بغداد اليوم -متابعة

استعرض تقرير صحفي مصير وتاريخ التماثيل في العراق على امتداد الزمن، حيث تحاصر السياسة وضعف الخبرات في الترميم، التماثيل والنصب المختلفة التي يضمها العراق.

ويشير التقرير الذي تابعته "بغداد اليوم"، الى أن "المنحوتات والتماثيل الجزء الأساسي في ما تركته حضارة وادي الرافدين من فنون، إذ قدمت حضارات العراق القديم التي برزت في الألف الثالث قبل الميلاد تحت ظل السومريين والأكديين وبلغت أوجها في الألفين الثاني والأول قبل الميلاد أيام البابليين والآشوريين، الأسس لفنون تناقلت عبر الزمن".

ولعل جذور النحت في حضارة العراق يعود إلى أوائل الألف السادس قبل الميلاد مع بداية العمارة الدينية العراقية في تل الصوان (في سامراء) وأريدو (جنوب غربي ذي قار) لتجسد كثيراً من المنحوتات شخصيات الملوك الذين تعاقبوا على حكم هذه الحضارات.

وتربط التماثيل والنصب بالمراحل السياسية المتعاقبة، فكل نظام سياسي يرغب أن يسخر الفن ليجسد انتصاراته وأيديولوجياته عبر تماثيل تشخص في الساحات العامة، وغالباً ما تتعرض هذه التماثيل إلى الهدم بعد انتهاء كل مرحلة سياسية.  

بعد عام 2003 قررت لجنة اجتثاث البعث إزالة كثير من التماثيل تحت ذريعة أنها تمثل النظام السابق، فقد أزيل تمثال الطيار (عبدالله لعيبي) الذي كان شاخصاً بالقرب من المسرح الوطني، حيث يجسد التمثال طياراً يقف على حطام طائرة، وتعود قصته إلى مرحلة الحرب العراقية – الإيرانية، فبعد نفاد عتاد هذا الطيار ومشاهدته اقتراب طائرة الخصم من هدفها في محافظة السليمانية، وجه لعيبي طائرته لتصطدم بالطائرة الإيرانية ونجح في منعها من الاقتراب إلى الأراضي العراقية.

كما أزيل نصب المسيرة وهو من تصميم الفنان خالد الرحال، ويقع في ساحة المتحف ويضم النصب مجموعة من التماثيل المتداخلة التي تتخذ في النهاية شكل ملحمة تظهر فيها بداية الحضارة في وادي الرافدين وشخوص مثل كلكامش لتختم وتجسد مرحلة حزب البعث العربي الاشتراكي.

لا يحضر الجانب السياسي في هدم التماثيل والنصب فحسب، بل إنه يصل إلى التشويه المتعمد كما هي الحال في نصب قوس النصر الذي يقع في ساحة الاحتفالات، فكان يضم على جانبيه خمسة آلاف خوذة لجنود إيرانيين، وهي خوذات حقيقية جمعت من ساحات المعارك التي دارت بين البلدين في فترة الحرب العراقية الإيرانية وبعد عام 2003 أزيلت بالكامل.

وكانت هناك محاولات لهدم نصب الشهيد الذي أنجز في ثمانينيات القرن الماضي تخليداً لذكرى الذين ارتقت أرواحهم خلال الحرب العراقية – الإيرانية، ونصب الشهيد من تصميم المهندس المعماري العراقي سامان أسعد كمال، أما القبة الخاصة به، التي بنيت على الطراز العباسي فهي من تصميم الفنان التشكيلي العراقي إسماعيل فتاح الترك، وتكمن عبقرية هذا البناء في الخداع البصري الذي يحققه النصب المقام على أرض مفتوحة مترامية الأطراف، فالنصب مشيد بأكمله وسط بحيرة صناعية واسعة ويتألف من ثلاث وحدات أساسية هي القبة والراية التي تمثل الشهيد العراقي والينبوع الذي يمثل ديمومة التضحية من أجل الأرض.

السياسة تتربص للفن 

يبدو أن أي سلطة سياسية في العراق تضيق ذرعاً من الماضي فتحاول إلغاء الرموز الفنية التي تجسد المرحلة التي سبقتها، وسردت بلقيس شرارة، زوجة المعماري العراقي رفعة الجادرجي، في كتابها "هكذا مرت الأيام"، تفاصيل هدم النصب التذكاري للجندي المجهول في عام 1982، وقد أنشئ في عام 1959 تخليداً للجنود المجهولين الذي ضحوا بأرواحهم، فتقول "كانت خيبة رفعة الجادرجي كبيرة ومؤلمة عندما أمر الرئيس صدام حسين بهدم نصب الجندي المجهول الذي كلفه بتصميمه رئيس الوزراء عبدالكريم قاسم في عام 1958 بساحة جميلة تحيطها أبنية مهمة من جامع وفنادق، حيث أطفئت الشعلة التي كانت تنير النصب وربما رفع رفات الجندي المجهول من تحته". 

يرى النحات أحمد البحراني أن "كل حكومة تحاول أن تلغي ملامح نتاج الحكومات السابقة وبخاصة في الأعمال الفنية التي تخدم فكر وسياسة الدولة، لذلك نجد أن هناك إلغاء وتدميراً متوالياً بين الحكومات، وما يبقى فقط هو بعض الأعمال الفنية المرتبطة بالفن الحقيقي".

تاريخ لمراحل مهمة 

غالباً ما تؤرخ التماثيل مرحلة تاريخية مرت على العراق، فمع دخول القوات البريطانية كانت هناك تماثيل تجسد قادة بريطانيين كما هي الحال مع تمثال الجنرال مود، وهو الجنرال الإنجليزي الذي دخل مع قواته مدينة بغداد في 11 مارس (آذار) 1917 بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى، وأقيم التمثال أمام السفارة البريطانية في منطقة الشواكة عام 1923 وحطم في يوم 14 يوليو (تموز) عام 1958، كما كان هناك تمثال للقائد الإنجليزي لجمن وهو يرتدي الملابس العربية وكان مقاماً أعلى منارة القشلة التاريخية وأزيل من مكانه عام 1958.

إلى ذلك يرى النحات ميخائيل ثابت أن أي إلغاء للنصب والتماثيل هو محاولة لتشويه مسيرة الفن، قائلاً "كل انقلاب سياسي يحاول أن يمحي آثار من سبقه ظناً منه أنه يمسح ذاكرة الأجيال التي قد تؤثر في مساره التاريخي، متناسياً أنه بهذا الفعل قد شوه مسيرة الفن والجمال والنتاج الفني لبلد يحمل موروثاً تاريخياً متفرداً".

أما الفنان والنحات مازن منذر فيرى أن النصب تمثل حكاية لفترة تاريخية من حياة العراقيين، فهي تؤرخ وتوثق المراحل التي مرت على العراق، ولا بد من الحفاظ عليها وليس إتلافها، ومن الأجدى نقلها للمتحف الوطني لتعرف الأجيال تاريخ البلاد من خلال هذا الفن وما جسده من مراحل تاريخية. 

صيانة تفتقر للاحترافية

أغلب التماثيل والمنحوتات في العراق تقاوم عوامل البيئة وتبقى صامدة، وهي تلك المصنوعة من خام البرونز والحجر والمرمر ومنها ما تكون هشة لا تقاوم، وهي المصنوعة من المواد الجبسية والأسمنت، وتبقى التماثيل البرونزية هي التي تقاوم عوامل الزمن بسبب خاصية التأكسد التي يتمتع بها عنصر البرونز فتبقى الأعمال المنحوتة محافظة على جمالياتها، ولا تحتاج سوى لصيانة دورية بسبب المتخصصين في فن النحت.

يرى النحات ميخائيل ثابت أن عمليات الصيانة والترميم بحاجة إلى كادر متخصص في هذا المجال لإعادة العمل النحتي إلى رونقه، منوهاً بأن العراق يفتقد لهذا التخصص وإن وجد فخبرته لا تتماشى مع أساليب الصيانة التي وصلت إليها الدول المتطورة في هذا المجال، مردفاً "عندما اجتاح تنظيم داعش الموصل أزال جميع النصب والتماثيل، وعندما تحررت المدينة أعادت البلدية النصب من دون الاهتمام بها، فبدلاً من البرونز صبت بالأسمنت وبأيادي نحاتين لا خبرة لهم بسابقاتها من الأعمال فجاءت الأعمال ركيكة وهزيلة".

عمليات ارتجالية 

يرى النحات أحمد البحراني أن معظم عمليات الصيانة للأنصاب والتماثيل "ارتجالية غير علمية وغير مدروسة"، معتبراً أن الدولة لم تعط مسألة الترميم والصيانة اهتماماً حقيقياً، مشيراً إلى أن هناك أعمالاً فنية لكبار فناني العراق وبخاصة الجداريات التي صنعت من مادة السيراميك والفسيفساء تكاد تكون اليوم في آخر مراحلها من الضياع. 

وفي السياق نفسه يرى التشكيلي عمرو الريس أن المرممين ليسوا من أهل الحرفة، وأن أصحاب الخبرة هاجروا، ولذلك فإنه "من الأفضل الاستعانة بشركات متخصصة لأن صيانة التماثيل علم قائم بذاته"، منوها بأن هناك عمليات ترميم أدت إلى تشويه بعض النصب وتغيير الألوان الحقيقية كما هي الحال مع الترميم الذي حصل في نصب ساحة النسور ونصب كهرمانة. 

يوضح الأستاذ المتمرس في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، جبار محمود العبيدي، أن بغداد تحديداً في حاجة إلى نصب فنية تليق بهذه المدينة العريقة لكن بشرط أن تكون مقترحة من نحاتين ذوي اختصاص دقيق وتجارب إبداعية متفردة. ويرى ضرورة استحداث منصب "خبير بالنصب النحتية" أو هيئة خبراء في دوائر أمانة بغداد لكي تكون لها الكلمة الفصل في مدى جودة مقترحات النصب النحتية في بغداد، وكذلك الحال تنطبق على المحافظات الأخرى. 

اختفاء الساحات العامة 

مع اتساع مساحات المدن بطريقة عشوائية بدأت الساحات العامة بالاختفاء وحل محلها الجسور والطرق، وفي هذا السياق يشير الفنان والنحات مازن منذر، إلى أن تمثال ساحة النسور معرض للخطر بسبب أعمال البناء القائمة حالياً، قائلاً "لا بد أن تولي الجهات القائمة على هذا المشروع الاهتمام لهذا التمثال ومحاولة نقله إلى مكان آخر خشية تعرضه للضرر".

وتمثال ساحة النسور أنشئ في عام 1969 من تصميم الفنان ميران السعدي، ويرتكز النصب على قاعدة نصف كروية يبلغ ارتفاعها مترين، تعلوها كتلة حديدية تمثل وجهاً عربياً ملثماً، أما الوجه الآخر فيمثل وجه فتاة عربية تعلوها مجموعة من النسور التي ترمز للقوة.

يقول أستاذ علم الجمال إتيين سوريو، إن لكل زاوية من زوايا التمثال هناك جوانب جمالية تستند إلى زاوية النظر، فلا بد أن يكون النحات قد تنبأ بهذه الجوانب المختلفة وأنشأ بينهما رباطاً قوامه علاقات من نوع خاص، وأداتها ووسيلتها المادية هي كتلة المرمر أو البرونز، فالمتفرج لا يستطيع أن يرى هذه الجوانب المختلفة إلا من خلال تتبع كل جانب تلو الآخر، فحركة المتفرج حول التمثال من شأنها أن تجعل التمثال يتبدى كما يتبدى اللحن الموسيقي.

بهذا الرأي الفني يرى سوريو فكرة كيفية تجسيد جمالية العمل النحتي وبخلافه لن ينتمي المنحوت إلى المكان بل ربما يشكل ظاهرة للتلوث البصري. وقد ازدادت في الآونة الأخيرة في العراق ظاهرة إنشاء نصب وتماثيل بعيدة عن روح الفن والإبداع فكانت محلاً للسخرية والتهكم، وفي هذا السياق يرى النحات (مجيد الصباغ) أن هذه التماثيل نفذت من قبل أياد غير أكاديمية ومن جهات لا تعرف معنى الفن.

 وفي السياق نفسه يرى النحات أحمد البحراني أن هذه الظاهرة هي طبيعية كونها تمثل نتاجاً للوضع العام الذي نعيشه اليوم، لأن الفن هو نتيجة ما يدور حوله من نشاط إنساني وكذلك عندما يكون صاحب القرار الذي يتحكم بالفن لا يمتلك الأساسات التي تؤهله لأخذ القرارات تكون النتائج وخيمة وتسيء للفن التشكيلي والمشهد العام. 

غياب الدعم المالي

يرى التشكيلي عمرو الريس أن أسباب كثرة الأعمال النحتية التي كانت مدعاة للسخرية هي قلة الدعم المالي المقدم للنحات وهذا بدوره يؤدي إلى عدم استخدام مواد للنحت تمنح العمل الفني جمالية، إضافة إلى أن معظم الأعمال تمنح لشباب هواة لا يحملون التخصص العلمي


المصدر: اندبندنت عربية

المصدر: وكالة بغداد اليوم

كلمات دلالية: فی العراق من تصمیم فی هذا فی عام

إقرأ أيضاً:

عن الحديث المتجدد لموت السياسة

تُعرّف "السياسة"، بما هي كذلك، بأنها "فن الممكن" أو "فن تدبير الاختلاف"، أي الممارسة المحكومة بالواقع لا الموجهة بالرغبة. بيد أن "السياسة" قبل كل شيء، تستمد شرعيتها من التفكير في قضايا الجماعة، أي في المشترَك الذي ينذر الحزبُ نفسَه للدفاع عنه، والسعي إلى تحقيقه إن هو تمكن من الإمساك بمفاصل السلطة.

والحال أن السياسة، بما هي عمل بشري عاقِل، تغدو عديمة الجدوى حين تتنكر لهذه الروح: روح الانتصار لقضايا الجماعة السياسية، وتنتصر، في المقابل، للنزوات الذاتية أو التطلعات الشخصية، فعينُ العقل في السياسة تتحدد في قدرة الناس، والنخبة القائِدة على وجه التحديد، في الموازنة بين متطلبات التعاقد المؤسس لفكرة الحزب، وجموح الأفراد واندفاعهم اللامتناهي أحيانا في اعتماد الحزب جِسرا نحو التميز الذاتي والكسب الشخصي.. إنه الفرق الفاصِل بين "موت السياسة" وبين استمرارها حية، متقدة، وفاعِلةَ.

ودرءا لأي التباس في الفهم، نشير إلى أنه ليس ثمة ضير في أن يطمح الناس، فُرادى وجماعات، إلى تحسين أوضاعهم داخل المؤسسة الحزبية، غير أن طموحهم يغدو غير مشروع حين يسخّرون الحزب لفائدة جماعة تَدين بالولاء لهم، وهو ما يلاحظ في العديد من أحزابنا العربية.. ومن المفارقة اللافتة أن يتعايش في الأحزاب منطقان: منطق الدعوة إلى دَمقرطة الدولة ومؤسساتها، ومنطق مقاومة الدمقرطة داخل هذه الأحزاب ذاتها، أو فيما بينها.. من المفارقة اللافتة أن يتعايش في الأحزاب منطقان: منطق الدعوة إلى دَمقرطة الدولة ومؤسساتها، ومنطق مقاومة الدمقرطة داخل هذه الأحزاب ذاتها، أو فيما بينها.. ومن رحِم هذه المفارقة يمكن تفسير المآلات التي انتهت إليها العديد من الأحزاب العربية، والمآزق التي تلُف حالها ومستقبلَهاومن رحِم هذه المفارقة يمكن تفسير المآلات التي انتهت إليها العديد من الأحزاب العربية، والمآزق التي تلُف حالها ومستقبلَها.

تتجسد روح السياسة في "العقلانية" التي تحكمها فكرا وممارسة، والعقلانية ليست شيئا آخر سوى إعمال العقل في ما نقدّر أنه الصواب في التفكير في حال الجماعة ومآلها، وما نعتبره تربية سليمة في توجيه السلوك وإرشاده إلى ما يخدم الجماعة السياسية لا إلى ما يضر أبناءها، أو يناقِض أهدافَهم وتطلعاتهم، وكي تتحقق العقلانية، أي روح السياسة، يحتاج الفاعلون السياسيون وفي صدارتهم الأحزاب، إلى حزمة من القيم، هي ما يشمل عمليا الثقافة الناظِمة للتفكير والممارسة على حد سواء.

لعل الحوار المفتوح، الحر والشفاف، هو أول لبنة في إدخال العقلانية في معمارية السياسة، بحسبها فنا لتدبير الاختلاف وترشيد التنازع حول المصالح. فعندما تضيق دائرة الحوار بين أعضاء الحزب والمناصرين له، أو يتحول، لاعتبارات كثيرة، إلى مجاملة وإرضاء الأمزجة والرغبات، أو حين يغدو نوعا من المحاباة والتملق، تجِف منابعُ الحياة في السياسة، ويتحول الحزب إلى جسم شبه ميت، لذلك، يستلزم الحوار المُعزز لروح العقلانية في السياسة ثقافة قوامُها الاعتراف المتبادل، والتناظر على قاعدة المحاجة والإقناع، وإفساح مساحة معقولة للنقاش الحر والمسؤول.

علاوة على الحوار، تعد الشفافية قيمة لا مندوحة عنها لجعل الحيوية منبثة في جسم السياسة، فبواسطتها تتعاظم ثقة الناس في المؤسسة الحزبية، ويزداد منسوبُ الولاء إلى أجهزتها. ثم إن من حسنات الشفافية في السياسة تقريب واقع الحزب إلى أعضائه ومناصريه، وحفزِهم على الاجتهاد من أجل تطوير أدائه. وتعتبر المحاسبةُ قيمة لا تقل أهمية عن الحوار والشفافية من زاوية ضمان السياسة حية في الجسم الحزبي، فبواسطتها تتأتى المساءلة عن صنع القرار الحزبي وتقييم نتائجه.. إنها إجمالا القيم الفاصلة بين موت السياسة واستمرارها حية.

فإذا نحن انتقلنا من الإطار النظري العام إلى عينة محددة، والحالة هنا التجربة المغربية، نلاحظ أن ثمة علاقة تلازمية بين مدى حضور القيم أعلاه ومآلات السياسة، والسياسة الحزبية على وجه التحديد. فمن اللافت للانتباه أن الحياة الحزبية في المغرب قديمة نسبيا مقارنة مع بعض الدول العربية، حيث تعود بدايتها إلى ثلاثينيات القرن الماضي، حين أُسست "كتلة العمل الوطني العام 1934، لتنشق سنة 1937 ويخرج من رحمها حزبان، هما: الحزب الوطني، والجبهة القومية قبل أن تتحول إلى "حزب الشورى والاستقلال"، إلى جانب الحزب الشيوعي الذي سيولد لا حقا بإيعاز من الحزب الشيوعي الفرنسي.

ومنذئذ بدأت تتشكل خريطة التعددية الحزبية، لتستقر دستوريا مع صدور أول وثيقة العام 1962، ويُحظَر نظام الحزب الواحد، لكن يتعايش في المغرب اليوم (2025) أكثر من ثلاثين حزبا، يشارك أكثر من نصفها في البرلمان.. فهل كان منطقيا أن تأخذ التعددية الحزبية هذا المسار؟ أم أن الطبيعي، الذي لم يحصل، هو أن تنحو التعددية منحى التقاطب "Bipolarisation"، وتكوين التحالفات الحزبية الكبرى، كي نتجنب ظاهرةَ الانشقاقات الحزبية غير المؤسسة على الاعتبارات الموضوعية؟ السياسة في المغرب تضررت كثيرا بسمة الانقسام والتذررِ التي طبعت التجربة الحزبية، وحكمت سلوك الفاعلين الحزبيين، وجعلت نزعة الريبة والتشكيك تتسرب إلى وعي الناس وثقتهم في الفعل الحزبيوالحال أن السياسة في المغرب تضررت كثيرا بسمة الانقسام والتذررِ التي طبعت التجربة الحزبية، وحكمت سلوك الفاعلين الحزبيين، وجعلت نزعة الريبة والتشكيك تتسرب إلى وعي الناس وثقتهم في الفعل الحزبي.

ومن مفارقات الحياة الحزبية في المغرب، أن فرضية تدخل الدولة والسلطة في تشجيع الانقسام وتفريخ الأحزاب، التي ظلت مصدرا لتفسير تكاثر الأحزاب ما بين 1956 و1999، لم تصمد كثيرا، حيث لا حظنا أن ما بعد هذا التاريخ (1999)، وبعدما رفعت الدولة يدها عن تأييد الانشقاقات الحزبية، وُلد أكثر من نصف عدد الأحزاب الحالية، أي أكثر من عشرين حزبا جديدا، ما يعني أنه بجانب مسؤولية الدولة، هناك محددات أخرى جديرة بالتحليل لتفسير هذا المنحى المرَضي في السياسية، والسياسة الحزبية في المغرب على وجه التحديد.. إنها، في تقديرنا، المحددات ذات الصلة بالحضور الضعيف والمحدود لقيم الحوار والشفافية والمحاسبة في ممارسة الأحزاب في حياتها الداخلية.

 لذلك، ما انفكت السياسة، باعتبارها مدرسة للتعاطي مع الشأن العام، تتراجع كقيمة في وعي الناس ومدركات الجماعة، وشرع المواطنون في البحث عن صيغ بديلة للتعبير عن تطلعاتهم، إما بالانخراط في العمل الاجتماعي القاعدي (مؤسسات المجتمع المدني)، أو الاستنكاف أصلا عن التفاعل مع كل ما يعبر عن السياسة ويرمز إليها، وفي مقدمة ذلك اللحظات الانتخابية.

لذلك، ومن أجل درء استحكام الموت في جسم السياسة، هناك حاجة قصوى إلى إعادة الاعتبار إلى السياسة، بحسبها ضرورة نبيلة، وأولوية مجتمعية لا مندوحة عنها، لأن في موت السياسة، تموت الكثير من المعاني، وعلى رأسها معنى الانتساب إلى الجماعة السياسية العاقِلة.

مقالات مشابهة

  • رامي المتولي يكتب: الإسكندرية للفيلم القصير 11.. منصة للمواهب ونشاط متواصل وضعف الدعم الرسمي
  • غرفة الصناعات النسيجية تبحث تحديات التراخيص ورسوم الصيانة وفواتير المياه وأسعار الغاز
  • قرار عاجل من النيابة بإخلاء سبيل رجل الأعمال المتهم بحيازة تماثيل مقلدة بالغربية
  • تماثيل فرعونية مزيفة تطيح بعصابة نصب في القاهرة
  • تماثيل مضروبة.. سقوط عصابة آثار مزيفة في القاهرة
  • المكاسب التي سيحققها العراق من عقد القمة العربية في بغداد
  • إسدال الستار على الحالة الجوية التي اجتاحت العراق والطقس يعود لطبيعته
  • بين ممارسة السياسة وممارسة الحياة
  • عن الحديث المتجدد لموت السياسة
  • علامات تحدث في السيارة عند استخدام البنزين المغشوش.. الأضرار وطرق الصيانة