تروج للشذوذ.. إجماع فلسطيني على رفض وثيقة لأونروا
تاريخ النشر: 17th, September 2023 GMT
غزة- جوبهت "مدونة قواعد السلوك" الصادرة عن "مكتب الأخلاقيات" في وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) برفض فلسطيني واسع من هيئات رسمية وقوى سياسية ومكونات أهلية تمثل الموظفين واللاجئين، لما تضمنته من بنود تشجع على الشذوذ (المثلية الجنسية).
ويقول أحد بنود المدونة "تنظر الأونروا إلى المساواة بين الجنسين وفقا لآراء الأمم المتحدة، ونتيجة لذلك تتصف المساواة بشمول الزملاء (موظفو أونروا) والمستفيدين (جموع اللاجئين من متلقي الخدمات) من الشواذ والسحقيات وما يسمى "مزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسية الأخرى"، وفي حال تعارض ذلك مع الأعراف الثقافية المحلية يجب أن تسترشد سلوكياتنا بمعايير السلوك للخدمة المدنية الدولية وغيرها من الأنظمة والقواعد التابعة للأمم المتحدة".
وعممت أونروا هذه المدونة على مديري برامج في قطاعات التعليم والصحة والقطاعات الخدمية الأخرى، واستباقا لتعميمها على نطاق أوسع شنت هيئات وقوى فلسطينية "هجوما حادا" على أونروا، ونددت "اللجنة المشتركة لاتحادات الموظفين في الضفة الغربية وقطاع غزة ورئاسة غزة" في بيان بتوزيع هذه المدونة المؤلفة من 69 صفحة رغم التحذير المسبق كونها "تتنافى تماما مع الفطرة السليمة للبشرية جمعاء".
ورفضت اللجنة المشتركة -التي تضم "اتحاد الموظفين المحليين- مكتب غزة الإقليمي" و"اتحاد العاملين العرب في وكالة الغوث بالضفة الغربية" و"اتحاد رئاسة غزة"- بشكل قاطع "نشر ثقافة الشذوذ الجنسي وترسيخها في مجتمعنا الفلسطيني وتزيينها كقيمة للمساواة"، ودعت "جميع الزملاء والزميلات من مديري الدوائر ورؤساء الأقسام والبرامج لإعادة هذه الإصدارات إلى مصدرها وعدم التعاطي معها، والالتزام بتعليمات الاتحاد".
"أونروا" تنتهك عادات وتقاليد الشعب الفلسطيني pic.twitter.com/pRjygQqUSj
— ملك شريف المصري ????????. (@malakalmsry32) September 15, 2023
حريات جنسية وقيود سياسيةوقال معلم في مدرسة تابعة لأونروا في مخيم للاجئين للجزيرة نت إنه "ملتزم بتعليمات اتحاد الموظفين، وفي حال وصولها إلى المدارس فلن أوقع على الالتزام بهذه المدونة التي تتنافى والقيم الدينية ومنظومة القيم المجتمعية".
وبحسب المعلم (فضل عدم الكشف عن هويته خشية تعرضه للعقاب الوظيفي)، فإن "من عادة أونروا أن تصدر مثل هذه النشرات وتتذرع بأنها "للاسترشاد" وليست ملزمة للموظفين بالتوقيع عليها في حال تعرضت للضغوط، لكن في الواقع فإنها تمارس ضغوطا شديدة وتفرض قيودا على الموظفين، أبرزها ما يتعلق بالحريات السياسية والتعبير عن الرأي".
من جهته، قال رئيس "برنامج التعليم" في أونروا فريد أبو عاذرة للجزيرة نت إن المدونة أُرسلت عبر البريد الإلكتروني للبرامج والمؤسسات المختلفة التابعة لأونروا، وإنها "ليست خاصة بالتعليم فقط".
وبحسب أبو عاذرة، فإنه لم يقرأها ولم يطلع بعد على تفاصيل ما تضمنته من بنود وسلوكيات، وقال إن "المدونة لا تقتصر على غزة، وإنما مناطق العمليات الخمس التابعة للوكالة".
وأُسست أونروا كوكالة تابعة للأمم المتحدة بقرار من الجمعية العامة في العام 1949، وتم تفويضها بتقديم المساعدة والحماية للاجئين الفلسطينيين المسجلين لديها في مناطق عملياتها الخمس -وهي الضفة الغربية (تشمل القدس الشرقية) وغزة والأردن ولبنان وسوريا- إلى حين حل قضيتهم.
قيام اونروا في قطاع #غزة بتوزيع نشرات على المدارس تطالب بالحفاظ على مجتمعات المثليين أمر مرفوض ويتنافى مع أخلاقيات شعبنا المحافظ ويجب فتح تحقيق سريع يوضح المسؤول عن توزيع هذه النشرة. pic.twitter.com/3hxbZEk8xv
— dareen???????????????? (@dareen3232) September 15, 2023
سابقة خطيرةبدورها، وصفت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هذه المدونة بأنها سابقة خطيرة، وتدعو مدرسينا وتلاميذنا إلى "الشذوذ والانحراف الأخلاقي".
وقالت الحركة في بيان إن أونروا "أُنشئت لرعاية وغوث اللاجئين الفلسطينيين لحين عودتهم إلى ديارهم، وليس لفرض قيم مجتمعات أخرى أو تلويث عقول تلاميذنا بقيم فاسدة".
وقال رئيس الدائرة السياسية والعلاقات الخارجية في حماس باسم نعيم إنها "ليست المرة الأولى التي تعمل فيها أونروا على تمرير أفكار أو مواقف تتنافى مع قيمنا الدينية ومنظومة عاداتنا وتقاليدنا الفلسطينية".
وفي حديثه للجزيرة نت كشف نعيم عن إجراءات بالإيقاف عن العمل اتخذتها أونروا في السابق ضد مديرين وموظفين لمجرد تساؤلهم عن كيفية تمرير مثل هذه الأفكار والسلوكيات الغريبة، مضيفا "حماس تراجع أونروا منذ فترة طويلة في مثل هذه المدونات التي تتضمن بنودا تروج للشذوذ وتقيد حرية الرأي والتعبير".
وحماس -وفقا لتأكيد نعيم- لن تسمح بتمرير مثل هذه "المدونة الشاذة عن قيمنا الدينية وعاداتنا الوطنية والمجتمعية، وهي تستمد قوتها في ذلك من "الموقف الفلسطيني الجامع والرافض لها سياسيا واجتماعيا ودينيا".
وشدد المسؤول في حماس على أن "أونروا ملزمة بالعمل وفق قوانين الدول المضيفة، ولا يمكن أن يستقيم عملها من دون التعاون مع الحكومة القائمة في غزة، ولو اضطر الأمر وتمسكت أونروا بهذه المدونة فسيكون هناك موقف بوسائل الضغط الشعبية والقانونية لمنع تمريرها".
كما صدرت عن المجلس التشريعي وقوى سياسية ومنظمات حقوقية بيانات رافضة ومنددة، وطالبت دائرة شؤون اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية ولجانها الشعبية في المخيمات الوكالة الأممية بسحب المدونة.
ورفضت الدائرة "بشكل قاطع إدراج لغة تشير إلى الميول الجنسية والهوية الجندرية في مدونة قواعد السلوك لموظفي أونروا، وأن الادعاء بوجودها بين الموظفين واللاجئين هو محض افتراء وتجنٍ على الموظفين واللاجئين معا".
وتساءلت دائرة شؤون اللاجئين "كيف تجرؤ إدارة أونروا على إدراج مبادئ وقواعد ما زالت نقطة خلاف بين الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتجبر موظفيها على قبولها والتوقيع عليها وإلزامهم بتبني ثقافات تتعارض مع قيمهم؟ أليس هذا انتهاكا وتعديا على حقوق الموظفين؟!".
ورأت أن بنود "قبول الموظفين بالهوية الجندرية أو الالتزام بالحيادية التي تجردهم من هويتهم الوطنية وعدم معاداة السامية وتعديل المنهاج التعليمي" هي شروط تضعها بعض الدول المانحة على أونروا، وباتت "سيفا مسلطا على رقاب اللاجئين وأونروا معا".
مدونة سلوك أم مدونة شذوذ يا #أونروا..!!
????وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين #الأونروا تعلن في مدونة سلوك لها عن فتح الباب أمام تداول الأفكار الشاذة التي تروج للشواذ جنسيا "المثليين ومزدوجي الميل الجنسي" وغيرها من المسميات الشاذة
????إنها حرب ضد القيم الإنسانية والأخلاق والدين.. pic.twitter.com/ANXCXOp1xu
— محسن الإفرنجي Mohsen Alafranji (@MohsenAlafranj) September 15, 2023
مجابهة الضغوطبدوره، هاجم منسق اللجنة المشتركة للاجئين محمود خلف أونروا، وقال إنها "بهذه المدونة تتنكر للقيم الدينية والمجتمعية للشعب الفلسطيني وتتعامل معه وكأنه يعيش في وسط أوروبا وليس في منطقة ذات ثقافة عربية إسلامية راسخة".
وفي حديثه للجزيرة نت، شدد خلف على أن اللجنة المشتركة للاجئين (ممثلة من القوى والفصائل ومكونات ممثلة للاجئين) ستقف سندا للموظفين إذا ما تعرضوا لأي ضغوط من أونروا لإجبارهم على توقيع هذه المدونة والالتزام بها وتعميمها على مجتمع اللاجئين المستفيد من خدمات الوكالة الأممية.
من جهته، وصف رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني المحامي صلاح عبد العاطي ما تضمنته المدونة بأنه "بنود مشبوهة وغير مقبولة دينيا وأخلاقيا"، وقال "إن منظومة حقوق الإنسان العالمية تضمنت مبادئ سامية متفقا عليها دوليا لا يدرج فيها ما يعتبر على نقيض الخصوصيات الثقافية للشعوب ولا يعتبر محل إجماع دولي".
وفي حديثه للجزيرة نت، ينظر عبد العاطي إلى هذه المدونة على أنها "محاولة خبيثة لزج المجتمع الفلسطيني في مسألة تتنافى مع قيمه ومعاييره المستقرة"، مطالبا أونروا بسحبها والاعتذار العلني عنها.
وتعتمد أونروا على مساعدات طوعية تقدمها الدول المانحة لتقديم خدمات للاجئين الفلسطينيين في مجالات التعليم والرعاية الصحية والإغاثة والخدمات الاجتماعية والحماية والبنية التحتية للمخيمات وتحسينها والتمويل الصغير والمساعدات الطارئة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: للاجئین الفلسطینیین اللجنة المشترکة للجزیرة نت مثل هذه
إقرأ أيضاً:
الأونروا في تركيا: تحرك دبلوماسي لمحاولة إعادة التوازن لقضية اللاجئين
في زمنٍ تتكاثر فيه الضغوط لتجريد وكالة الأونروا من شرعيتها، وتتصاعد محاولات شطب قضية اللاجئين الفلسطينيين من الذاكرة الدولية، لا يمكن النظر إلى استضافة تركيا لمكتب جديد للوكالة في أنقرة كمجرد خبر دبلوماسي عابر. إن تسليط الضوء على هذه المبادرة ليس تعبيرا عن مديح مجاني، بل انطلاقا من وعي عميق بدلالاتها الاستراتيجية في لحظة حرجة. فهي خطوة تتجاوز الإطار الإداري، وتعكس إرادة سياسية وسيادية بالوقوف إلى جانب قضية اللاجئين، في وقت ينكفئ فيه كثيرون ويتوارى فيه الدعم تحت ضغط الابتزاز المالي والسياسي.
في هذا المقال، نحاول قراءة أبعاد هذه الخطوة من زوايا متعددة: كيف ولماذا جاءت؟ ماذا تعني في ميزان الصراع على حق العودة؟ وما الذي يمكن البناء عليه إقليميا ودوليا انطلاقا من "مكتب أنقرة"؟
أولا: مضمون الاتفاق ودلالاته
في 21 حزيران/ يونيو 2025، وخلال اجتماع وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان توقيع اتفاق رسمي بين الحكومة التركية ووكالة الأونروا لافتتاح مكتب للوكالة في العاصمة أنقرة. ويتيح هذا الاتفاق تعزيز التعاون المؤسسي بين الطرفين، وتنويع مصادر الدعم السياسي والمالي للأونروا في ظل ما تتعرض له من ضغوط متصاعدة.
وفي كلمته خلال الاجتماع، شدد أردوغان على أن "إسرائيل تسعى إلى شلّ عمل الأونروا، ويجب ألا نسمح لها بذلك"، مؤكدا أن الوكالة تؤدي دورا لا يمكن الاستغناء عنه في رعاية اللاجئين الفلسطينيين. ودعا الدول الأعضاء في المنظمة إلى تقديم الدعم المالي والمعنوي الكافي لإفشال ما وصفها بـ"ألاعيب إسرائيل".
هذا الموقف التركي لا يعبّر فقط عن تضامن إنساني، بل يأتي في سياق سياسي أوسع، يعيد التأكيد على مكانة الأونروا كأحد الرموز الدولية الباقية في ملف اللاجئين، ويدق ناقوس الخطر إزاء محاولات تهميش هذا الملف في ظل صمت دولي وتواطؤ متزايد داخل بعض المنابر الغربية.
ثانيا: في لحظة سياسية خطيرة
تأتي المبادرة التركية في توقيت دقيق يشهد تحولات تهدد وجود الأونروا ومصير اللاجئين الفلسطينيين. فقد أقدمت إسرائيل أواخر 2023 على حظر عمل الوكالة في القدس الشرقية والمناطق التي تسيطر عليها، موجهة اتهامات بأنها توظّف عناصر من حماس وتدعم "الإرهاب"، ما دفع أكثر من عشر دول غربية -وعلى رأسها الولايات المتحدة- إلى تعليق تمويلها، ما أحدث أزمة مالية غير مسبوقة للأونروا.
في أوروبا والولايات المتحدة، تصاعد الهجوم السياسي والإعلامي ضد الوكالة، وسط دعوات لتفكيكها أو دمجها في وكالات أممية أخرى، ضمن مساعٍ لإلغاء البعد السياسي لقضية اللاجئين. هذا الضغط تغذيه تيارات يمينية تعتبر الأونروا أداة "تحريض وتطرّف".
في الوقت ذاته، تتفاقم الأزمة الإنسانية، فالحرب على غزة تسببت في تدمير واسع وتهجير جماعي، فيما تستمر سياسات الاقتلاع في الضفة، وتبقى أوضاع اللاجئين في لبنان وسوريا بائسة وسط انهيار الخدمات الأساسية. وقد حذرت منظمات أممية من أن انهيار الأونروا سيؤدي إلى اضطرابات تهدد استقرار دول بأكملها.
في هذا السياق، تمثل المبادرة التركية خطوة استراتيجية لتثبيت شرعية الأونروا ومنع انهيارها، ورسالة واضحة بأن دعم حقوق اللاجئين لا يزال واجبا دوليا لا يسقط بصمت المانحين.
ثالثا: تركيا كفاعل سياسي وإنساني
لتركيا سجل طويل في دعم القضية الفلسطينية، لكن استضافتها لمكتب الأونروا يحمل دلالات جديدة، أبرزها:
•دعم رسمي منظم: الانتقال من المواقف الخطابية إلى شراكة مؤسساتية واضحة مع الأونروا، يعكس التزاما طويل الأمد واستعدادا لتوفير التسهيلات اللوجستية والمساندة الميدانية، مما يمنح الدعم التركي طابعا أكثر استقرارا وفعالية.
•تأكيد السيادة في وجه الضغوط: الخطوة تعكس قرارا سياديا في مواجهة التحفظات الغربية على الأونروا، وتدل على استعداد تركيا لاتخاذ مواقف مستقلة عندما يتعلّق الأمر بالقضايا الإنسانية العادلة، رغم محاولات فرض الوصاية على الدول الداعمة.
•محاولة لتشكيل تحالف أوسع: تسعى أنقرة إلى حشد دعم دولي وإسلامي يعيد الاعتبار لقضية اللاجئين وحق العودة، بعيدا عن الأجندات الغربية الضيقة، كما تمنحها هذه الخطوة تأثيرا إضافيا داخل الأمم المتحدة في أي نقاش مستقبلي حول إصلاح أو حماية الأونروا من الانهيار.
رابعا: المعركة على حق العودة
إن استهداف الأونروا ليس مجرد مسألة تقنية تتعلق بكفاءة الوكالة أو نزاهتها المالية؛ بل هو في جوهره جزء لا يتجزأ من محاولة تصفية حق العودة للاجئين الفلسطينيين. فمن المعلوم أن وجود الأونروا وتسجيل اللاجئين الفلسطينيين فيها يشكّل اعترافا دوليا ضمنيا بأن قضيتهم ما زالت قائمة ولم تُحل بعد. طالما بقيت الأونروا تعمل وتقدم خدماتها لملايين اللاجئين، فهذا يعني بقاء صفة اللاجئ الفلسطيني حية ومعترف بها دوليا، وبالتالي بقاء المطالبة بحل عادل على أساس قرار الأمم المتحدة 194.
لهذا السبب بالتحديد، سعت إسرائيل وحلفاؤها مرارا إلى إلغاء الوكالة أو تفريغها من مضمونها السياسي. فبعد حرب 2023 على غزة، صعّدت إسرائيل حملتها ضد الأونروا وصولا إلى سنّ قوانين لإخراجها من القدس وقطع العلاقات معها. الهدف الحقيقي خلف هذه التحركات كان سياسيا بامتياز، إذ تسعى إسرائيل إلى إغلاق الأونروا نهائيا تمهيدا لإغلاق ملف اللاجئين ككل وإلغاء حق العودة. ضمن رؤية صقور الحكومة الإسرائيلية، إنهاء وجود الوكالة سيمهّد عمليا لشطب قضية اللاجئين من أي مفاوضات مستقبلية وفرض الأمر الواقع بقبول التهجير كحل دائم.
وقد عبّر خبراء ومحللون إسرائيليون عن هذه النوايا بشكل صريح، فهناك من دعا علنا إلى "إزالة صفة اللاجئ عن الفلسطينيين عبر حلّ الأونروا ودمجهم في الدول المضيفة" كطريقة لإنهاء فكرة حق العودة بشكل نهائي. بل ذهب أحد الصحفيين الإسرائيليين إلى أبعد من ذلك بوصفه الأونروا بأنها "وحش يدعم الإرهاب"، وأن استمرارها جعل "اللاجئين مجرد أحفاد لا صلة لهم بالنكبة الأصلية" على حد زعمه، في محاولة لتبرير ضرورة التخلص منها. هكذا تتضح الصورة: المستهدف الحقيقي من شيطنة الأونروا وتجفيف مواردها هو الذاكرة السياسية والقانونية للجوء الفلسطيني، لأن طمس هذه الذاكرة يمهّد لإسقاط حق العودة وإعادة تعريف القضية الفلسطينية وفق الرؤية الإسرائيلية وحدها.
من هنا تنبع أهمية الخطوة التركية التي يمكن اعتبارها حصنا أمام هذا المخطط. فمجرد فتح مكتب للأونروا في أنقرة واحتضان دولة بحجم تركيا لها يعني إحياء الزخم الدولي حول قضية اللاجئين وحق العودة، إنه بمثابة تأكيد أن محاولة شطب حق العودة عبر إنهاء الأونروا ستواجه مقاومة دولية، وأن هناك أطرافا مستعدة لاتخاذ خطوات ملموسة للحفاظ على هذا الحق وإبقائه حيا في المؤسسات والمحافل الدولية.
خامسا: مكتب أنقرة بين تثبيت الشرعية وتوسيع الدور الدولي للأونروا
رغم أن افتتاح مكتب للأونروا في أنقرة لا يُغيّر ميزان القوى بشكل مباشر، إلا أنه يحمل قيمة استراتيجية على المدى البعيد، تجمع بين الرمزية والدور العملي. فهذه الخطوة قد تتحول إلى نقطة ارتكاز لتحالف دولي جديد يواجه محاولات تصفية القضية الفلسطينية، ويعزز الحضور الدولي للأونروا في لحظة تتعرض فيها لضغوط غير مسبوقة.
أولا، يتيح وجود المكتب منصة تنسيق فعالة عبر منظمة التعاون الإسلامي، تسهّل فتح قنوات تواصل مباشرة بين الأونروا والدول الإسلامية. ومن خلال التعاون مع الخارجية التركية، يمكن تنظيم اجتماعات دورية وطارئة، والتوافق على مواقف جماعية داعمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة أو أمام الدول المانحة. وقد ظهرت أولى بوادر هذا التوجه في اجتماع إسطنبول الأخير، الذي دعا فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ومعه المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني، إلى تحرك سياسي ومالي عاجل لإنقاذ الوكالة.
ثانيا، يمثّل المكتب الجديد بوابة لتنويع مصادر تمويل الأونروا، من خلال جذب مساهمات القطاعين الخاص والخيري في تركيا والمنطقة. فالمجتمع التركي يمتلك بنية اقتصادية نشطة، ومؤسسات إنسانية واسعة مثل "آفاد" و"الهلال الأحمر" و"تيكا"؛ سبق أن ساهمت في تمويل مشاريع إغاثية وتنموية في غزة ومناطق اللاجئين. ومن شأن تحويل العلاقة إلى شراكة رسمية أن يعزز هذه المبادرات، ويشجّع رجال الأعمال والمؤسسات الوقفية على المساهمة بشكل منتظم.
ثالثا، يمكن لهذا المكتب أن يسهم في ربط المساعدات الإنسانية بالتنمية المستدامة، عبر مشاريع طويلة الأجل لتحسين أوضاع اللاجئين، مثل بناء المدارس والمراكز الصحية، أو تطوير البنية التحتية في المخيمات، بما يخفف من اعتماد اللاجئين على التمويل الغربي المتقلب، ويعزّز صمودهم المجتمعي.
وأخيرا، يُمكن للمكتب أن يتحول إلى منصة دبلوماسية وإعلامية قادرة على تصحيح السردية المغلوطة التي تروّج لها إسرائيل والتيارات اليمينية في الغرب ضد الأونروا. فبدلا من ترك المجال لروايات التشويه، يمكن من أنقرة التي تربط الشرق بالغرب- إطلاق خطاب متوازن يُبرز الدور الإنساني المحوري للوكالة، ويسهم في تثبيت شرعيتها أمام الرأي العام العالمي.
سادسا: رهانات أنقرة في حماية الأونروا وإحياء سردية اللاجئين
لا تكمن أهمية افتتاح مكتب للأونروا في أنقرة بما تحقق فعليا، بل فيما يمكن أن يُبنى عليه من تحركات استراتيجية. تراهن تركيا على أن تُشكّل هذه الخطوة منصة لحشد دعم دولي متنوع، عبر تفعيل الشراكات مع دول إسلامية وآسيوية وأفريقية وأمريكية لاتينية، بما يُقلّل من اعتماد الأونروا على التمويل الغربي، ويوفر لها شبكة أمان سياسية ومالية في وجه الابتزاز المتكرر.
الرهان الثاني يتمثّل في منح الوكالة غطاء دبلوماسيا يقيها محاولات فرض شروط تمسّ بتفويضها الأممي. فمع وجود دعم علني من تركيا ومنظمة التعاون الإسلامي، تصبح الأونروا أكثر قدرة على الدفاع عن استقلاليتها في الميدان وفي المحافل الدولية.
أما الرهان الأبعد مدى، فيتعلّق بإحياء سردية اللاجئين الفلسطينيين بصفتهم أصحاب حق، لا مجرّد مستفيدين من مساعدات. وتدرك أنقرة أن حماية الأونروا لا تكتمل من دون مواجهة الروايات التي تُفرغ قضية اللاجئين من بعدها السياسي والقانوني، ولهذا قد تُسهم هذه الخطوة في إعادة توجيه النقاش الدولي نحو جوهر المسألة: حق العودة، لا مجرد الإغاثة المؤقتة.
وفي مجمل الصورة، لا يُعد افتتاح المكتب خطوة إدارية بحتة، بل موقفا سياديا في لحظة حصار سياسي ومالي. لقد اختارت تركيا أن تعلن، عبر هذا التحرك، أن دعم اللاجئين الفلسطينيين واجب أخلاقي لا يُطوى، وأن تفكيك الأونروا لن يمر دون مقاومة. فالمكتب، وإن بدا صغيرا في حجمه، يحمل رمزية كبيرة في زمن التخلي، ويؤكد أن العالم -رغم كل الانهيارات- لم يُغلق بعد آخر أبواب العدالة.