستثمر في المواطن نضمن استمرارية المؤسسات وقدرتها على التجدد. والرؤية لم تحدد الأهداف بالأرقام فقط؛ بل أرادت نموذجًا إداريًا واقتصاديًا يقوم على التمكين والكفاءة والمسؤولية. إن تنمية لا تنطلق من الإنسان وتنتهي إليه تظل ناقصة مهما تعددت المشاريع؛ وكل خطة تُقصي المواطن عن موقع الفعل أو تؤجل الاستثمار في مهاراته تُضيّع على الدولة عائدًا مضاعفًا من رأس مالها البشري.
وفي عصر التحول المؤسسي لم يعد تطوير الكفاءات خيارًا تكميليًا؛ بل ضرورة استراتيجية. فالمؤسسات التي تستثمر في تدريب موظفيها تُحصّن نفسها من تقلبات السوق وتغير التشريعات. أما تلك التي تكتفي بالتوظيف دون تمكين فإنها تبني نجاحها على أرض رخوة لا تصمد أمام أول اختبار. إن التحول نحو إدارة المواهب يبدأ من فلسفة ترى في الموظف شريكًا في النمو لا مجرد أداة تنفيذ.
ولعل التحدي الأبرز اليوم يتمثل في مواءمة مخرجات التعليم مع احتياجات سوق العمل. فما لم تتحدث الجامعات بلغة الاقتصاد ستظل تخرّج آلاف الشباب إلى طوابير الانتظار بدلًا من ميادين الإنتاج. فالتنمية لا تقوم على الشهادات وحدها؛ بل على مهارات قادرة على صنع القيمة المضافة. وهنا يبرز دور المؤسسات في تبني برامج تدريب عملية تُعيد وصل التعليم بالحياة والعمل.
إن الاستثمار في الإنسان لا ينجح دون قيادة تؤمن بأن الناس هم الثروة الحقيقية. فالقائد الذي يطوّر فريقه يبني مؤسسة مستدامة، أما من يحتكر القرار والمعرفة فيزرع الخوف ويقتل المبادرة. ولعل أخطر ما تواجهه بعض المؤسسات ليس نقص الموارد؛ بل غياب القائد الذي يُلهم لا الذي يوجّه فقط. القيادة التي تمنح الثقة وتفتح الباب أمام التجريب هي التي تُخرج الطاقات الكامنة وتحوّل العمل من التزام يومي إلى رسالة إنسانية.
ومع تسارع التحول الرقمي يتأكد أن رأس المال الحقيقي في المؤسسات ليس الأجهزة ولا الأنظمة، بل الإنسان القادر على استخدامها بذكاء؛ فالتقنية دون عقل بشري مبدع تبقى أدوات جامدة، بينما الإنسان المؤهل يحولها إلى قوة إنتاجية مضاعفة. لذلك فإن نجاح أي مبادرة رقمية يبدأ من تدريب الموظف وإعداده ذهنيًا ومهاريًا لتبنّي التغيير بثقة وكفاءة.
في نهاية المطاف.. قد تُشيَّد المشاريع طريقًا أو مبنى، لكنها لا تبني وطنًا ما لم يُبنَ الإنسان أولًا. فالعقول هي التي تدير الثروات، لا العكس. وكلما استثمرنا في المواطن، قلّت حاجتنا إلى تصحيح الأخطاء بعد وقوعها. وبناء الإنسان مشروع لا تنتهي مراحله؛ لأنه استثمار في الوعي والانتماء والمسؤولية قبل أن يكون في الوظيفة والمهارة؛ فالمباني بلا إنسان مؤهل تظل جدرانًا صامتة، أما المواطن المُمكَّن الواعي، فهو وحده القادر على أن يجعل من كل مشروعٍ قصةَ نجاحٍ جديدة لعُمان.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مطارات عُمان تدشّن خطة استعراضية للمطار الذكي
العُمانية: أعلنت مطارات عُمان اليوم بالتعاون مع شركة هواوي العالمية عن تدشين أول خطة استعراضية للمطار الذكي، وذلك في مطار مسقط الدولي.
يأتي التدشين ضمن خطة التحول الذكي في قطاع الطيران، وتأكيدًا نحو بناء مطارات أكثر ذكاءً وكفاءةً واتصالاً بالمستقبل، كما يجسّد التزام مطارات عُمان بالاستثمار في البنية الرقمية الذكية والتقنيات المستدامة التي تعزز موقع سلطنة عُمان كمركز إقليمي للابتكار في قطاع الطيران، وتدعم مسيرتها نحو بناء مطارات أكثر أمانًا وذكاءً وكفاءةً في خدمة المسافرين والمجتمع والاقتصاد الوطني.
وستسهم هذه التقنيات في تحسين تجربة أكثر من 40 ألف مسافر يوميًا عبر توفير شبكة مستقرة وسريعة في جميع مرافق المطار، بما في ذلك صالات الانتظار ومناطق إنهاء إجراءات السفر، إلى جانب رفع مستوى الأمن والسلامة من خلال المراقبة الذكية وتحليل البيانات الفورية.
وقال أحمد العامري الرئيس التنفيذي لمطارات عُمان: إن هذا التعاون مع شركة هواوي العالمية هو محطة محورية في مسيرة التحول الرقمي لمطارات عُمان، ويعكس الالتزام بتبنّي أحدث التقنيات التي ترتقي بتجربة المسافرين وتُعزّز كفاءة التشغيل.
وأضاف: "ما نشهده إعلان عن مرحلة جديدة تُعيد رسم مستقبل المطارات الذكية في المنطقة من أرض سلطنة عُمان، ووضعنا هدفًا واضحًا بأن تكون مطارات عُمان منصة ريادية للتقنيات المبتكرة، ومختبرًا لتطبيق الحلول الذكية التي تواكب تطلعات المستقبل وتسهم في استدامة قطاع الطيران".
من جانبه قال ديفيد شو الرئيس التنفيذي لشركة هواوي – عُمان: "هذه الشراكة الاستراتيجية مع مطارات عُمان خطوة نحو بناء مستقبل أكثر ذكاءً واستدامة لقطاع الطيران في سلطنة عُمان والمنطقة”.