مقاطعة بيلغورود الروسية.. المدينة البيضاء
تاريخ النشر: 2nd, September 2023 GMT
بيلغورود أو "المدينة البيضاء" هي مقاطعة إدارية تابعة لروسيا، تقع جنوب غربي البلاد بمحاذاة الحدود الشمالية الأوكرانية. تمتاز بموقعها الإستراتيجي بوسط أوروبا وإطلالتها على بحر البلطيق.
منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022 صارت خط إمداد وتحرك رئيسي للقوات الروسية وشكّلت بوابة لعبور الجنود الروس إلى خاركيف وشمال أوكرانيا.
يسميها من يحملون أصولا أوكرانية "بيلغورود" ويطلق عليه الشعب الروسي "بيلغراد"، وتعد جزءا من الاتحاد الفيدرالي المركزي، وتنقسم إداريا إلى 13 منطقة.
الموقع
تقع مقاطعة بيلغورود جنوب غربي روسيا، وتمتد على مساحة 27 ألف كيلومتر مربع، وتعد جزءا من المنطقة الاقتصادية الوسطى والمنطقة الاتحادية المركزية في الجنوب للاتحاد الروسي.
تحدها أوكرانيا من الجنوب والغرب، ومنطقة كورسك من الشمال، ومنطقة فورونيغ من الشرق. ويبلغ طول حدودها نحو 1150 كيلومترا، منها 450 كيلومترا مع أوكرانيا، وتشمل عدةَ مناطق منها لوغانسك وخاركيف وسومي في الشمال والشمال الغربي.
ومما يكسب المنطقة أهميتها الجغرافية تقاطعها مع أنهار كبيرة، أهمها دونيتس وسيفيرسكي وأوسكول، وتُميزها خطوط سكك حديدية وطرق سريعة تربط موسكو بالمناطق الجنوبية والغربية لروسيا وأيضا أوكرانيا.
وتعد مدينة بيلغورود المركز الإداري للمقاطعة، ولها أهمية عسكرية لوزارة الدفاع الروسية، لِكونها تُمثل خطَّ إمداد للقوات الروسية داخل أوكرانيا، ومكانا لتدريبات قوات الدفاع التابعة لها.
النظام السياسيلمقاطعة بيلغورود برلمان محلي ويضم 50 نائبا يتم انتخابهم لمدة خمس سنوات. وتعد حكومة مقاطعة بيلغورود السلطة التنفيذية العليا الدائمة في المنطقة، والحاكم هو أعلى مسؤول فيها، يتم انتخابه لمدة خمس سنوات من قبل المواطنين الروس الذين يقيمون بشكل دائم في المنطقة. ويعتبر ميثاق مقاطعة بيلغورود هو القانون الأساسي لها.
تقع المقاطعة على المنحدرات الجنوبية والجنوبية الشرقية للمرتفعات الروسية الوسطى، في منطقة سهوب ذات سهول جبلية عالية، يبلغ متوسط ارتفاعها 200 متر فوق مستوى سطح البحر في منطقة بروخوروفسكي، وأدنى نقطة تقع في الجزء السفلي من وديان أوسكول وسيفيرسكي دونيتس.
وتشكل الأنهار والبحيرات والمستنقعات حوالي 1% من أراضي مقاطعة بيلغورود، وهناك حوالي 480 من الأنهار يبلغ طولها الإجمالي نحو 5 آلاف كيلومتر مربع، بينما تغطي الغابات 9.8% من المساحة الإجمالية للمنطقة.
المناختتمتع بمناخ قاري معتدل، صيفها حار وطويل وشتاؤها بارد نسبيا، مع تساقط الثلوج وذوبان الجليد. بينما يتراوح متوسط درجات الحرارة السنوية من 5.4 درجات مئوية إلى 6.7 درجات مئوية.
ويعتبر الجنوب الشرقي أكثر دفئا في المتوسط من الشمال، ويتراوح متوسط درجة الحرارة في شهر يناير/كانون الثاني (الشهر الأكثر برودة) بين سالب 8 درجات مئوية وسالب 9 درجات مئوية.
ويعد الصيف فيها دافئا، ويتراوح متوسط درجة الحرارة في شهر يوليو/تموز (الشهر الأكثر دفئا) بين 19.5 و21 درجة مئوية.
يتجاوز عدد سكان مقاطعة بيلغورود مليونا ونصف مليون نسمة حسب إحصاءات عام 2022، وهم يمثلون 0.2% من مجموع سكان روسيا، وبذلك تحتل المقاطعة المرتبة 28 من حيث عدد السكان في البلد.
وفقا للتعداد السكاني الروسي لعام 2020، يشكل الروس 95.3% من السكان، بينما يمثل الأوكرانيون 1.2%، ويشكل الأرمن 0.4%، والأتراك 0.3%، ثم الأذريون 0.3%.
ووفقا لمسح عام 2012، فإن 50.5% من سكان مقاطعة بيلغورود، هم من الأرثوذكس الروس، و1.7% من المسيحيين الأرثوذكس غير الروس، و0.7% من الروم الكاثوليك، و8.6% من المسيحيين غير الروس، و0.6% مسلمون، فيما أعلن 22.2% من السكان أنهم "روحانيون" غير متدينين، و10.5% أنهم ملحدون.
أصل تسمية "المدينة البيضاء"يعني اسم بيلغورود "المدينة البيضاء" باللغة الروسية، وسميت بذلك لأنها كانت غنية بالحجر الجيري الأبيض. واشتق هذا الاسم من تسمية القبائل السلافية للمنطقة، التي كانت تعني قلعة بجدران مبنية من الحجر الأبيض، كما جاء في بعض الروايات التاريخية.
وقيل إن الاسم ارتبط بجبل بيلايا "الأبيض"، الذي يقع على المنحدرات التي بنيت عليها مدينة بيلغورود الأصلية، ولذلك كانت تعني "بلدة على جبل أبيض".
وجاء في دائرة المعارف الإسلامية المعربة، أن اسمها قديما كان "تیراس" أو "توراس" وهو اسم يوناني لمدينة يعود بناؤها إلى القرن 4 ق.م، وكانت تقع غرب خليج متفرع من نهر تيراس (دنيستر حاليا).
فيما كان يطلق عليها تجار البندقية في القرون الوسطى اسم "مارو كاسترو" أو "مون كاسترو"، وتعني القلعة السوداء، لكن المغول والتتار سموها في القرن الـ12 " آك- ليبو".
والراجح أن كلمة "آك" هي كلمة "آق" التركية التي تعني "الأبيض"، إذ جاء في قاموس الأعلام التركي أن المنطقة كانت قلعة تدعى "آق قرمان" وتكتب "آق كهرمان"، وهي مدينة في بساربيا الروسية، عند مصب نهر الينسي، ويعني الاسم "القصر الأبيض" أو "القلعة البيضاء".
وترجع المصادر الروسية تاريخ هذه التسمية إلى عام 1279م الذي سيطر فيه العثمانيون عليها، وكان ذلك في عهد السلطان العثماني بايزيد.
وتضيف أن اسم "آق کهرمان" ظلّ يطلق عليها في فترة الحروب العثمانية-الروسية عندما كانت خاضعة للقوات العثمانية، و"بيلغورود" بعد خضوعها للقوات الروسية.
التاريخ
تقول روسيا إن القبائل السلافية الشرقية أسست "بيلغورود" بين القرن العاشر والثاني عشر، ودمرت المدينة عام 1237م خلال الغزو المغولي لروسيا.
لكن المرجح في بعض الروايات الأخرى أن بيلغورود أنشئت لأول مرة عام 1593م، بأمر من القيصر فيودور الأول إيفانوفيتش لتكون حصنا حدوديا لروسيا. ثم أحرقت القوات البولندية الليتوانية هذه القلعة خلال فترة الاضطرابات في روسيا عام 1612م.
ثم أعيد بناء بيلغورود على الجانب الأيسر من نهر سيفرسكي دونيتس، ونقلت عام 1650م إلى الضفة اليمنى للنهر في الجزء المركزي، حيث يقع وسط المدينة حاليا.
في القرنين الـ17 والـ18، دمجت في مقاطعة "سلوبيدسكا أوكرانيا"، التي قسمت عام 1835م بين مقاطعات خاركيف وكورسك وفورونيغ، التابعة للإمبراطورية الروسية.
احتل الألمان المدينة عام 1943 خلال الحرب العالمية الثانية، ودمّرت بالكامل تقريبا، وفي صيف 1943 استعادتها القوات السوفياتية، وسميت منذ ذلك التاريخ بـ" بيلغورود دینیستروفسکي"، وأصبحت مركزا لمنطقة بيلغورود المنشأة في 6 يناير/كانون الثاني 1954.
وصارت مقاطعة منفصلة بموجب مرسوم صادر عن رئاسة مجلس السوفيات الأعلى، ومنذ تلك الفترة لم تتغير حدودها.
تعد مقاطعة بيلغورود واحدة من المناطق الصناعية والزراعية النامية في روسيا، إذ صنّفت من بين أفضل 10 مناطق روسية. وتتمتع تقليديا بعلاقات اقتصادية مع أوكرانيا، وعلى الرغم من مساحتها الصغيرة نسبيا، فإنها تمثل خمس قيمة التجارة بين روسيا وأوكرانيا.
يعتمد اقتصاد بيلغورود على احتياطيات الموارد الطبيعية (حوالي 40% من خام الحديد والبوكسيت والأباتيت والمياه المعدنية) والتربة السوداء الخصبة.
وتعد مدينة جوبكين (تأسست في ثلاثينيات القرن العشرين)، واحدة من أكبر أحواض تعدين خام الحديد في روسيا، كما تشتهر بإنتاج الذهب والغرانيت والمعادن النادرة الأخرى، ويعتقد أنها تشكل خزانا من البلاتين والهيدروكربونات والمعادن الأخرى، بفعل الخصائص الجغرافية التي تميزها.
كما تعتبر بيلغورود واحدة من المناطق الإدارية الأكثر تطورا من الناحية الزراعية في الاتحاد الروسي، إذ تغطي الأراضي الزراعية 61% من مساحتها، وتحتل المرتبة 12 من حيث إجمالي محصول الحبوب لعام 2021. وتعد من أكبر منتجي الماشية في روسيا.
وتتمتع تربة المنطقة بخصوبة طبيعية تشكل حوالي 80% من إجمالي مساحتها، وحوالي 90% من إجمالي مساحة الأراضي الزراعية عبارة عن تربة "تشيرنوزيم" الأكثر خصوبة في غابات السهوب ومناطق السهوب في روسيا.
بينما تشغل الغابات الطبيعية 12.5% من مساحة المقاطعة، ويقدر إجمالي احتياطيات الأخشاب بنحو 34.3 مليون متر مكعب.
في عام 2022، صدّرت منطقة بيلغورود الروسية ما قيمته 279 مليون دولار، ما يجعلها في المرتبة 23 بين أكبر المصدرين بين 85 مصدرا في روسيا، وما بين عامي 2021 و2022، بلغ نمو صادراتها 10.5 مليون دولار.
جامعة بيلغورود الحكومية: أقدم وأكبر الجامعات، أسست عام 1876م، وكانت معهدا تربويا في بداية تأسيسها، ثم تحولت لجامعة عام 1919م، وأطلق عليها اسم جامعة "بيلغورود التربوية" عام 1920، ثم جامعة "أومينسكوف" عام 1996، وتتميز بوجود 8 مبان أكاديمية ومتحفا.
متحف بيلغورود التاريخي: يعتبر المتحف المركزي للمقاطعة ويتضمن تحفا عن تاريخ وثقافة المنطقة، تأسس عام 1924، ثم دمّر خلال الاحتلال النازي للمدينة، ثم أعيد بناؤه داخل كاتدرائية التجلي عام 1973.
متحف بيلغورود للفنون: يعود تاريخه إلى عام 1970، يضم حوالي 3700 معروضا للرسم وفن الغرافيك والنحت والفن الزخرفي، وهي واحدة من أكبر مجموعات الأعمال الفنية من القرن الماضي والحاضر.
متحف "حقل بروخوروفكا": تأسس عام 1987، وهو عبارة عن لوحة فنية تمتد مساحتها لألف كيلو متر مربع وتمتد أفقيا لمساحة 500 متر، تمثل معركة كورسك التي وقعت في حقل بروخوروفكا يوم 12 يوليو/تموز 1943، بين جيش الدبابات الرابع التابع للفيرماخت الألماني، وجيش دبابات الحرس الخامس التابع للجيش الأحمر.
كما تستمر المعروضات إلى خارج المبنى حيث تعرض المعدات والتقنيات العسكرية التي استخدمت في حرب تعرف تاريخيا بمعركة الدبابة، وتعتبر أكبر معركة دبابات (أكثر من 1000 دبابة) في التاريخ العسكري.
متنزه "مدينة بيلغورود للديناصورات": غابة صنوبر بها بحيرة ومستنقع يحوي نماذج لديناصورات ثابتة وروبوتية بالحجم الطبيعي، ومسرح سينمائي ثلاثي الأبعاد، ومتحف ديناصورات به نسخ من الحفريات من أنحاء العالم.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
عقدة أوكرانيا.. لماذا فشل الغرب في هزيمة روسيا حتى الآن؟
في الساعات الأولى من صباح الرابع والعشرين من فبراير/شباط 2022، عندما تصاعد الدخان فوق سماء كييف وعبرت الدبابات الروسية الحدود، كان واضحا منذ اللحظات الأولى أن ثمة شيئا خطيرا سوف يتأثر به العالم كله. لم تكن تلك حربًا محدودة على إقليم متنازع عليه، بل كانت في جوهرها إعادة فتح حسابات الجغرافيا السياسية العالمية من قلب أوراسيا، حيث تتقاطع دائما أطماع القوى الكبرى، وتُختبر معادلات القوة.
مثلت الحرب اختبارا حاسما للنظام الدولي الذي وُلد على أنقاض الاتحاد السوفياتي. فمن جانب روسيا؛ لم تكن الحرب إلا محاولة لتصحيح ما تعتبره انكسارًا جيوسياسيًّا أصابها منذ نهاية الحرب الباردة، بعد فقدان مجالها الحيوي في شرق أوروبا. أما أوكرانيا، فتسعى للانفكاك النهائي من جاذبية المدار الروسي، وتحقيق حلم الانتماء الكامل إلى الغرب. وفي المنتصف، تقف الولايات المتحدة وأوروبا، أمام انقسام تاريخي حول تحديد الأولويات وتعريف الضرورات الأمنية لكل منهما.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ترامب والشرع.. ماذا تريد أميركا من سوريا؟list 2 of 2بعد اشتعال سماء السودان.. من ينتصر في حرب المسيرات؟end of listومنذ بداية الحرب؛ راهنت العديد من العواصم الغربية على أن مزيجًا من العقوبات الاقتصادية الصارمة، والدعم العسكري السخي لأوكرانيا، إلى جانب وحدة الموقف في حلف الناتو، سيكون كفيلًا بردع موسكو ودفعها إلى التراجع، أو على الأقل استنزاف قدراتها الإستراتيجية.
إعلانلكن مجريات الحرب، وما تبعها من تحولات ميدانية وسياسية، كشفت عن محدودية هذا الرهان، وأظهرت قصور الغرب عن تحقيق انتصار حاسم. وبعد أكثر من ثلاثة أعوام، أصبح واضحًا أن أسباب هذا الإخفاق لا تقتصر على العوامل العسكرية أو الميدانية، بل تعود إلى منظومة أعمق وأكثر تعقيدًا، تشمل الأبعاد الجيوسياسية والديموغرافية والإستراتيجية.
فرغم الضغوط المتواصلة، أظهرت روسيا قدرة ملحوظة على الصمود والمرونة في التكيف مع حرب طويلة الأمد، في حين واجه الغرب فجوة بين إمكاناته الهائلة وقدرته على تحويلها إلى نتائج ملموسة على الأرض. فما العوامل التي منعت الغرب من تحقيق الانتصار السريع على موسكو؟ ولماذا تدخل الحرب عامها الرابع وسط آمال محدودة في الوصول إلى اتفاقيات جزئية دون الوصول إلى اتفاق يحسم الأسباب الجذرية لاندلاع الحرب؟
بعد أكثر من ثلاثة أعوام من المواجهة الغربية لموسكو؛ تُسيطر روسيا الآن فعليًّا على ما يقارب 20٪ من الأراضي الأوكرانية، بما يشمل شبه جزيرة القرم التي ضمّتها عام 2014، وأغلب أراضي المناطق الأربع: لوغانسك، ودونيتسك، وزاباروجيا، وخيرسون، التي أعلنت موسكو ضمها بعد بدء الغزو في 2022.
هذه المكاسب الميدانية ترافقت مع تغيّر سياسي لافت، تجسّد في مقاربة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي تتبنى سياسة أكثر براغماتية وأقل حدة، وتُجري مفاوضات مباشرة مع موسكو بهدف وقف الحرب، حتى وإن تطلّب الأمر الإبقاء على المناطق التي خسرتها أوكرانيا تحت السيطرة الروسية.
في بدايتها، بدت الحرب محاولة لاجتياح سريع من جانب روسيا، لكنها ما لبثت أن تحوّلت إلى حرب استنزاف طويلة الأمد. وفي هذا النوع من الحروب، يصبح الانتصار مرهونا بعاملين رئيسيين: القدرة على القتال، وإرادة الاستمرار فيه، كما يقول المؤرخ الأميركي المتخصص في الشأن الروسي، ستيفن كوتكين.
ولا تُقاس القدرة على القتال بما تملكه الدولة من دبابات أو مقاتلات أو طائرات مسيّرة فحسب، بل بما تستطيع إنتاجه بشكل مستمر عبر مجمّعها الصناعي، وعدد خطوط إنتاجها، وعمال مصانعها، وتحالفاتها الخارجية.
وقد زادت روسيا ميزانيتها العسكرية إلى أكثر من 6٪ من ناتجها المحلي في 2024، بعد أن كانت 3.9٪، مما يُعد مؤشرًا واضحًا على نيتها مواصلة القتال. كما أمر الرئيس بوتين في سبتمبر/أيلول من العام نفسه بزيادة عدد الجيش بنحو 180 ألف جندي، ليصل إلى 1.5 مليون، وهي التوسعة الكبرى الثالثة له منذ بدء الحرب.
إعلانوعلى عكس الحالة الروسية، يعاني الجانب الأوكراني من هشاشة القدرة على القتال واستنزاف تدريجي في الإرادة القتالية، نظرًا إلى اعتماده المفرط على الإمدادات الغربية. فجُلّ العتاد العسكري الأوكراني مصدره الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وهو ما يجعل قدرة كييف على مواصلة الحرب مرتبطة بشكل مباشر بإرادة الشركاء الغربيين ومدى التزامهم.
لكن هذه الدول، رغم كثافة الإمدادات، لم تُطوّر خطوط إنتاج جديدة كافية لتعويض ما ترسله إلى أوكرانيا. وكانت المخزونات الأوروبية في الأصل محدودة، في حين لا يزال إنتاج الذخائر، وخصوصًا المدفعية منها، يسير بوتيرة أبطأ من وتيرة الاستهلاك في جبهات القتال.
وفي مؤشرات واضحة على هذا الاستنزاف، لجأت الولايات المتحدة إلى استدانة ذخائر من كوريا الجنوبية، رغم القيود الدستورية التي تمنع سول من تصدير الأسلحة إلى مناطق النزاع. كما اضطرّت واشنطن إلى تزويد أوكرانيا بذخائر عنقودية محظورة في الدول الأوروبية، وسبق أن تحفّظت الولايات المتحدة نفسها على استخدامها.
كل ذلك يعكس هشاشة البنية العسكرية الذاتية لأوكرانيا، وعجزها عن مواكبة متطلبات الحرب دون دعم خارجي مباشر. كما يُبرز محدودية الإرادة الغربية في تحويل المعركة إلى مواجهة شاملة وطويلة الأمد، في ظل تزايد الضغط السياسي الداخلي في الغرب، وشعور الناخبين بالإرهاق المالي والعسكري من حرب لا أفق لنهايتها.
الجغرافيا تقاتل مع روسياتُعد روسيا أكبر دولة مساحة في العالم، بامتداد جغرافي يبلغ نحو 17 مليون كيلومتر مربع، مما يمنحها قدرة استثنائية على المناورة الإستراتيجية من أوروبا الشرقية إلى سواحل المحيط الهادي. وهي تتشارك حدودًا برية أو بحرية مع 16 دولة، بعضها من الحلفاء النوويين، وأبرزهم الصين، ثاني أقوى قوة اقتصادية وعسكرية في العالم، بحدود يصل طولها إلى 4200 كيلومتر، إضافة إلى كوريا الشمالية، ثم إيران التي لا تشترك مع روسيا بحدود برية، لكنها ترتبط بها جغرافيًّا عبر بحر قزوين، وهو امتداد إستراتيجي لا يقل أهمية عن الحدود البرية من الناحية اللوجستية.
إعلانومن ثم فلا يمكن إغفال الدور المحوري الذي أدته الجغرافيا في تعزيز قدرة روسيا على الصمود في وجه الحصار الغربي. فالدول المجاورة لها مباشرة، مثل الصين وكوريا الشمالية ومنغوليا، أو تلك التي ترتبط بها عبر حدود وسيطة، وفّرت لها دعمًا متنوعًا، سواء عبر الإمداد المباشر أو عبر توفير نقاط عبور إستراتيجية، بدوافع تتراوح بين المصالح الذاتية والعداء للغرب. هذا الامتداد الجغرافي الواسع، الذي يشمل قلب أوراسيا، يجعل من المستحيل عمليًّا فرض حصار شامل وفعّال على روسيا.
ورغم أن بعض هذه الدول ليست داعمة لروسيا بشكل كامل، فإن امتناعها عن المشاركة في العقوبات الغربية، واحتفاظها بعلاقات اقتصادية وتجارية مع موسكو، يجعلها فعليًّا "حليفة بحكم الجغرافيا"، وكان التجلي الأبرز لهذا العمق الجغرافي هو مشاركة كوريا الشمالية بأكثر من 10 آلاف مقاتل لإسناد الجيش الروسي في الدفاع عن كورسك.
منذ الأيام الأولى للحرب، خيّم شبح الخوف من التصعيد النووي على كل قرارات الغرب في معايرة الردود الممكنة على موسكو. وعلى الرغم من الإدانات والعقوبات والدعم العسكري الغربي الواسع لكييف، بقيت هناك "خطوط حمراء غير مرئية" تقيّد السلوك الغربي، لمنع وقوع الخطر النووي.
تمتلك روسيا ثاني أكبر ترسانة نووية في العالم، وأكثر من 6 آلاف رأس نووي. ومنذ بداية الحرب، لمّح الرئيس فلاديمير بوتين ومسؤولون روس إلى إمكانية استخدام السلاح النووي في حال "تهديد وجودي". هذا التهديد، وإن لم يكن صريحا، أجبر صناع القرار في واشنطن وبروكسل على التعامل مع موسكو بوصفها قوة ذات "حواجز خطيرة".
وكانت النتيجة: لم تُستهدف المصانع، ولا المنشآت العسكرية العميقة، ولا البنية التحتية داخل روسيا، رغم أنها تمدّ على جبهات القتال. لم تواجه روسيا أي قصف عميق داخل أراضيها كما حصل مع ألمانيا النازية أو صربيا في الحروب السابقة، مما منحها حرية نقل السلاح والجنود بأمان داخل أراضيها، والإنتاج العسكري المستمر في مصانع بعيدة عن الجبهات.
إعلانفي المقابل، لم تتمتع أوكرانيا بهذا العمق الإستراتيجي، حيث كانت بنيتها التحتية هدفا مستمرا للقصف الروسي، مما وضعها في موقع دفاعي دائم.
وإجمالا يمكن القول بأن الخوف من الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع قوة نووية، قيّد خيارات الدول الغربية. فالولايات المتحدة والناتو كلاهما رفضا إقامة منطقة حظر جوي، أو إرسال قوات برية، أو تسليم أوكرانيا صواريخ بعيدة المدى (في بداية الحرب) لضرب العمق الروسي. وحتى حين قدّمت واشنطن لكييف صواريخ طويلة المدى (ATACMS)، فرضت شروطا صارمة بأن لا تُستخدم داخل الأراضي الروسية.
ربما كان توقع التهديد النووي مبالغا فيه، لكن احتمال استخدامه ليس صفرا، ويبدو أن بوتين راهن على أن مجرد التهديد بالغموض النووي كاف لشل إرادة الغرب في بعض الاتجاهات، وقد نجح.
راهنت أوروبا والولايات المتحدة على "سلاح العقوبات" ليكون أداة فعالة تؤدي إلى تدمير الاقتصاد الروسي وإلحاق الهزيمة بموسكو، غير أن الواقع وأرقام الاقتصاد الروسي يرويان حكاية مختلفة تثبت فشلا واسعا لرهانات الغرب، وتكشف الكثير من مواطن الخلل في توظيف ذلك السلاح.
مع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الرابع، ورغم 16 حزمة من العقوبات الغربية، نما الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 4.1 بالمئة في عام 2024، مقارنة بـ 3.6 في المئة في العام السابق له، بعد أن وصل إلى حدود -1.3 في المئة عند بداية الحرب.
ورغم العقوبات الواسعة، نجحت روسيا في التحايل على القيود التجارية عبر بيع النفط بطرق غير رسمية، إلى جانب تصدير النيكل والبلاتين والغاز الطبيعي إلى دول مثل الصين والهند.
وسمحت هذه الإيرادات بتمويل المجهود الحربي وتعزيز الإنفاق الحكومي، رغم ارتفاع التضخم إلى 9.5 في المئة وفوائد الإقراض إلى 21 في المئة لكبح التضخم، كما ذكر تقرير لشبكة "سي إن إن" الأميركية في فبراير/شباط 2025.
إعلانكما استمرت المصانع الروسية في الحصول على المواد الخام والتكنولوجيا اللازمة للإنتاج العسكري، مما مكّن الدولة من مواصلة الحرب دون أزمات مالية كبيرة، بحسب صحيفة الغارديان البريطانية.
في محاولة للحد من الأرباح الروسية من النفط، أعلنت مجموعة السبع أن شركات التأمين والسفن الغربية يمكن استخدامها فقط عند شحن النفط بسعر 60 دولارًا أو أقل. لذلك طورت روسيا شبكة جديدة من السفن من أجل الالتفاف حول القيود ومواصلة الشحن إلى الصين والهند، وفق شبكة "سي إن بي سي" الأميركية.
وبحسب المجلس الأطلسي الذي يتتبع تأثير العقوبات، تنقل روسيا 71 بالمئة من صادراتها من النفط عبر "أسطول شبحي" يجري إخفاء أصول ملكيته. كما أظهرت بيانات "Windward" في سبتمبر/أيلول 2023 أن هناك 1400 سفينة اسُتخدمت لنقل النفط الروسي في تحدٍّ للعقوبات الغربية، والعديد منها يبحر دون تأمين.
وأشار المجلس الأطلسي أيضا إلى أن معظم البنوك الروسية مستمرة في الوصول إلى نظام سويفت (خدمة مراسلة تربط المؤسسات المالية حول العالم) بما يمكنها من إجراء المعاملات الدولية وتسوية المدفوعات العابرة للحدود.
التوجه الأميركي نحو الصين وأولويات أوروبية أخرىخلال العقد الماضي على الأقل؛ اعتُبر احتواء صعود الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادي، والصراع المحتمل حول تايوان، أولويات قصوى للولايات المتحدة. ورغم أن واشنطن دعمت أوكرانيا بشكل واسع عسكريا واقتصاديا، فإن الصراع مع روسيا لم يكن أولوية إستراتيجية أميركية عليا، مقارنة بالملف الصيني، حيث تبرز الصين بمنزلة قوة التحدي الأولى للنظام الدولي بقيادة واشنطن.
وبخلاف كوريا الجنوبية، واليابان، وتايوان (ضمنيا)، ودول الناتو، فإن أوكرانيا لا ترتبط باتفاق دفاعي ملزم مع الولايات المتحدة. لذا فإن الدعم الأميركي لها، رغم أهميته، يظل محدودا بطبيعة المصالح الإستراتيجية الأميركية الأشمل، مما جعله أقرب إلى التضامن السياسي والمساعدات العسكرية المشروطة، وليس التزاما وجوديا.
إعلانوبصرف النظر عن القدرة الاقتصادية والعسكرية الأميركية الهائلة، فإن القيادة السياسية لا يمكنها خوض صراعات كبرى متعددة أو تمويلها في وقت واحد. التصعيد في تايوان، أو مواجهة مباشرة مع الصين، سيكون كل منهما أكثر تعقيدا وأهمية جيوسياسية من الحرب في أوكرانيا، أيا كانت نتائجها. وهذا ما يجعل صنّاع القرار الأميركيين يوازنون بين دعم أوكرانيا، وحشد الإمكانات لكبح نفوذ الصين.
ويبدو أن واشنطن أدركت مؤخرا أن استمرار الحرب الأوكرانية سيكون صراعا مفتوحا يستنزف طاقات الولايات المتحدة ويضعف قدرتها على التركيز على أولوياتها البعيدة المدى، ويُهدد بإيجاد حالة "إرهاق إستراتيجي" داخلي، سياسي وشعبي، قد تؤثر في التزامات واشنطن اتجاه تايوان أو تحالفاتها في آسيا.
وفضلا عن واشنطن؛ ظهرت في بعض الدول مثل ألمانيا، وفرنسا، وهنغاريا، وسلوفاكيا، قوى سياسية تشكك في جدوى استمرار دعم أوكرانيا، كما تصاعدت أصوات من تيارات يمينية وشعبوية تقول: "هذه ليست حربنا"، أو "لماذا نمنح أوكرانيا مليارات الدولارات بينما نعاني داخليًّا؟". وفي المقابل، تدعو دول أخرى، مثل دول البلطيق وبولندا، إلى هزيمة عسكرية واضحة لروسيا، معتبرة أن أية تسوية ستعطي روسيا فرصة لاستعادة نفوذها الإقليمي.
هذا التردد الإستراتيجي والانقسام حول تفسير الحرب وحدود الموقف المفترض، أظهر المعسكر الغربي مؤخرا بصورة المنشق الباحث عن مخرج، وهي صورة بكل الأحوال تغري بوتين في استمرار ممارسة الضغوط العسكرية، واستمرار الضغط على نقطة ضعف ترامب التي يدركها جيدا وهي أنه لا يريد هذه الحرب.
موسكو مستعدة لدفع الأثمان"بدون أوكرانيا، تتوقف روسيا عن أن تكون إمبراطورية"
مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيغنيو بريجنسكي في مقال لفورين أفيرز عام 1994
بحسب بريجنسكي ومنظرين آخرين؛ كان استقلال أوكرانيا ضربة قاسية وجهت إلى صميم مكانة موسكو الإمبراطورية، ولا تزال النخبة الأمنية في موسكو منذ ذلك الحين تعتبر استقلال أوكرانيا وضعية شاذة تاريخيا وخطرا يهدد مكانة روسيا بوصفها قوة عظمى.
إعلانومن ثم؛ حين أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا بعد سنوات من بدء زحف الناتو شرقا منذ قمة بوخارست عام 2008 التي فتحت الباب لمناقشة انضمام جورجيا وأوكرانيا للحلف، كان بوتين يدرك أنه يقوم بإعادة تصحيح التاريخ وإيقاف تدهور مكانة الأمة الروسية، ويعني هذا أن سقفا عاليا من الخسائر يمكن تحمله في سبيل هذه المغامرة التاريخية.
على الصعيد الجيوستراتيجي، يرى الإستراتيجيون الروس أوكرانيا منطقة عازلة ضرورية لحماية العمق الروسي من أي اعتداء غربي محتمل. لقد عانت روسيا تاريخيًّا غزوات مدمرة جاءت عبر السهل الأوكراني -من حملة نابليون في القرن التاسع عشر إلى اجتياح هتلر في الحرب العالمية الثانية- ولذلك ترسَّخ في الوعي الإستراتيجي الروسي أن غياب السيطرة أو النفوذ في أوكرانيا يفتح الباب أمام تهديد وجودي لا يمكن تحمله أو التعايش معه.
ورغم أن حلف الناتو لم يكن يخطط فعليًّا لشن حرب على روسيا، فإن منطق الجغرافيا السياسية يفترض دائما التحسب للسيناريو الأسوأ. فبدون أوكرانيا في فلكها، تفقد روسيا عمقها الإستراتيجي، وتتراجع خطوط دفاعها إلى حدودها المباشرة بشكل خطير. في حال التحقت أوكرانيا بحلف الناتو، يمكن لصواريخ الحلف أن تُنْصَب على مسافة لا تزيد على 200 كيلومتر من سان بطرسبرغ.
وإلى جانب الهاجس الأمني، ثمة بُعد تاريخي وهوياتي يحكم نظرة موسكو لأوكرانيا. كثيرًا ما عبّر بوتين وغيره من كبار المسؤولين الروس عن اقتناع مفاده أن الروس والأوكرانيين "شعب واحد" تربطه جذور تاريخية ودينية عميقة، هذه الرؤية لا تعتبر أوكرانيا مجرد دولة جارة، بل تراها مكوّنًا جوهريًّا من "العالم الروسي"، وهي رؤية ثقافية وحضارية ترتكز على ثلاثة أعمدة: روسيا، وروسيا البيضاء، وأوكرانيا. وفق هذا المنظور، تُعتبر كييف مهد الحضارة السلافية الشرقية، حيث وُلدت "كييف روس" في القرن التاسع الميلادي، ويرى القوميون الروس أنها الجذر التاريخي للدولة الروسية الحديثة.
إعلانهذه الاعتبارات هي التي دفعت بريجنسكي وآخرين منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك أوروبا الشرقية إلى القول بأن بقاء أوكرانيا على الحياد ضرورة لمنع استفزاز روسيا، وأن أي محاولة لضم أوكرانيا للناتو ستمثل ضغوطا هائلة على الوعي القومي والإستراتيجي الروسي لن يمكنه تحملها. لكن لسبب غير مفهوم بدقة؛ وبعد سنوات طويلة من عقلنة محاولات تحجيم موسكو، غامرت الولايات المتحدة والناتو بتجاوز الخطوط الحمراء المستقرة في نظام ما بعد الحرب الباردة، وهي المغامرة التي لم تخرج منها بعد.